رسالة إلى والدي.. جابرييل جارسيا ماركيز

رودريجو جارسيا*

عن النيويورك تايمز 6 مايو 2020

ترجمة: محمود راضي

* رودريجو جارسيا، مخرج سينمائي وابن الكاتب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه


رودريجو جارسيا وجارسيا ماركيز، عن النيويورك تايمز

جابو،

حلت ذكرى وفاتك السادسة في السابع عشر من أبريل، وحافظ العالم بشكل كبير على وتيرته، حيث يتصرف البشر بين قسوة خلاقة مثيرة للدهشة، وتضحية وعطاء جليلين، وكل ما يقع بينهما.

شيء واحد استجد: الجائحة. نشأت -حسبما نعرف حتى اﻵن- في سوق للأطعمة، حيث حقق فيروس قفزته من حيوان إلى إنسان. كانت خطوة صغيرة بالنسبة لفيروس واحد، لكنها طفرة هائلة من نوعها. إنه كائن تطور على مدار زمن غير محسوب من خلال الانتخاب الطبيعي إلى ما هو عليه اﻵن كوحش فتاك صغير، ولكن من غير العادل أن أشير إليه بمثل هذه الكلمات، وأنا آسف لو جرحته بكلماتي. إنه لا يحمل تجاهنا نية سيئة، إنه يهيمن ويهيمن ﻷنه قادر. المسألة ليست شخصية، نستطيع أن نستنتج ذلك بالتأكيد.

لا يمر يوم دون أن أصادف إشارة إلى روايتك «الحب في زمن الكوليرا»، أو سخرية من عنوانها، أو جائحة اﻷرق في رواية «مائة عام من العزلة». من المستحيل عدم التفكير فيما صنعت من كل هذا. كنت على الدوام مفتونًا باﻷوبئة، الحقيقية منها أو المُتخيلة أدبيًا، كما هو الحال مع اﻷشياء والبشر العائدين.

لم تكن قد وُلدت بعد حين ابتلى الكوكب بجائحة الأنفلونزا اﻹسبانية، لكنك ترعرعت بمنزل سيطر عليه الحكي، وشَكَلَ الوباء حتمًا مادة أدبية جيدة على شاكلة اﻷشباح والحسرات. قلت إن الناس سيتحدثون عن وقائع في الماضي البعيد كمثل أشياء وقعت في أيام المُذَنَب، في إشارة إلى مرور مذنب هالي في بواكير القرن العشرين على اﻷرجح. أتذكر حماسك لرؤيته بعينيك المجردتين حين عودته قرب نهاية اﻷلفية. لقد أثار افتتانك، ساعة غامضة تشير إلى ميقات صامت مرة كل 67 عامًا، دورة تقريبية للزمن الموزع على البشر. أهى صدفة؟ قد تكون مجرد رنجة حمراء أخرى.[1] كنت مُلحدًا، لكنك أيضًا اعتبرت أنه من غير المُقنع عدم وجود تخطيط حاكم، أتذكر؟ لا يوجد حكّاء للحكاية. ربما كنت من هذا المنظور أكثر استبصارًا مني.

لقد عادت جائحة. ورغم القفزات العلمية الكبرى والبراعة المُحتفى بها لجنسنا، فإن أفضل دفاعاتنا حتى اﻵن هي فقط التزام منازلنا، والاختباء في كهوف من الكائن المفترس. إنها لحظة تواضع لمن يميلون قليلًا إلى التواضع، وأمر مزعج آخر يجب القضاء عليه بالنسبة للآخرين.

هناك بلدان عزيزان عليك من بين البلدان اﻷشد ابتلاء: إسبانيا وإيطاليا. يحاول بعض أصدقائك القدامى بذل ما في وسعهم في نفس الشقق السكنية في مدن برشلونة ومدريد وميلان، والتي زرتها أنت ومرسيدس مرات لا تُحصى على مدار عقود. سمعت أشخاصًا عدة من هذا الجيل يقولون إنهم عازمون على المقاومة، كأنه لا يوجد سبب آخر لاجتناب الموت على يد اﻹنفلونزا بعد عقود من النجاة من السرطان والطغاة والمهن والمسؤولية والزواج.

ليس الموت وحده ما يخيفنا، وإنما الملابسات. خروج أخير دون وداع، يحضره غرباء مرتدين مثل الكائنات الفضائية، آلات تنبض بلا قلب، محاطين باﻵخرين في ظروف مشابهة لكن بعيدين عن أناسنا. أسوأ مخاوفك الشخصية على اﻹطلاق: الوحدة.

كنت تتحدث دومًا عن كتاب دانيال ديفو «يوميات عام الوباء» كواحد من أعظم الكتب المؤثرة عليك، لكني نسيت حتى يوم أمس أن حتى عملك المفضل بين مفضلاتك«أوديب ملكًا» ينبني على جهود ملك للقضاء على وباء. كانت السخرية المفجعة التي أحاطت  مصير الملك في صدارة ذكرياتي، لكن الوباء هو ما أطلق القوى التي عجلت بالخاتمة. قلت ذات مرة إن ما يثيرنا حيال اﻷوبئة أنها تذكرنا بمصيرنا الشخصي. فرغم اﻹجراءات الاحترازية أو الرعاية الطبية أو العمر أو الثروة، يمكن ﻷي أحد أن يسحب رقم النحس. كثيرًا ما كان القدر والموت موضوعين مفضلين للأدباء.

اعتقد لو كنت هنا اﻵن، لذُهلت من الرجل (الإنسان)[2]  كما كنت على الدوام. إن مفردة «رجل» لم تعد تستخدم على هذا النحو بعد اﻵن، لكني سأستخدمها استثناء، ليس من باب الخضوع للبطريركية وهو ما كنت تمقته، وإنما ﻷنها ستردد في اﻵذان صدى الشاب والكاتب الواعد الذي كنته يومًا، مع المزيد من الحساسية، وووجود أفكار في رأسك تتجاوز معرفتك بما ستصنع بها، وإحساس قوي أن المصائر مكتوبة، حتى بالنسبة للإنسان المخلوق على صورة الرب ومثاله، ذلك المبتلى باﻹرادة الحرة. كنت ستشفق على هشاشتنا، وتندهش من تلاحمنا، وتحزن لمعاناتنا، وتغضب من قسوة بعض الحكام، وتتأثر بشجاعة البشر الواقفين في الصفوف اﻷمامية، وتتلهف لسماع كيفية تحدي المتحابين لكل عائق، بما في ذلك عائق الموت كي يكونوا معًا، واﻷهم من ذلك، كنت ستصير محبوبًا من البشر مثلما كنت دائمًا.

منذ بضعة أسابيع خلت، وخلال أيامنا القليلة اﻷولى من انعزالنا في المنازل، عصرت رأسي كي أفسر لنفسي ما يعنيه كل هذا، أو على اﻷقل ما يمكن أن ينتج عنه. فشلت. كان الضباب بالغ الكثافة، اﻵن باتت اﻷشياء أكثر اعتيادية مثلما هى طبيعة اﻷشياء في نهاية المطاف حتى في أكثر حروبنا المفزعة، ما زلت غير قادر على تأطير كل هذا بأية وسيلة مُرضية.

كثيرون على يقين أن الحياة لن تعود لسابق عهدها، من المرجح أن بعضنا سيصنع تغييرات كبرى، والكثير منا سيغير القليل، لكني أشك أن أغلبنا سيعود للرقص، ألا يوجد برهان قوي في أن الجائحة دليل على اختفاء الحياة بأكثر الطرق غير المتوقعة، ولذا علينا أن نعيش لما هو أهم، وأن نعيش اللحظة الراهنة؟ لقد صرح أحد أحفادك بهذا الرأي.

بدأ التخفيف من القيود على التحركات في بعض اﻷماكن، وشيئًا فشيئًا سيحاول العالم أن يخاطر بالتعامل بطبيعية، ومع حلم اليقظة بالحرية الوشيكة، بدأ الكثيرون في نسيان العهود التي نذروها مؤخرًا للأرباب، وتضاءل الدافع وراء فهم تأثير الجائحة على ذواتنا العميقة وعلى البشر كلهم، حتى الكثيرون بيننا من التواقين لفهم ما حدث سيغريهم تأويله وفق ميولنا. هناك تهديد فعلي بعودة كبيرة للتسوق ﻷنه مخدرنا المفضل.

ما زلت أرى الأمور ضبابية، يبدو حاليًا أن على انتظار السيدين: الحاضر والمستقبل، لاستقلاب الخبرات المشتركة، أتطلع لهذا اليوم. ستشير لي أغنية أو قصيدة أو رواية أو فيلم نحو الاتجاه العام الذي دُفنت فيه أفكاري ومشاعري حيال هذا اﻷمر برمته، وحين أصل لهناك، فإني على يقين أنه لا يزال علي الحفر بنفسي قليلًا.

في الوقت الحالي، يستمر الكوكب في الدوران، والحياة ما زالت غامضة وجبارة ومذهلة، أو مثلما اعتدت القول بأوصاف أقل وشعر أكثر: لا أحد يُعلِّم الحياة أي شيء.

رودريجو


[1] يقصد مغالطة منطقية شهيرة تعرف بمغالطة الرنجة الحمراء، ويُعرفها عادل مصطفى في كتابه الشهير «المغالطات المنطقية» أنها عبارة عن «كل محاولة لتحويل الانتباه عن المسألة الرئيسية في الجدل، وذلك بإدخال تفصيلات غير هامة، أو بإلقاء موضوع لافت أو مثير للانفعالات وإن يكن غيرَ ذي صلة بالموضوع المعْنِي ولا يشبهه إلا شبهًا سطحيًّا، فيقذف بالخصم خارج مضمار الحديث».

[2] كلمة Man في اللغة اﻹنجليزية تحتمل معنيين: اﻹنسان بالمعنى العام للكلمة، والرجل بالمفهوم الجندري.