الراوي وهرمان الغضوب

قصتان لهكتور هيو مونرو (ساكي)*

ترجمة «الراوي»: إسلام عشري

ترجمة «هرمان الغضوب»: محمد صفوت وشروق تركي

* هكتور هيو مونرو: عُرِف باسمه المستعار «ساكي». واشتهر بنقده للمجتمع الإنجليزي وأعرافه، كما طال نقدهُ السياسة الإنجليزية، وذلك في قالبٍ قصصي قد يجده البعضُ خفيفَ الظل. عمل مراسلًا صحفيًّا، وشهد وغطى الكثيرَ من الأحداث المهمة، أبرزها ثورة 1905 الروسية. وُلِدَ في بورما في ديسمبر من عام 1870، لأم إنجليزية توفيتْ عند بلوغه العامين، فتربى في كنف جدته لأمه. أَصرَّ على أن يُرسَل مجندًا للمشاركة في الحرب العالمية الأولى على الجبهة الفرنسية، حيث قُتِل برصاص القنَّاصة الألمان في سن الثالثة والأربعين.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجمون بحقهم في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهم دون إذن منه.


الراوي

كان يومًا حارًا؛ تصاعدت فيه ذروة الحرارة بعد الظهيرة داخل عربة قطار يَقصد تمبِل كومب ببريطانيا، والتي تبعد قرابة الساعة وصولًا. وبداخل إحدى عرباته تواجدت فتاةٌ صغيرة وفتاةٌ تصغرها سنًا وولدٌ آخر صغير. اتخذتْ خالتهم لنفسها مقعدًا في جانب العربة، وفي الركن المقابل لها كان يوجد رجل أعزب لا يعرفونه. كانت الفتاتان والولد الصغير في كل أنحاء العربة كأنهم يمتلكونها، وظلت الخالة العاجزة عن السيطرة عليهم تقول لهم: «لا تفعلوا كذا وكذا»، بينما يرد عليها الأطفال: «لماذا؟»، في حين كان الأعزب لا يقول شيئًا.

«سيريل، لا. يا ولد!» قالت للولد حينما بدأ يضرب وسائد المقعد مُحدِثًا سُحُبًا من التراب المتطاير منها. «تعال إلىَّ هنا، وانظر من النافذة». على مضضٍ، جَرَّ الولد نفسه إلى النافذة وسألها بغتة: «لماذا تقُتَاد تلك الخراف إلى خارج الحقل؟»

«أعتقد أنهم يأخذونها إلى مراعٍ أخرى أغزر خُضرة».

أردف معترضًا:

«ولكن يوجد فعلًا الكثيرُ من العشب في ذلك الحقل!»

وأكمل: «لا يوجد هنا سوى العشب يا خالتي، ولا شيء غيره في هذا الحقل!»

قالت بسذاجة:«ربما الحشائش في الحقول الأخرى أفضل».

جاء سؤاله بديهيًّا: «ولماذا ذاك العشب أفضل؟»

حينئذ هتفت الخالة: «آه، انظروا إلى تلك الأبقار!» 

  تقريبًا لم يخلُ حقلٌ من تواجد عدد من الأبقار والثيران، ولكنها قالت ذلك كما لو كان حدثًا غير اعتيادي.

«لماذا الحشائش في الحقول الأخرى أفضل؟»

داوم سيريل سؤالها. وكان العبوس على وجه الأعزب قد تعمَّق به وصولًا للتجهُّم. حينما رأته الخالة على حالته هذه، حدثتْ نفسها بأنه حتمًا رجل لئيم وغير ودود، وأنه لربما يضحك الآن لأنها لم تجد تفسيرًا مجديًا لسؤال الولد بشأن الحشائش في الحقل. في حين ارتأت الفتاةُ الصغرى تسليةَ نفسها وتسلية الجميع بالبدء في سرد قصيدة تحفَظها. كانت تحفظ البيتَ الأول فقط، ولكنها استخدمته أكثر مما ينبغي. ظلت تردد البيت مرارًا وتكرارًا، بصوتٍ حالم تفتقر نبرتُه إلى الهدوء. اعتقد الأعزب أن أحدهم قد راهنها، قبل صعودها القطار، على أنها لن تقدر على ترديد البيت نفسه ألفي مرة متوالية دون توقف. لسوء حظ مُراهِنها، والأعزب، بدا أنها توشك على الفوز بالرهان.

قالت الخالة: «تعالي هنا، وانصتي إلى قصة». حينئذ حدجها الأعزب بنظره، وبدا كما لو كان سيُجِدُ في طلب مُحصِّل التذاكر. اتجه الصِبْيةُ ناحية خالتهم بلا حماس. لم يخالجهم الظن أن خالتهم قد تكون راوية قصص جيدة. بصوتٍ هادئ لم يقطعه غير ضجيج أسئلة الأطفال، بدأت الخالةُ قصةً غير مثيرة للاهتمام بالمرة، تدور حول طفلة صغيرة طيبة المَعْشر، لكونها طيبة كونت صداقات عِدة، وفى الأخيرة أُنْقِذَتْ من حوافر ثورٍ هائج بواسطة الأشخاص الذين أُعجِبوا بكونها طيبة المَعْشر.

سألت الأخت الكبرى من الفتاتين الصغيرتين: «هل كانوا سينقذونها أيضًا، لو لم تكُن طيبة؟». كان السؤال نفسه دائرًا في خلد الأعزب، وأراد أن يسأله.

أجابت الخالة: «بالتأكيد، نعم».

واستطردت لائمة: «ولكني لا أعتقد أنهم كانوا سيهرعون لإنقاذها بسرعة لو لم يكونوا يحبونها كثيرًا».

قالت الفتاة الكبرى بينهما: «إنها أغبى قصة سمعتها بحياتي»، وهي تتشدق بكل كلمة وتعطيها حقها.

وقال سيريل: «لم أعُد أنصتُ بعد الجزء الأول، لأنه كان سخيفًا جدًا». واكتفت الفتاة الأصغر بعدم التعليق، ولم يستغرقها الأمر طويلًا، حتى عادت تكرر البيتَ الأول من القصيدة مجددًا، للفوز بالرهان.

قال الأعزب فجأة: «يبدو أنك لستِ قاصةً بارعة».

على الفور اتخذت الخالة موقفًا عدائيًّا تجاه هذا الهجوم غير المتوقع منه، وقالت باقتضاب: «من الصعب سرد قصص مفهومة ومشوقة في الوقت نفسه!» 

رد بسرعة: «أختلف معك تمامًا».

«ربما تود أن تحكي لهم حكاية، أرنا شطارتك!» ألقت الخالة سؤالها نحوه.

فور ما قالت ذلك، قالت له الفتاة الكبرى: «احكِ لنا حكاية!»

بدأ العازب قصته قائلًا:

«في يوم من الأيام، كانت هناك فتاة صغيرة تُدعى بيرتا، وكانت فتاة طيبة للغاية». بدأ اهتمام الأطفال اللحظي يتلاشى. بدت لهم كل القصص سيَّان، بغض النظر عن قائلها، بدت كلها متشابهة كما هي.

«كانت تفعل دائمًا ما تُؤْمَر به. صادقة القول. تُبقي ثيابها مهندمة ونظيفة، وتتناول طعاما ذا فائدة لها وليست تلك الوجبات الجاهزة السريعة والحلوى. تحصد درجات جيدة في دراستها، وكانت مؤدبة تجاه الجميع».

قالت الصغرى ببراءة: «هل كانت جميلة؟»

أجاب مبتسمًا: «ليست بجَمَال أحدكم!» وأكمل: «ولكنها كانت شنيعة الطيبة».

أعجب الأطفال بهذا الجزء من القصة، فارتباط كلمة الشناعة مع الطيبة في جملة واحدة كان جديدًا على آذانهم، وأعجبوا بذلك. كانت تبدو قصة حقيقية وصادقة، على عكس قصص الخالة عن الأطفال.

أسهب الأعزب: «كانت جيدة جدًا، لدرجة أنهم أعطوها أوسمة عديدة لطيبتها الشديدة، وكانت ترتديها دائمًا بواسطة دبابيس تُثبَت بزيها. وسام لاتباع الأوامر، ووسام لعدم تخلُّفها عن المواعيد، والأخير للسلوك الجيد الرزين. كانت أوسمة كبيرة من الحديد، وكان يقرع بعضها بعضًا كلما سارت، فتحدث صلصلةً وضجيجًا بمَشيتها. كان لا يوجد في البلدة أحد غيرها؛ لديه ثلاث أوسمة على صدره مرة واحدة، لذلك عرف جميع مَن بالبلدة أنها بالغة الطيبة».

قال سيريل مصححًا: «شنيعة الطيبة». أكمل الراوي: «وكل البلدة تحدثت عن مدى طيبتها حتى ذاع صيتها وعلم بأمرها أمير البلاد، وقرر منحها نزهة كل أسبوع في حديقته الخاصة خارج البلدة. كانت حديقةً رائعةً بحق، وكانت سابقة أولى، وشرفًا عظيمًا تناله بيرتا، إذ لم يكن يُسْمَح بدخول الأطفال إليها من قبل».

تساءل سيريل: «هل كان ثمة خراف في هذه الحديقة؟»

«لا»، وأردف: «لم يكن يوجد البتَّة».

«ولماذا لم يكن يوجد؟» لم يكن ثمة مفر من هذا السؤال إذن، وارتسم ثغر الخالة بابتسامة، تشفِّيًا فيه.

«لم يوجد أيَّة خراف في تلك الحديقة، لأن والدة الأمير واتتها رؤية ذات ليلة بأن ابنها سيموت بواسطة شاه، أو ساعة حائط تنزل على رأسه فتشجها، لذلك لم يحتفظ الأمير بأيَّة خراف في مزرعة، أو ساعة حائط في قصره المهيب».

ابتلعتْ الخالةُ شهقةَ إعجاب بإجابة الأعزب على وجهها؛ لم لا، وهو قد تفادى هذا السؤال الصعب؟!

قال سيريل مستفهمًا: «هل مات الأمير بواسطة ساعة حائط أو شاه؟»

«لا نعرف بعد، فما زال حيًّا يُرزق، لذلك نحن لا نعرف صحة الحلم من عدمه!

على أي حال. لم تكن توجد أيَّة خراف في الحديقة. ولكن كانت هناك قطعان من الخنازير، تُعيثُ فسادًا في كل أنحاء الحديقة».

«ماذا كان لونها؟»

«البعض منها كان أسود له وجوه بيضاء، والبعض أبيض له رقط سوداء، والبعض مكتمل السواد، والبعض رمادي له رقع بيضاء، في حين تناثرت بعض من الخنازير البيضاء هنا وهناك».

توقف الراوي عن السرد هنيهة، تاركًا العنان لخيال الأطفال للتحرر وخلق كل هذه الأشياء معًا، ثم أكمل قائلًا: «كانت بيرتا مستاءة لأنها لم تجد زهورًا في الحديقة. بالدمع يسبقها، كانت قد وعدت خالاتها ألا تقطف زهرة واحدة من هناك. وحينما أرادت الوفاء بوعدها، وجدت نفسها –ويا للسخف- في حديقة بلا زهور من الأساس للقطف!»

«لماذا لم توجد بالحديقة أيّة أزهار؟»

قال بسرعة: «لأن الخنازير التهمتها، وكان بستانيُّون عدة للأمير قد تشاوروا معه بخصوص أنه لا يقدر على الاحتفاظ بكل مِن الزهور والخنازير معًا، فآثر الأميرُ الاحتفاظَ بالخنازير ونسيان شأن الزهور».

أزهرت وجوهُ الأولاد بهجةً لاختيار الأمير، حيث أن العديد من الناس كانوا سيختارون إن خُيِّروا- الزهورَ على الخنازير.

«كانت توجد في الحديقة أشياءٌ جميلة للرؤية، مريحة للعين، تَسر الناظرين: بحيرات بها أسماك ملونة ذهبية، وزرقاء، وخضراء، وهنالك أشجار سامقة بها ببغاوات متكلمة وطيور طنَّانة تترنم بألحان جميلة.

راحت بيرتا تذرع الحديقة جيئةً وذهابًا، محدثةً نفسها مزهوة بأنها إن لم تكن على ذلك القدر من الطيبة لما سمحوا لها بأن تطأ عشبَ الحديقة وتتمتع بها. وذكرتها جلجلةُ الأوسمة هي الأخرى بذلك، ولم تدرِ أن هناك ذئب كبير قد أتى الحديقة، متربصًا بخنزير صغير؛ يرى فيه عشاءه».

هتف الأطفال في نَفَسٍ واحد، وقد بدا اهتمامهم بالقصة جليًّا: «ماذا كان لون الذئب؟»

«كان الطين يغطيه كله، وكان له لسان أسود وعينان رماديتين كالحتين، يقدح منها الشرر.

رأى، أول ما رأى، بيرتا في الحديقة. لم يكن يومًا مناسبًا لارتداء فستانها الأبيض الناصع كالثلج، كان يمكن رؤيتها به من على بُعد ميل!

تلجمتْ بيرتا من الخوف عندما وجدت الذئبَ يقترب منها، وتمنت لو أنها لم تُدعَ إلى الحديقة من الأساس. جريت بأسرع ما استطاعت قدماها، والذئب في إثرها بوثبات وقفزات متتابعة. وأفلحت في أن تصل إلى أجمَّة، واختبأت خلفها. تشمَّم الذئبُ الأجمَّةَ التي تختبئ خلفها، وهي استرقت النظرَ عبر فتحةٍ فيها، فرأت لسانَه الأسود الفاحم بارزًا من فمه، وعينيه تلتمع بالغضب. اعترى بيرتا خوفٌ عظيم، ولعنت طيبتها التي ورطتها بهذا الرعب. وظنَّتْ أنها إن لم تكن بمثل هذه الطيبة، لكانت وقتها آمنة على حياتها في بلدتها!

كانت رائحة الآجام والأغصان من القوة، بحيث لم تسمح لرائحة الفتاة البضة أن تعبر إلى الذئب، أو حتى للذئب أن يرى بيرتا عبرها، فيأس الأخير وقرر أن يعاود صيد الخنازير عوضًا عنها.

كانت بيرتا خائفة للغاية من الذئب، وبدأت أعضاؤها تصطك من الخوف، مع أوسمتها للطيبة وتخشخش مع الأجمة. التفت الذئبُ من جديد حينما سمع ذلك، وأصغى السمعَ عبر الآجام، حينما خشخشت خوفًا مرة أخرى. اندفع عبر أجمتها بعينيه البرَّاقتين، وسحبَ جسدَ بيرتا خارجًا وأكلها كلها إلى آخر قطعة، ولم يُبقِ منها إلا حذاءها وقطعة من ثيابها، وعليها أوسمة الطيبة الثلاثة».

«هل قَتَل بعدها أي من الخنازير؟»

«لا، كلها هربت».

قالت الطفلة الأصغر بينهما: «بدأت القصة سيئة في البداية»، ثم أكملت: «وانتهت نهاية جميلة!»

وبسرعة قالت الطفلة الكبرى بمنتهى الجدية: «هذه أجمل قصة سمعتُها في حياتي!»

وقال سيريل: «هذه القصة الوحيدة التي أكملتُ سماعها لآخرها!»

وقالت الخالة معقبة: «لم تكن هذه القصة ملائمة للسرد على أطفال! لقد هدمتَ سنوات من التعليم القويم».

«على أي حال»، ردَّ الأعزب وهو يجمع أغراضه من العربة لكي يغادر القطار، «على الأقل استطعتُ أن أبقيهم ساكنين لمدة عشر دقائق، وهذا أفضل مما استطعتِ فعله».

وحدَّثَ نَفْسَه: «امرأة مسكينة»، وهو يعبر الرصيف الخاص بمحطة تمبل كومب. ولستة أشهر قادمة، سيترجَّى الأطفالُ الخالةَ على الملأ، أن تَقصَّ عليهم قصةً غير ملائمة.


هِرمان الغَضوب (قصة التبكاء العظيم)

تولي هرمان الغضوب، والذي يُلقَب بالحكيم، مقاليدَ العرش البريطاني في العقد الثاني من القرن العشرين. وقد آل إليه العرش بعد أن ذهب الوبالُ بالأسرة الحاكمة كلها، وانسحب على أفراد العائلة حتى الجيلين الثالث والرابع. وبذلك دال الحكم لهرمان الرابع عشر، سليل بيوت ساكس ودرايكن وفاتلشتاين. وكان ترتيبه الثلاثين في ولاية العرش البريطاني. ووجد نفسه حاكًما للمستعمرات البريطانية مما حجز البحر ومما تلاه. وسياسيًّا، لم يكن أمره في الحسبان، بل كان لعبة أحكمها القدر.

وبَزَّ سابقيه، من أرباب العروش المهيبة، بنزعته التقدُّمية، فما يكاد الناس يألفون حالًا، حتى يتبدل بهم إلى حالٍ جديدة. وحتى وزراءه؛ قد شقت عليهم مواكبةُ مقترحاته التشريعية، وقد كان العرف أن يجنح الوزراء للتجديد.

*

«في حقيقة الأمر، -يبين رئيس الوزراء- نحن منزعجون من طنين تلك الكائنات المنادية بأن ننعم على النساء بحق التصويت، فهم يخلّون بأعراف اجتماعاتنا. كأنهم يسعون لتحويل ساحة مجلس الوزراء إلى متنزه يتداولون فيه السياسة».

رد هرمان: «لا بُدَّ من التعامل مع هذا الشأن!»

فوافقه رئيس الوزراء وتساءل: «التعامل معه؛ بالضبط كما قلتم. ولكن، كيف؟»

قال الملك، وهو جالس قبالة آلته الكاتبة: «سأصوغ لك قانونًا يجعل لكل صاحبة صوت أن تدلي بصوتها. أو بعبارة أوضح، سنلزم كل امرأة بأن تدلي بصوتها. سيظل التصويت حقًا للرجال كما هو، وسيصير فرضًا على كل امرأة بين سن الحادية والعشرين، وسن السبعين، ولن يقتصر إلزامهن على انتخابات مجلسي النواب ومجالس المقاطعات ولجان الأحياء ومجالس الأبرشيات والبلديات، فهنالك انتخابات لاختيار قضاة الوفيات ومفتشي المدارس ونُظَّار الكنائس وأمناء المتاحف ومسؤولي الصحة ومترجمي المحاكم والشرطة ومدربي السباحة والمقاولين وقوَّاد الجوقات ورقباء الأسواق وأساتذة الفنون والآداب وشمَّاسي الكاتدرائيات، وسائر الموظفين المحليين الذين سأدرجهم بمجرد تذكرهم. هذه المناصب كلها ستصير بالانتخاب، وستُوقَع على كل من تتأخر عن التصويت غرامةً قدرها عشرة جنيهات، كما لن يُقْبَل التغيُّب دون عذر مقنع ومشفوع بشهادةٍ طبية. وعليكَ أن تمرِّرَ هذا المشروع لمجلسيْ النواب، وتعيده إليَّ بعد غدٍ، لأوقعه».

قوبل قرار فرض التصويت النسائي منذ البداية بفتور شديد، حتى في أشد الأوساط النسوية حماسًا. وتباينت مواقف التكتلات النسائية بين اللامبالاة والعدوانية. وأطرقت أعتى المطالبات بحق المرأة في التصويت يُعدن النظر؛ تُرَى ماذا أغرانا إلى هذا الحد في زج بطاقة تَصويتيَّة داخل صندوق؟ وقبل أن تدرك النساء ما حل بهن، انبرى من انبرى في  أنحاء البلاد كلها مطبقًا القانون الجديد، على نحوٍ ضاقت به النساء ذرعًا، واستحال العيش معه كابوسًا في كل قرية ومدينة.

لم تبدُ لهذه الانتخابات نهاية، فأصبحتَ ترى الغسالات والخياطات يهرعن من عملهن لاختيار  مرشحين، لم يسمعن بهم من قبل -على الأرجح- ومن ثمَّ يقع الاختيار اعتباطًا، والأنكى أن تُبَكر الموظفات والنادلات، على إبكارهن، ليجدن وقتًا للإدلاء بأصواتهن قبل التوجه للعمل. تشوَّه وجه الجدول اليومي لسيدات المجتمع الإنجليزي، فصار وقفًا على إنجاز التزاماتهن باللجان الانتخابية، حتى باتت حفلات نهاية الأسبوع والإجازات الصيفية رفاهية يمتاز بها الذكور. ولم تعد تتيسر وجهاتٌ كالريفيرا والقاهرة إلا للمعفيين من إدلاء الأصوات قسرًا، أو أصحاب الثروات الطائلة. فما ترك الغرامات، والمقدرة الواحدة منها بعشرة جنيهات، تتراكم -نتيجة تغيُّبٍ طويل- إلا مخاطرة لا يتحملها حتى من كان أمرهم ميسورًا بعض اليسر. لا غرو أن تأججت الحركة المعارضة لتصويت المرأة، حتى عُدَتْ مُناصِراتُها بالملايين. وكست ألوانُها الحمراء والزعفرانية البلادَ، مع تحوُّل شعارها «لا حاجة لنا في التصويت»، إلى لازمة يتردد صداها في الأرجاء. في المقابل، لم تُبْدِ الحكومة أي رد تجاه تلك المحاولات السلمية لإثنائها، وألجأت المُعارِضات لاتخاذ تصعيدات عنيفة، فقَوَّضن الاجتماعات وحاصرن الوزراء وانغرست أسنانهن في رجال الشرطة، وأضربت السجينات عن طعامهن. كما يُذكَر وقوع حادثة غريبة في ليلة إحياء الذكرى السنوية لمعركة طرف الغار*، حين قَيَّدتْ مجموعةٌ من النساء أنفسهن بطول النصب التذكاري للقائد نِلسون، مما حمَّلهم على إلغاء مراسم تزيينه بالورود. ولكن لا حياة لمن ينادون، فلم يتراجع موقف الحكومة التي ما زالت ترى وتتمسك بضرورة إدلاء النساء بأصواتهن.

استمر الحال، حتى فطنتْ بعض النساء لأسلوب جديد قد يكون ملجأهن الأخير، وقد كان من الغرابة بمكانٍ، بما يجعله بعيدًا كل البعد عن الأذهان. التبكاء العظيم، نظمت النساء مسيراتٍ، لا يقل قوام إحداها عن عشرة آلاف باكية ناحبة؛ يَسرن في الأماكن العامة تقطر من عيونهن الدموع بلا انقطاع. زاد بكاؤهن في محطات الأنفاق والقطار والحافلات المجرورة بالخيول، كما علا في المعرض الوطني، وفي مخازن الجيش والبحرية، وفي ممري القديس جيمس والبارلنجتون، وفي حفلات موسيقى البالاد. تزامنتْ هذه الاضطرابات مع عرض المسرحية الهزلية الرائعة «أرانب هنري»،  وكانت المسرحية في أوج نجاحها، قبل أن يفتته هطولُ دموع النساء على المقاعد المقابلة للعرض والمطلة عليه والبعيدة عنه. وفي فصل آخر، كانت الصحافة تنقل أنباء طلاق ويتلقفها الناس لسنين؛ نتحدث هنا عن قضية لطالما شغلت قُرَّاء الصحف، قبل أن يخفت بريقها، وتَصرف الباكياتُ في أروقة المحكمة، بعضَ الانتباه عنها.

*

سأل رئيس الوزراء: «ما العمل؟» بعد أن ذاق دموعَ طبَّاخته التي ذُرِفَتْ في أطباق فطوره، وبعد أن أخذت مُدَبرةُ المنزل أولادهَ إلى الحديقة في نزهة؛ بكت في أثناءها بصمتٍ بائس.

فرد الملك: «في الوقت متسعٌ لصُنْع ما نريد، في الوقت متسعٌ للتراجع. دوِّن القانون الذي ستُحْرَم النساءُ بموجَبه من التصويت؛ مرِّره على مجلسيْ النواب، ورده إليَّ لينال تصديقًا ملكيًا».

وبينما ينسحب رئيسُ الوزراء من عند الملك هرمان الغضوب، والملقب بالحكيم أيضًا، أطلق الملكُ ضحكةً من أعماقه، وحرَّكَ فاههَ، مقتبسًا من قول القائل: «ثمَّة طرق كثيرة لقتل القط، غير أن تتخمه بالقشدة حتى يختنق. غير أنني أشك في أنها لم تكُن الطريقة الأنسب».


* معركة طرف الغار: معركة بحرية نشبت بين الأسطول الإنجليزي بقيادة الأميرال هوراشيو نيلسون ضد الأسطولين الفرنسي والأسباني المتحالفين في يوم 21 أكتوبر 1805.