الحياة الأخرى
قصة لستيفن كينج
ترجمة: محمد عبد العزيز
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه
ستيفن كينج: كاتب أمريكي من أبرز كُتَّاب الرعب والغموض والإثارة في العالم، ومِن أكثر مَن اقتُبِست أعمالهم في السينما والتليفزيون. نُشِرت قصته «الحياة الأخرى» لأول مرة في مجلة Tin House في يونيو 2013، ثم أعاد كينج نشرها ضمن مجموعته القصصية «بازار الكوابيس» في عام 2015.
إهداء المؤلف: إلى ذكرى سوريندا باتيل
مات ويليام أندروز، الذي كان يعمل مستثمرًا بنكيًّا في مؤسسة «جولدمان ساكس» الكبرى، في فترة ما بعد الظهر من يوم 3 سبتمبر 2012.
كانت وفاة متوقعة، وكانت زوجته وأطفاله موجودين إلى جوار فراشه. في ذلك المساء، وعندما انفردت الزوجة لين أندروز بنفسها أخيرًا، بعيدًا عن التيار الرتيب للزيارات العائلية وتعازي الزوار، اتصلت بأقدم صديقاتها سالي فريمان، التي لا تزال تعيش في ميلووكي. كانت سالي مَن عرَّفتها على بيل، ولو كان هناك مَن يستحق معرفة تفاصيل آخر ستين ثانية من حياتها الزوجية التي استمرت ثلاثين عامًا، فستكون سالي.
«كان غائبًا عن إدراكه طيلة الأسبوع الماضي –بسبب الأدوية أعتقد- لكنه بدأ يفيق قرب النهاية. كانت عيناه مفتوحتان، ورآني فابتسم. تناولتُ يده بين أصابعي، فاعتصرها لوهلة. انحنيتُ عليه، وقبَّلتُ خده. وعندما اعتدلتُ مرة أخرى، كان قد رحل!». انتظرتْ ساعات لتقول هذه الكلمات، وبعدما قالتها، انفجرت في البكاء.
*
افتراضها أن الابتسامة كانت موجهة لها أمر طبيعي، لكنها كانت مخطئة للأسف!
عندما كان ينظر إلى زوجته وأولاده الثلاثة، بدوا له طوالًا للغاية، كائنات ممتلئة بالصحة تسكن عالمًا كان هو الآن على وشك مغادرته.
بدأ بيل يشعر بأن الألم الذي لازمه طيلة فترة الثمانية عشر شهرًا السابقة يغادر جسده، كأنه سائل ينسكب من دلو، فابتسم.
مع اختفاء الألم، لم يعد متبقيًا له الكثير من الوقت. شعر بجسده خفيفًا مثل أوراق تطير مع النسيم. زوجته تلتقط يده، تتنازل وتمد يدًا من ذلك العالم البعيد الممتلئ بالصحة.
كان قد استبقى قليلًا من القوة في جسده، وها هو الآن يستهلكها في اعتصار أصابعها بين أصابعه. انحنتْ فوقه، وتوقع أن تُقَبِّله.
قبل أن تلمس شفتاها جلده، ظهرت فجوة في مركز بصره. لم تكن فجوة سوداء، بل بيضاء، وأخذت في الانتشار لتطمس تفاصيل العالم الوحيد الذي عرفه منذ عام 1956، عندما وُلِدَ في مستشفى مدينة «هيمينجفورد» الصغيرة في نبراسكا.
في العام الأخير، قرأ بيل الكثير عن العبور من الحياة للموت (على الكومبيوتر الخاص به، مع الاهتمام الشديد بمحو تاريخ المُتصفِّح، لكي لا يزعج لين، التي كانت متفائلة باستمرار وبشكل غير واقعي على الإطلاق). ورغم أن معظم ما قرأه بدا له مجرد هراء، إلا أن ظاهرة «الضوء الأبيض» بدت له أجدر تلك الأشياء بالتصديق.
السبب الأول، أنها موجودة في كل الثقافات.
والآخر، أنها تحمل مسحةً بسيطة من مصداقية العلم.
اقترحتْ نظريةٌ قرأها أن الضوء الأبيض يأتي نتيجة التوقف المفاجئ لسريان الدم إلى المخ، في حين اقترحت نظريةٌ أخرى أكثر أناقة أن المخ يُجري عمليةَ مسح شاملة، في محاولة للعثور علي خبرة شبيهة بالموت، أو ربما يكون أشبه بإطلاق ألعاب نارية للمرة الأخيرة.
أيًّا كان الأمر، فإن بيل أندروز يمر الآن به. الضوء الأبيض يطمس على عائلته وعلى الغرفة بكامل محتوياتها، والتي بعد دقائق سيدخلها مساعدو المشرحة لينقلوا جسده الخالي من الروح. في الأبحاث التي أجراها، صار معتادًا على مصطلح NDE Near Death Experiment»» أو تجربة الاقتراب من الموت. في العديد من تلك التجارب، يصبح الضوء الأبيض نفقًا، وفي نهاية هذا النفق يقف من يشير للقادم الجديد في ترحاب، أحيانًا يكون الواقف أفراد العائلة الراحلين، وأحيانًا يكونوا أصدقاء مُقرَّبين، أو ملائكة، أو المسيح، أو أحيانًا الإله الرحيم نفسه.
لم يتوقع بيل وجود أية مجموعات في انتظاره لترحب به. ما توقعه أن تخفت تلك الألعاب النارية الأخيرة وتضمحل حتى تختفي في كنف ظلام النسيان، لكن هذا لم يحدث!
عندما خفت اللمعان، لم يجد نفسه في الجنة ولا في الجحيم، وإنما وجد نفسه في رواق.
افترض أنه المَطهر، فرواقٌ مطلي باللون الأخضر ومفروش بقرميد متسخ، لن يكون على الأرجح إلا مَطهرًا. لكن هذا طبعًا في حالة استمرار هذا الرواق للأبد، لكن الرواق الذي يسير فيه انتهى بعد ستة أمتار عند عتبة باب، وكانت معلقةً على هذا الباب لافتةٌ مكتوبًا عليها:
«المدير إسحاق هاريس»
وقف بيل مكانه لبضع لحظات، متفقدًا نفسه، ليجد أنه يرتدي البيجاما التي كان يرتديها قبل وفاته (على الأقل افترض أنه توفي)، وكان حافي القدمين. لكن لم تكن هناك أية علامات تشير إلى السرطان الذي تلمس طريقه في جسد بيل ببطء في البداية، قبل أن ينهشه حتى صار مجرَّد هيكل من عظامٍ مكسوَّة بالجلد.
شعر أنه عاد إلى وزن 86 كجم، والذي كان وزنه الطبيعي قبل أن يهاجمه السرطان بشراسة. مد يده يتحسس مؤخرته وأسفل ظهره، ليجد أن قُرَح الفراش قد اختفت، وهي علامة طيبة.
أخذ نَفَسا عميقًا وزفره دون كحة، وهي علامة أطيب.
سار لوهلة عبر الرواق الطويل، وكانت على يساره مِطْفَأةُ حريق مُعلَّقة، وفوقها كانت لافتة غريبة مكتوبًا عليها:
«أن تأتي متأخرًا أفضل من ألا تأتي على الإطلاق!».
وعلى يمينه كانت هناك لوحة إعلانات، وعليها كان معلقًا العديد من الصور الفوتوغرافية قديمة الطراز ذات الحواف المزخرفة، وكانت مثبتة في مكانها على اللوحة بدبابيس. وفوق اللوحة كان هناك شعارًا مطبوعًا يدويًّا يقول:
«نزهة الشركة الخلوية عام 1956؛ كم مرحنا وقتها!»
تفقد بيل الصور، والتي أظهرت المديرين والسكرتيرات، وموظفي شؤون العاملين بالشركة، بالاضافة إلى مجموعة من الأطفال يلعبون بحماس مبالغ فيه وهم ملطخين بالآيس كريم، وكان هناك بضعة رجال يعدون الشواء (وكان أحدهم يرتدي قبعة الشيف الطويلة الأبدية، على حين كان هناك بعض الرجال والفتيات يقومون برمي حِدوات الخيول، أو يلعبون الكرة الطائرة، أو يسبحون في البحيرة. كان الرجال يرتدون مايوهات قصيرة للغاية وضيقة بمقاييس القرن الحادي والعشرين، لكن القليل منهم كان لديهم كروش.
«لديهم أجساد الخمسينيات»، فكر بيل. كانت الفتيات يرتدين ثياب السباحة عتيقة الطراز التي اشتهرت إستر ويليامز بارتدائها. تلك الثياب التي كانت تُظهِر السيدات شديدات الرشاقة، وكأن ليس لديهن مؤخرات، وإنما تنتهي ظهورهن في نعومة فوق أردافهن.
كان الهوت دوج يُشوَى في مكانٍ ما، والبيرة تُوزَع على الجميع. بدا الكل مستمتعًا بوقته فعلًا.
في واحدة من تلك الصور ظهر والد ريتشي بلانكمور وهو يناول آن ماري وينكلر قطعة من المارشميلو المشوي، مما كان سخيفًا، لأن والد ريتشي كان سائق شاحنة، وبالتأكيد لم يذهب في إحدى نزهات الشركة قَط في حياته.
كانت آن ماري فتاة اعتاد على مواعدتها عندما كان بالجامعة.
في صورة أخري ظهر بوبي تيسدال، والذي كان أحد زملاء دراسته بالكلية في أوائل السبعينيات، وكان يسمي نفسه «تيزي الساحر»، ومات جراء نوبة قلبية هاجمته وهو في الثلاثينيات من عمره. كان على الأرجح موجودًا في عام 1956، لكنه كان وقتها بالتأكيد في الحضانة أو الصف الأول الابتدائي على أقصى تقدير، وليس من ضمن أولئك الذين يحتسون البيرة على شاطئ تلك البحيرة الموجودة في الصور والتي لا يعرف اسمها حتى الآن.
لكن «تيزي الساحر» بدا في تلك الصور شابًا في العشرينات من عمره، وهو السن الذي عرفه فيه بيل.
في صورة ثالثة، كانت والدة إيدي سكاربوني تلعب الكرة الطائرة. كان إيدي أفضل أصدقاء بيل، عندما انتقلت العائلة من نبراسكا إلى باراموس بـنيوﭼـيرسي، وكانت ﭼـينا سكاربوني، والتي شاهدها للمحة خاطفة ذات مرة تأخذ حمامًا شمسيًّا وهي لا ترتدي شيئًا إلا سروالًا خفيفًا أبيض اللون، كانت واحدة من أكثر النساء اللواتي مال إليهن بيل عندما كان لا يزال في مرحلة الاستمناء في مراهقته.
الرجل الذي يَشْوي كان رونالد ريجان.
حدق بيل لدرجة أن أنفه كاد أن يلتصق بالصورة ذات اللونين الأبيض والأسود، ولم يكن هناك أدنى شك في ما يراه. كان الرئيس الرابع عشر للولايات المتحدة الأمريكية يُقلِّب البرجر في نزهة الشركة الخلوية.
أية شركة تلك على أية حال؟
وأين يوجد بيلي بالتحديد في هذه اللحظة؟
بدأت نشوتُه لكونه كاملًا مرة أخرى وخاليًا من الألم تضمحل، ويحتل مكانها شعورٌ ممضٍ بالتشوُّش وعدم الارتياح. رؤية أولئك الأشخاص المألوفين له في تلك الصور لم تبدُ منطقية، وفكرة أنه لا يعرف معظمهم لم تقدم له إلا الحد الأدنى من الشعور بالراحة. نظر خلفه، ورأى درجات سلم تقود إلى بابٍ آخر. وعلى ذلك الباب كان مطبوعًا بحروف حمراء ضخمة: «مغلق».
هذا لا يترك له إلا مكتب السيد إسحاق هاريس. سار بيل إلى هناك، تردد قليلًا، قبل أن يحسم أمره ويدق.
«الباب مفتوح».
دلف بيل إلى المكتب. وبجانب المكتب الفوضوي وقف رجلٌ بملابسٍ واسعة، يرتدي بنطلون بدلة بحمَّالات، وكان شعره البني ملتصقًا بجمجمته ومفروقًا من المنتصف، وكان يرتدي نظارات دون إطار. كانت الجدران مغطاةً بالفواتير واللوحات الفنية الرخيصة التي ذكرت بيل بشركة النقل بالشاحنات التي كان يعمل بها والد ريتشي بلانكمور. لقد ذهب إلى هناك بضعة مرات مع ريتشي، وكان مكتب إرسال البرقيات يبدو كهذا.
طبقًا للنتيجة المعلقة على الحائط، كانا في مارس 1911، والذي لم يكن منطقيًّا أكثر من موضوع عام 1956، وعلى يمين بيل بينما كان يدخل، كان هناك باب، وعلى يساره كان هناك باب آخر، لكن لم تكن هناك أية نوافذ، وإنما أنبوب زجاجي يخرج من السقف ليتدلى فوق سلة غسيل. كانت السلة تمتلئ بكومة من الأوراق الصفراء، والتي بدت كأنها مزيد من الفواتير، أو ربما ملحوظات للتذكير بأمورٍ ما لفعلها. كانت الملفات مُكوَّمة بطول قدمين على الكرسي المواجه للمكتب.
«أنت بيل أندرسون، أليس كذلك؟» اتجه الرجل خلف المكتب وجلس، غير مهتم بأن يمد يده للمصافحة.
«أندروز!»
«صحيح، وأنا أدعى هاريس. ها قد أتيتَ مرة أخرى يا أندروز!»
مع كل ما عرفه بيل عن الموت، فقد بدا له ذلك التعليق منطقيًّا في الواقع، وكان مريحًا، ما دام لن يعود للحياة مرة أخرى في صورة خنفساء أو ما شابه.
«إذن فهذا هو تناسخ الأرواح؟ هل هذا ما يحدث؟»
تنهد إسحاق هاريس: «إنكَ تسأل دومًا نفس السؤال، وأجيبُكَ بنفس الإجابة: ليس بالضبط!»
«أنا ميت، أليس كذلك؟»
«هل تشعر بأنك كذلك؟»
«لا.. لكني رأيتُ الضوء الأبيض».
«أوه، نعم. الضوء الأبيض الشهير. كنتَ هناك، وصرتَ هنا. انتظر دقيقة. امسك السماعة!»
يمر هاريس سريعًا بعينيه على الأوراق الموجودة على مكتبه، لكنه لا يعثر على ما يبحث عنه، فيبدأ في فتح الأدراج. من أحد تلك الأدراج يأخذ المزيد من الملفات وينتقي أحدها، يفتحه، ثم يقلب صفحة أو اثنتين، قبل أن يومئ برأسه قائلًا:
«فقط أُذكِر نفسي. كُنتَ مستثمرًا بنكيًّا، أليس كذلك؟»
«نعم!»
«زوجة وثلاثة أطفال؟ صبيان وفتاة؟»
«صحيح!»
«معذرة؛ لديَّ المئات من المهاجرين، ومن الصعب حفظ كل تفاصيلهم. أرغب في جمع تلك الملفات مرتبة، لكن تلك الأمور تحتاج إلى سكرتيرة في المقام الأول، وبما أنهم لم يزودوني بواحدة..».
«من هم؟»
«لا توجد لديَّ فكرة. كل الاتصالات تُجرَى عبر الأنبوب. -دق فوق الأنبوب بيده، فتمايل هذا الأخير مع لمساته- يعمل بالهواء المضغوط؛ أحدث التقنيات التي ظهرت».
التقط بيل الملفات الموجودة على كرسي الزوار الموضوع أمام المكتب، ثم نظر إلى الرجل الجالس خلف المكتب مشدوهًا.
«فقط ضعها علي الأرض!» حدثه هاريس، «سيكون هذا كافيًا في الوقت الحالي، في يوم من الأيام سأرتبُ كل شيء، لو أن هناك أيام فعلًا، وهو ما أعتقده، لكن مَن يمكنه أن يكون واثقًا من أي شيء هنا؟ لا توجد نوافذ كما لا بُدَّ أنك لاحظت، كما لا توجد ساعات!»
جلس بيلي، وسأله: «لماذا تدعوني مهاجرًا، ما دام هذا ليس تناسخ أرواح؟»
تراجع هاري في مقعده، ووضع يده خلف عنقه. نظر نحو أنبوب الهواء المضغوط، الذي لا بُدَّ كان أحدث تقنية في زمنٍ ما، في عام 1911 مثلًا، رغم أن بيل يعتقد أن تلك الأشياء كانت لا تزال قيد الاستخدام في عام 1956.
هز هاريس رأسه وضحك ضحكة مكتومة، ليس باستمتاع عمومًا، وهو يقول:
«لو أنكم فقط تعرفون كم أنتم مملون! فبحسب الملفات، تلك زيارتنا الخامسة عشر».
«لم أرَ هذا المكان في حياتي»، أجابه بيل، قبل أن يفكر قليلًا ويستطرد: «لكن هذه ليست حياتي، أليس كذلك؟ أهي حياتي الأخرى؟»
«في الواقع، هي حياتي أنا الأخرى، وأنت الزائر هنا، لا أنا! أنت وبقية المهرجين الذين يتبخترون داخلين وخارجين من هنا. ستستخدمَ أحد الأبواب للخروج، بينما سأبقى هنا. لا يوجد حمام هنا، لأنني لم أعد أحتاج إليه، فلم أعد أحتاج إلى تلبية نداء الطبيعة بعد الآن، ولا توجد غرفة نوم، لأنني لم أعد أنام.. كل ما أفعله هو الجلوس هنا وانتظار زيارات المهرجين المتنقلين أمثالك. تدخلون، تسألون نفس الأسئلة، وأعطيكم نفس الاجابات. هذه حياتي الأخرى. مشوقة للغاية، أليس كذلك؟»
قرر بيل، والذي صادف كل النهايات الممكنة حسب مختلف المعتقدات خلال أبحاثه الأخيرة، أنه قد فهم ما يحدث حوله أخيرًا.
«أنت تتحدث عن المَطْهَر، أليس كذلك؟»
«أوه، دون شك. السؤال الوحيد الذي أملكه هو كم من الوقت سألبثُ هنا. كنت أحب أن أخبرك أنني سأُجَنُ لو لم أنتقل من هنا، لكن للأسف على الأرجح ليس بوسعي أن أجَنُ بقدر ما ليس بوسعي أن أنام أو أقضي حاجتي. أعرف أن اسمي لا يعني لك شيئًا، لكننا ناقشنا هذا من قبل. ليس في كل مرة ظهرت فيها، لكن في عدة مناسبات».
لوَّح بذراعه بقوةٍ كانت كافية لجعل بعض الفواتير المتراصة على اللوحة ترفرف في مكانها.
«هذا المكان بمثابة مكتبي الأرضي».
«في عام 1911؟»
«غالبًا. كنت لأسألك لو كنت تعرف ما الشيرتويست ـshirtwaist يا بيل، لكن بما أنني أعرف أنك لا تفعل، فسأخبرك ما هي؛ إنها بلوزة حريمي. في بداية القرن، امتلكتُ وشريكي ماكس بلانك مصنع بلوزات الوسط المثلثة Triangle shirtwaist، وكانت صناعة رابحة، لكن دعني أخبرك أن النساء اللاتي عملن بالمصنع كن مزعجات بشكل لا يطاق. يتسللن طيلة الوقت للتدخين، أو الأسوأ؛ كن يسرقن أشياءً من المكان. يأخذن ما يمكن وضعه في حقائبهن، أو يخفين ما يمكن إخفاؤه تحت تنوراتهن، لهذا كنا نغلق عليهن الأبواب في ساعات العمل، وكنا نفتشهن عند الرحيل. سأختصر القصة لأخبرك أن المصنع اللعين شبَّ به حريق في أحد الأيام، وتمكنتُ وماكس من الهروب عن طريق الذهاب إلى السطح والخروج من سلم الحريق. لكن العديد من السيدات لم يَكُنَّ بذلك الحظ!
«سنكون موضوعيين ونقول أن هناك العديد من الملومين.. فبعد كل شيء، كان التدخين ممنوعًا بداخل المصنع، لكن العديد منهن كن يُدخِّنَّ على أية حال. وكانت سيجارة هي ما بدأ الحريق، كما صرح قائد قوات الإطفاء.. قُدِّمتُ وماكس إلى المحاكمة بتهمة القتل غير المتعمد، وتمَّت تبرئة ساحتنا».
تذكر بيل مِطْفَأةَ الحريق الموجودة بالردهة، والتي كانت مُعلَّقةً فوقها لافتة:
«أن تأتي متأخرًا أفضل من ألا تأتي على الإطلاق!».
فكر بيل: لا بُدَّ وأن إعادة المحاكمة أدانتك يا سيد هاريس، وإلا لما أصبحتَ هنا!
«كم سيدة ماتت بالحريق؟»
«146 سيدة»، أجابه هاريس، «وأنا أندم لوفاة كل واحدة منهن يا سيد أندرسون».
لم يتعب بيل نفسه بتصحيح الاسم. منذ عشرين دقيقة كان يحتضر على سريره بالمستشفى، والآن يستمع مبهورًا لتلك القصة القديمة التي لم يسمعها من قبل. بقدر ما يتذكر على الأقل.
«لم يمر وقت طويل على نزولنا أنا وماكس علي سلم الحريق، حتي ازدحم بالنساء، ولم يتحمل السلم اللعين كل ذلك الوزن، فانهار مُسقِطًا نحو أربعة وعشرين سيدة من على ارتفاع نحو ثلاثين مترًا نحو الرصيف الحجري!
كلهن متن!
أربعون سيدة أخرى قفزن من نوافذ الطابقين التاسع والعاشر، والبعض حوصرن بالحريق!
كلهن متن كذلك!
قوات الاطفاء كانت قد وصلت بشبكات الأمان، لكن الشبكات لم تتحمل أجساد النساء اللاتي قفزن عليها وتمزقت، لتعبر الأجساد عبرها لتتفجر بالدماء على الرصيف. كان منظرًا بشعًا يا سيد أندرسون، بشعًا!
بعضهن حاولن أن يقفزن عبر بئر المصعد، لكن العديدات احترقن!»
«مثل 11 سبتمبر تقريبًا لكن بعدد إصابات أقل».
«هذا ما تقوله أنت دائمًا».
«وأنت هنا الآن».
«بالتأكيد. أتساءل أحيانًا كم من رجال يجلسون بمكاتب مثل هذه؟ وكم من نساء؟ بالتأكيد هناك نساء أيضًا. كنتُ دومًا أتطلع للأمام، ولم أجد سببًا يمنع النساء من تولي نفس المناصب مثلنا، وبنفس الكفاءة، ليُجِبْنَ على نفس الأسئلة مثلنا، ومثلنا يرسلن نفس المهاجرين، ربما تعتقد أن الحمل سيخف مع كل مرة يقرر أحدكم فيها أن يستخدم الباب الأيمن عوضًا عن الباب الآخر!» قالها وهو يشير للباب الأيسر، «لكن لا! تنزل أسطوانة جديدة عبر الأنبوب، وهوووب؛ أحصل علي مهرج جديد ليستبدل المهرج القديم، بل إنني أحيانًا أحصل على اثنين!». يميل للأمام ويتحدث بكثير من التعاطف.
«إنها مهنة مقرفة يا سيد أندرسون!»
«أدعى أندروز»، قال له بيل، «أنا أسف أنك تشعر بهذا، لكن بحق المسيح، تَحمَّل بعضًا من مسؤولية أفعالك يا رجل! لقد كُنَّ 146 امرأة، وأنت بنفسك قلتَ أنك أغلقت الأبواب!»
دق هاريس علي مكتبه، «لقد كن يسرقن المكان يا أعمى»، والتقط ملفًا لوح به لـبيل قائلًا:
«لا يجدر بك أن تتكلم أنت بالذات؛ أنتَ من مؤسسة (جولدمان ساكس)، حيث تزوير السكرتيرات للملفات، والتهرُّب من الضرائب، وحيث تحدث زيادة أسعار العقارات استغلالًا لزيادة الإقبال عليها. كم من عميل استغللتَ ثقته فيك؟ كم من عميل فقد كل مدخرات عمره بسبب جشعك وقلة بصيرتك؟»
يعرف بيل ما يتحدث هاريس عنه، لكن كل تلك الخدع ( أو على الأقل معظمها)، كانت تحدث على نطاق أعلى من نفوذه وقدرته على الاستيعاب.
كان يُفَاجأ مثل أي غريب بالفضائح التي تمس الشركة عندما تُعلَن على الملأ. رغب في أن يخبره أن هناك فارقًا كبيرًا بين أن تصبح متسولًا، وأن تحترق حيًّا! لكن ما فائدة نبش الجراح القديمة؟ كما أن بيل سيبدو وقتها شديد الاعتداد بذاته. أجاب محدثه:
«فلنترك هذا الموضوع! لو كانت لديك معلومات مفيدة لي، فلماذا لا تخبرني بها مباشرة، وسأخرج من مكتبك هذا على الفور، بما أن وجودي هنا مزعجًا لك إلى هذه الدرجة»
«لم أكن مَن يدخن»، قال له هاريس في لهجة خافتة حزينة، «ولم أكن من أسقط عود الكبريت!»
«سيد هاريس؟»
بدأ بيل يشعر بالجدران تنغلق عليهما.
لو أنني كنت مُضطَرًا إلى البقاء هنا للأبد، فلا بُدَّ أنني كنت سأطلق النار على نفسي، هكذا فكر بيل. لكن لو كان ما يقوله هاريس هذا صحيحًا، فلا بُدَّ أنه لن يكون راغبًا في هذا، ليس أكثر من عدم رغبته في دخول الحمام علي الأقل. قلب هاريس شفتيه.
«حسنًا، الأمور ستسير كالتالي: اخرج من الباب الأيسر، وستتاح لك فرصة أخرى لتعيش حياتك بأكملها. من الألف إلى الياء. من البداية إلى النهاية!
اخرج من الباب الأيمن، وستخرج من الحياة بأكملها.. بوف! كضوء شمعة ينطفئ فجأة. لن يكون هناك أي ألم!»
في البداية ظل بيل صامتًا؛ لم يعد قادرًا على التحدث، ولم يكن متأكدًا من قدرته على الثقة في أذنيه.
الأمر أجمل من أن يكون حقيقيًّا.
عقله يتجه مباشرة للتفكير في أخيه مايك، والحادث الذي تسبب له فيه عندما كان في الثامنة من عمره.
ثم فكر في حادثة السرقة السخيفة من المتجر، والتي تورط بيل فيها عندما كان في السابعة عشرة من عمره. صحيح أنها مزحة، لكنها كانت كفيلة بتدمير مستقبله الجامعي بأكمله، لو لم يتدخَّل والده في الوقت المناسب ويتحدث إلى الشخص المناسب.
وهناك طبعًا ما حدث مع آن ماري في بيت الطلاب، والذي لا يزال يطارده ويظهر في ذاكرته في أكثر الأوقات غرابة، حتي بعد كل تلك الأعوام. وطبعًا، هناك مصيبة أكبر وهي...
كان هاريس يبتسم، ولم تكن ابتسامته مريحة على الإطلاق.
«أعرف كل ما تفكر فيه، لأنك أخبرتني به من قبل..
أعرف أمر تلك الحادثة عندما كنت تلعب مع أخيك لعبة (المصباح اليدوي)، وكنتما وقتها طفلَيْن، وكيف أغلقتَ باب غرفة النوم بعنف لتبقيه خارجًا، متسببًا عن غير قصد في قطع طرف إصبعه، وأعرف تأثير حادثة سرقة الساعة، وكيف تمكن والدك من التدخل في اللحظة الأخيرة وانتشالك من الموضوع و...»
«صح. لا يوجد أي أثر رسمي للموضوع، غيره هو! ولم يكن ليدعني أنسى الموضوع أبدًا!»
«وهناك موضوع تلك الفتاة ببيت الطلاب»، رفع هاري الملف، «لا بُدَّ أن اسمها في مكان ما هنا كما أعتقد. أفعل ما بوسعي لإبقاء الملفات منظمة، عندما أعثر عليها من الأصل. لكن لماذا لا تساعدني وتُذكِّرني بالتفاصيل؟»
«كانت تدعى آن ماري وينكلر»، شعر بيل بخديه يحمران خجلًا، قبل أن يكمل سريعًا :
«لم يكن الأمر اغتصابًا، فلا تفكر في هذا! لقد وضعت الفتاة ساقيها حولي عندما كنت أعتليها.. ولو لم يكن هذا يعني رضائها على ما يحدث، فلا أعرف ما الذي يمكن أن يعنيه التراضي».
«وهل وضعت ساقيها حول الأخين الليان أتيا بعدك كذلك؟»
لا؛ أراد بيل أن يقول هذا. لكنهم على الأقل لم يحرقون الفتاة حيَّة. لكن هذا لا يحسن من موقف بيل .
لو كانت الأمور سارت بشكل أفضل، فلا بُدَّ أنه كان في هذه اللحظات يلعب الجولف، يعمل في ورشة النجارة التي يملكها، أو يتحدث إلى ابنته (والتي لا بُدَّ أنها صارت طالبة في الجامعة الآن) حول أطروحتها العليا بالجامعة. ولا بُدَّ أنه سيتساءل عن مكان وجود آن ماري، وماذا تفعل الآن، وسيتساءل عما إذا كانت تتذكر ما حدث تلك الليلة.
اتسعت ابتسامة هاريس حتى احتلت الغرفة بأكملها من الجدار إلى الجدار. وظيفة مقرفة، كما قال بيل منذ قليل ربما. لكن من الواضح أن هناك بعض الأجزاء التي يستمتع فيها.
«أري أن هذا سؤالًا تفضل عدم الإجابة عليه. لم لا نكمل حديثنا إذن؟ أنت تفكر في كل تلك الأشياء التي بوسعك تغييرها في دورتك القادمة في اللعبة الكونية.
في هذه المرة لن تغلق الباب علي إصبع أخيك، ولن تحاول أن تسرق تلك الساعة من (باراموس مول)».
«أنا متأكد أنه كان (نيوﭼـيرسي مول). أنا واثق من أن المعلومة في ملفك هذا في مكانٍ ما».
ألقى هاريس نظرة سريعة على ملف بيل، قبل أن يكمل:
«في المرة القادمة لن توافق على مضاجعة فتاتك شبه المخمورة التي وجدتها مستلقية على الكنبة بالدور السفلي ببيت الطلاب الذي تقيم فيه..
وأخيرًا، أكبر تصحيح يمكن أن تقوم به: ستحضر فعلًا في ذلك الموعد لفحص قولونك، عوضًا عن تجاهله وعدم الحضور من الأصل، لأنك قررت الآن، وصحِّح لي لو كنت مخطئًا، أن الشعور بالإهانة جراء دفع كاميرا تصوير عبر مؤخرتك أفضل بكثير من الموت بسرطان القولون!»
قال بيل:
«في كثير من المرات أكون على وشك إخبار لين بحادثة بيت الطلبة تلك، لكنني لا أتحلى بالشجاعة الكافية!»
«لكن لو أتتكَ الفرصة، ستصلحَ الأمور».
«طبعًا. لو حصلتَ أنت على فرصة أخرى، ألم تكن لتفتح كل أبواب المصنع؟»
«بالتأكيد كنت سأفعل. لكن للأسف ليست هناك فرص أخرى. آسف لتخييب ظنك!»
في الواقع لم يبدُ عليه الأسف، بل الارهاق والملل. بدا عليه كذلك بعض الانتصار، وأشار إلى الباب الموجود على يسار بيل.
«استعمل ذلك الباب، كما فعلت في كل مرة، وستبدأ كل شيء من البداية مرة أخرى، مثل رضيع يبلغ من الوزن 3.5 كيلو تقريبًا ينزلق من رحم أمه إلى يدي الطبيب. ستُلَفُ في قطعة من القماش، ثم ستُأخَذ إلى منزل عائلتك، وهو مزرعة في وسط نبراسكا، وعندما يبيع والدك المزرعة في عام 1964، ستنتقل إلى نيوﭼـيرسي، حيث ستتسبب في قطع طرف إصبع أخيك الصغير وأنتما تلعبان لعبة المصباح اليدوي.
ستذهب إلى نفس المدرسة الثانوية، ستأخذ نفس الكورسات، وستحصل على نفس الدرجات.
ستذهب بعد ذلك إلى جامعة بوسطن، وستتورط في حادثة الـ(شبه الاغتصاب) نفسها التي تورطت فيها، في نفس الدور السفلي بنفس منزل الطلبة الذي كنت تقيم فيه.
ستراقب نفس الأخَّيْن وهما يمارسان الجنس مع آن ماري وينكلر، ورغم أنك ستفكر في أنه يجدر بك أن توقف ما يحدث، إلا أنك لن تتحلى أبدًا بقوة الشخصية أو الثبات الذي يسمح لك بذلك.
بعد هذا بثلاثة أعوام ستلتقي لين ديسالفو، وبعدها بعامين ستتزوجان.
ستتبع نفس المسار المهني، وتحظى بنفس الأصدقاء، وستشعر بنفس الانزعاج من بعض ممارسات الشركة التي تعمل بها، لكنك ستبقى صامتًا كما كنتَ دومًا..
سيستحثك نفس الطبيب على أن تُجري منظارًا على القولون عندما تبلغ الخمسين من العمر، وستَعِده -كما تفعل دومًا- أنك ستعتني بذلك الأمر البسيط، لكنك لن تفعل، ونتيجة لهذا، ستموت بسبب نفس السرطان!»
ابتسامة هاريس، بينما يضع الملف مرة أخرى على المكتب الذي تعمه الفوضى، أصبحت باتساع العالم بأكمله. تكاد تلمس شحمتي الأذنين.
«ثم ستأتي هنا، وسنحظى بنفس المحادثة. ستكون نصيحتي لك أن تختار الباب الآخر لتنتهي من كل شيء، لكن طبعًا القرار يعود إليكَ أنت!»
استمع بيل إلى كلام محدثه بفزع متزايد.
«لن أتذكر أي شيء؟ أي شيء على الإطلاق؟»
«ليس بالضبط»، أجابه هاريس، «ربما لاحظتَ بعض الصور المُعلَّقة على جدران الرواق بالخارج».
«نزهة الشركة الخلوية تلك؟»
«نعم. كل عميل يزورني يرى صورًا من العام الذي وُلِدَ فيه، ويستطيع تمييز بعض الوجوه المألوفة وسط كل تلك الوجوه الغريبة. عندما تعيش حياتك مرة أخرى يا سيد أندرسون -بافتراض أنك ستختار أن تفعل هذه المرة أيضًا- فإنك ستحس نوعًا ما أن تلك الأمور مألوفة لديكَ. شعور من الـديجافو Déjà vu، عندما ترى أولئك الناس للمرة الأولى. سيكون هناك إحساس بأنك عشت كل هذه الأمور من قبل، وهو إحساس صحيح طبعًا لأنك عشتَها من قبل بالفعل. سينتابك شعورٌ عابر، يكاد يقترب من اليقين، أن هناك المزيد من..، فلنقل العمق، في حياتك، وفي الوجود بالكامل؟ عمق لم تكن تظنه موجودًا من قبل؟ لكن هذا الشعور سرعان ما سيمر».
«لو أن كل شيء سيبقى كما هو دون أدنى أمل في التغيير، فلماذا نحن هنا أصلًا؟»
استجمع هاريس قبضته، ودق على نهاية الأنبوب الهوائي المتدلي فوق سلة الغسيل، ليجعلها تتأرجح مكانها.
«العميل يريد معرفة لماذا نحن هنا! يريد معرفة ما مغزى كل هذا!»
انتظر، لكن شيئًا لم يحدث، فثني يديه علي مكتبه.
«عندما أراد ستيف جوبز معرفة إجابة نفس السؤال يا سيد أندرسون، سألنا الله عما إذا كان جوبز موجودًا من الأصل عندما خلق الله العالم.
لا أظنك تعتبر هذا الرد إجابة أصلًا، لهذا ربما كان من الأفضل أن نعتبر الموضوع منتهيًا. ماذا تريد أن تفعل الآن؟ اختَر بابًا!»
فكر بيل في السرطان الذي أصابه، وفي الألم الذي صاحبه. فكرة أن يمر بكل هذا مجددًا. لكن لو كان كلام هذا الرجل صحيحًا، فهو لن يتذكر أنه مر بكل هذا عندما يمر به مجددًا.
«لا ذكريات على الإطلاق؟ لا تغييرات على الإطلاق؟ كيف يمكنك أن تكون متأكدًا إلى هذه الدرجة؟»
«لأننا نخوض نفس المحادثة دائمًا يا سيد أندرسون، في كل مرة، ومع كل واحد يأتي منكم».
«أدعي أندروز!» صاح محتدًا بصوت أثار دهشة كليهما، قبل أن يردف بصوت أخفض:
«لو حاولتُ جاهدًا، حاولتُ حقًا، فأنا متأكد أن بإمكاني أن أتمسك بشيءٍ ما، حتى لو كان هذا الشيء هو ما حدث لإصبع مايك. وتغيير واحد ربما كان كافيًا من أجل... لا أعرف!»
لأخذ آن ماري لمشاهدة فيلم بدلًا من الحفل اللعين الذي شربتما فيه البيرة حتى الثمالة ربما؟
يقول له هاريس:
«هناك حكاية شعبية تقول إن كل روح بشرية قبل الولادة، تكون عارفة بكل أسرار الموت والحياة والكون بأكمله، لكن قبل الولادة مباشرة، ينحني ملاكٌ ويلمس شفتي الوافد الجديد بأصابعه هامسًا: ششش».
يلمس هاريس المكان الذي يعلو مفرق شفتيه وهو يقول:
«وفقًا لتلك القصة، فهذه العلامة التي تركها إصبع الملاك، كل شخص لديه واحدة!»
«هل رأيتَ بعمرك ملاكًا يا سيد هاريس؟»
«لا. لكنني رأيتُ جملًا مرة، كان بحديقة حيوان برونكس. والآن، اختَر الباب اللعين!»
بينما يفكر، تذكر بيل قصة قرأها في الصف الإعدادي اسمها «السيدة أم النمر»، وهي القصة التي يكون البطل مطالبًا فيها بأن يختار أحد البابين الذي أمامه. لو اختار الباب الذي تقف خلفه الأميرة الجميلة، يصبح من حقه أن يكون زوجها ويصبح الملك، ولو اختار الباب الذي يقف خلفه النمر، يلتهمه النمر. الخيارات المطروحة أمام بيل أشد صعوبة بمراحل.
لا بُدَّ أن أتمسك بشيء ما!
يخبر نفسه بهذا، بينما يفتح الباب الذي سيقوده إلى حياته القديمة. شيء واحد فقط!
ضوء العودة الأبيض يُغلِّفه بالكامل.
*
انحني الطبيب، والذي سيقتنع في المستقبل بالحزب الجمهوري، وسينتخب إدلاي ستفنسون (وهو ما لا ينبغي أن تعرفه زوجته أبدًا)، وبدا كأنه نادلًا ينحني مقدمًا صينية الطعام، إلا أنه عندما اعتدل كان يحمل طفلًا رضيعًا من كعبيه. أعطى الرضيع خبطة خفيفة على مؤخرته، ليبدأ العويل.
«صار لديكِ ولدٌ بصحة جيدة يا سيدة أندروز»، قال للأم، «وأعتقد أنه يبلغ من الوزن نحو 3.5 كيلوجرامًا. مبروك!»
تناولت السيدة أندروز الطفل، وقبلت خديه النديَّيْن وجبينه. سيطلقون عليه اسم ويليام، على اسم جدها لأبيها. عندما يأتي القرن الحادي والعشرين، سيكون هذا الرضيع ما يزال في الأربعين من عمره. الفكرة نفسها مذهلة، فقد شعرتْ أنها لا تحمل حياة جديدة فقط، وإنما عالمًا كاملًا من الاحتمالات. فكرتْ أن لا شيء قد يكون أروع من هذا.
2 Replies to “الحياة الأخرى – ستيفن كينج – قصة قصيرة”
ممتاز يا دكتور محمد
شكراااا