الإرهاب والكباب.. رؤية «كاپراوية» لمصر الحديثة*
دراسة وولتر أرمبرست
ترجمة: شهاب الخشاب
تُنشر الترجمة بإذن من الكاتب
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
*الفصل الأصلي من كتاب Images of Enchantment
Walter Armbrust. (1998). « Terrorism and Kabab: A Capraesque View of Modern Egypt » IN Sherifa Zuhur (ed.) Images of Enchantment: Visual and Performing Arts of the Middle East. Cairo and New York: American University in Cairo Press, pp. 283-299.
افتُتح فيلم «الإرهاب والكباب» لشريف عرفة عام 1992، واجتذب انتباه الجميع فورًا. أشاد به النقاد المصريون، بينما اندفعت الجماهير أفواجًا لمشاهدته. يصور الفيلم مبنى حكوميًا مصريًا معروف باسم «المجمَّع» – اثني عشر دورًا مرعبًا في الميدان الرئيسي بالقاهرة، أدوار ممتلئة بالسراديب القذرة، وتؤدي إلى مكاتب موظفين متجهمين يحصلون على أجور زهيدة. يبدو قفص الحداثة المعدني الذي تحدث عنه ڤيبر كنزهة في الشمس مقارنة بالمجمَّع، فالمجمَّع عبارة عن قفص مصمت، وبيروقراطية عبثية، وخالية من المنطق الواضح. يقال إن عادل إمام، بطل العمل، تلقى تهديدات بقتله بسبب دوره في الفيلم، الذي ينتقد بشكل صريح عدد الصلوات المبالغ فيه بمحل العمل.[1] الفيلم جريء وطريف، ولم يمر الكثير من الوقت حتى انتبه إليه الغربيون أيضًا. عرضت جمعية دراسات الشرق الأوسط بأمريكا (Middle East Studies Association) الفيلم في مؤتمرها السنوي عام 1994، وأتاحته شركة توزيع في أمريكا للجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وفي النهاية، سمعنا تنهيدات الراحة: «أخيرًا يوجد فيلم مصري مثير للاهتمام، ويكسر قوالب كل الزبالة التجارية التي يستحيل مشاهدتها».
أصبح «الإرهاب والكباب» مألوفًا بالنسبة للأمريكيين، فهو يروي قصة رجل يذهب إلى المجمَّع حتى ينقل أولاده إلى مدرسة أقرب إلى محل إقامته. يتحول هذا المشوار البسيط إلى مهمة مستحيلة. لا تتوقف السيدة في المكتب عن الكلام مع صديقاتها عبر الهاتف. يوجد موظف آخر بالمكتب يبدو سلفيًا، فهو ملتحٍ (مما يمكن أن يعرِّض المرء للاعتقال في مصر حاليًا) ولا يعمل أبدًا لانشغاله بأداء فرض الصلاة. يُقال للرجل إن الموظف الذي يحتاجه ليس موجودًا. إنه مرفه إلى درجة أنه لا يدخل حمامات المجمَّع، لذلك فهو دائمًا خارج المكتب حتى يستخدم أحد حمامات المؤسسات المجاورة الفاخرة. يبحث بطلنا في حمامات فنادق الخمس نجوم، وجامعة الدول العربية، والبرلمان المصري، ولكن دون جدوى. أخيرًا يغضب بشدة ولا يستطيع أن يتحمل المزيد. يعود إلى المكتب الأصلي في المجمَّع ويصرخ في وجه السيدة التي لا تتوقف عن الكلام عبر الهاتف، ويقطع على السلفي الصلاة، وينتهي الأمر بالشجار معه، فيستدعي الموظفون الأمن. يتصارع الرجل المُحبط مع الجندي، وينتزع منه السلاح ويرفعه عاليًا فوق رأسه. تُطلق النار بلا إصابات، ولكن يهرب الجميع من المبنى، بمن في ذلك العساكر، ويبقى الرجل المتواضع، الذي ذهب إلى المجمَّع لنقل أولاده إلى مدرسة أخرى، ممسكًا السلاح في يده ومستحوذًا على بعض «الرهائن» المرتعبة. ينضم بعض المواطنين المهمشين إليه بعد قليل، ويتصدون معًا لقوة الحكومة حتى الفجر. في مجرى الليل، يحكي كل حليف من حلفاء «الإرهابيين» قصة معاناته أو معاناتها. عندما تعلن الحكومة إنذارها الأخير، يطلق «الإرهابي» سراح الجميع، وهو بالطبع مجرد مواطن عادي. يشعر الرهائن بالتعاطف مع «الإرهابيين» حينها، ويصرون على مغادرة المكان مع خاطفيهم السابقين. وعندما تقتحم قوات الحكومة المبنى أخيرًا، لا يتمكنوا من العثور على أي «إرهابي».
ينتقد الفيلم الدولة ومعارضيها الإسلاميين معًا. مع الوضع في الاعتبار التحفظات المعتادة العائدة إلى تعدد وجهات نظر الجمهور، إذ يتوقع المشاهدون الأمريكيون عمومًا أن المخرج قد وضع نفسه في موقف مستحيل غالبًا، بين المتشددين الغاضبين من ناحية، والنظام الذي شعر بالإهانة من ناحية أخرى. إن الجرأة السياسية المفترضة عند مخرجين مثل شريف عرفة ترجح كفة الأفلام المصرية التي تحاول اختراق الأسواق الخارجية. لا يوجد شك في أن اختيار «الإرهاب والكباب» للعرض في الولايات المتحدة جرى من منطلق الظن أنه يتخطى العرف المعتاد في السينما المصرية – أنه يقول شيئًا كان يستحيل قوله من قبل، وإلا قد لا يغادر مصر مثل كل الأفلام التجارية الأخرى، التي تبدو بالغة الميلودراما أو الانحطاط أو السذاجة بدلًا من أن تكون جديرة بالاهتمام.
طرحي متعلق بأن «الإرهاب والكباب» لا يعبر عن نقد اجتماعي وسياسي جريء بالفعل، بل عن جرأة محافظة جديدة تحاول استعادة مفاهيم الحداثة والوحدة الوطنية التي سقطت في نظر الأفلام المصرية الأخيرة. على عكس الافتراضات الضمنية المعتادة في الغرب عن عدم جدوى جميع الأفلام المصرية، فيما عدا البعض المختار للعرض هناك، تقدم مشاهدة «الإرهاب والكباب» في سياق الأنواع السينمائية المعروفة التي سبقته مباشرة وجهة نظر قيّمة عن الموقف السياسي للفيلم. يوجد فيلم محدد يكشف الكثير عن الخلفيات التي يحاول أن يتفاعل معها «الإرهاب والكباب»، وهو «رمضان فوق البركان». يستدعي هذا الفيلم المقارنة مع «الإرهاب والكباب» لأنه كان سلفه بشكل ما، ونقيضه بشكل آخر. ليس «رمضان» معروفًا خارج مصر بنفس قدر «الإرهاب والكباب»، ولكن نجم الفيلمين هو عادل إمام، وتجري معظم أحداث الفيلمين في نفس الموقع – المجمَّع الضخم المنفر. أُنتج «رمضان» عام 1985، قبل سبعة سنوات من «الإرهاب والكباب». ومقارنةً بالفيلم اللاحق، يقدم صورة أبشع عن المجمَّع ورواده بأشكال مختلفة، وعن المجتمع المصري المعاصر بالتبعية. تعطينا مشاهدة «الإرهاب والكباب» منظورًا قيمًا عن مغزى الفيلم عبر تناصه مع سياق أوسع من الأعمال المنتجة في فترته.
ابن البلد يذهب إلى المجمَّع
لا تُقدَّم الأفلام التي نراها باعتبارها مقولات راسخة داخل مجال خطابي ما، بل باعتبارها مثل اللاجئين المحظوظين القادمين من عالم غير مطروق.
تتماثل أعمال فرانك كاپرا [2] Frank Capra جيدًا مع مكانة «الإرهاب والكباب» في الخطاب المصري المعاصر عن الحداثة والعلمانية والأهمية المتصاعدة للدين المُسيَّس، وخاصةً كوميديات الـ«سكروبول»[3] screwball التي صنعها كاپرا بين عامي 1933 و1941 – أفلام مثل «حدث ذات ليلة» (It Happened One Night)، و«السيد سميث يذهب إلى واشنطن» (Mr. Smith Goes to Washington)، و«التقوا بجون دو» (Meet John Doe). توجد حدود للمقارنة بين السينما الأمريكية في فترة الكساد الكبير والسينما المصرية المعاصرة بالطبع، ولكن ربما تفيدنا كوميديات كاپرا والمحيط الذي نشأت فيه كأدوات للاسترشاد. ترى إحدى التأويلات لنجاح تلك الكوميديات أنها تمثل رد فعل على الاغتراب الناتج عن زمن الكساد، وتهدف إلى الهروب من الواقع، وهكذا تأخذ من نفس الطبع الذي أساء إلى سمعة أفلام مثل «تربية بيبي» (Bringing Up Baby) و«لا شيء مقدس» (Nothing is Sacred). تلك الاتهامات مألوفة تمامًا في النقاشات حول السينما المصرية، ولكنها غير مألوفة في النقاشات المعتادة حول أفلام شريف عرفة، وتحديدًا «الإرهاب والكباب». أما النزعة الأخرى في تحليل كوميديات السكروبول الأمريكية، فهي تؤكد على خلفية كوميديات كاپرا – الخوف من البطالة والفقر المدقع أثناء الكساد الكبير – وترى الأفلام كوثائق للوعي الاجتماعي.[4] هذا ما يقترب من طريقة استقبال «الإرهاب والكباب»، ولكن ليست رؤية «الوعي الاجتماعي» ولا أطروحة «الهروب من الواقع» مقنعة تمامًا، سواءً كان بالنسبة للكوميديات الأمريكية أو لـ«الإرهاب والكباب».
لدى الباحث السينمائي الأمريكي أندرو برجمان (Andrew Bergman) رؤية أكثر تماسكًا عما كانت تتحدث عنه كوميديات السكروبول:
«ترتبط الجاذبية الساحقة لكوميديات السكروبول بالمجهود الذي بذلته لكي توفق بين ما يستحيل توافقه. لقد اختلقت أمريكا الوحدة المثالية: كل الطبقات واحدة، والفرق بين المدينة والريف مُحطَّم، ويسود الحب والأدب والشعور بحسن المجاورة neighborliness».[5]
بعبارة أخرى، لم تعبر الأفلام عن وجهة نظر اجتماعية بقدر ما كانت تسعى إلى هندستها، ما يضفي معنى لاعتراض جيمي ستيوارت (Jimmy Stewart) الانفرادي داخل مجلس النواب في «السيد سميث يذهب إلى واشنطن»، أو رفض جاري كوپر (Gary Cooper) للديماجوجية في «التقوا بجون دو». يعترف الناس الصالحون بقضايا أبطال الفيلم الصحيحة في ذاتها، ثم يساندونها في نهاية الأمر، والأفلام مبنية لكي يستطيع البشر من جميع الخلفيات الاجتماعية أن يروا أنفسهم كذلك بشكل معقول. إن التشابه مع «الإرهاب والكباب» واضح. في الفيلم المصري، ينتهي الأمر إلى أن يصبح الجميع أصدقاءً، أو على الأقل يتفاهمون بشكل أفضل مقارنةً ببداية الفيلم. في المشهد النهائي، يسير الإسلامي في تكاتف مع العلماني المفترض، ويتم تقديم المسؤولين الحكوميين على أنهم صادقون، إن لم يكونوا عاجزين أمام المشاكل التي يواجهونها. لدى كل الآخرين فرصة للتعبير عن شكواهم، وينتهي الأمر إلى أن جميع الشخصيات تعود إلى الوضع اللائق بهم، وهم مستعدون للاستمرار في الحياة. يبدو المجتمع قابلًا للتعايش إن سعى الجميع نحو التعايش مع الآخرين بجهد أكبر.
ولكن التماثل بين «الإرهاب والكباب» وكوميديا مثل «السيد سميث يذهب إلى واشنطن» يحتوي على ما هو أكثر من الاعتناء المشترك بتصوير الوحدة الاجتماعية. فيما يخص الأفلام الأمريكية، يؤكد برجمان أن كوميديات كاپرا في فترة الكساد صدرت عقب نوع مختلف تمامًا من كوميديا الكساد، وتزامنت معها إلى حد ما – وهي سخرية ويليام فيلدز (W.C. Fields) والإخوة ماركس (Marx Brothers) الحادة. نشأ تراث كوميديا السكروبول اللطيفة عن علاقة بالفوضى التهريجية التي احتفت بالانحطاط وتكوين الثروة بأي وسيلة، وبشكل أساسي عبر الخداع. وكما تصادف الأمر، نشأ «الإرهاب والكباب» عن نفس الخلفية تقريبًا. في الحالتين، سوف نفهم الكثير إذا تناولنا الأفلام اللاحقة بشكل مُتناص. إنها لم تُصنع في فراغ، بل كجزء من مجال خطابي مهيّأ حسب نوايا المؤلفين.
تتأثر الأفلام أيضًا بظروف صناعتها الاجتماعية الاقتصادية، والأهم من ذلك، بتأثير الجماهير الفعّال. لم يحاول فرانك كاپرا في كوميدياته السكروبول أنه يصنع أعمالًا متناصة عن عمد؛ لم يكن يبحث كما قال روبرت ستام (Robert Stam) عن «التركيز في التناص الفيلمي» بين عمله وعمل صناع الأفلام الآخرين.[6] لم تكن المظاهر المعتادة للتناص مثل الإشارة والباروديا والباستيش والمحاكاة جزءًا علنيًا من هدف كاپرا.[7] ولكنها ليست ضرورية، لأنه كان بوسع جماهير فترة الكساد الكبير التي «قرأت» نصوص كاپرا أن تنتج تناصها الخاص – فيمكن أن تأتي الباروديا والباستيش والمحاكاة والإشارة من زوايا أخرى بخلاف زاوية المؤلف. على الأقل، كانت ذكرى «شربة البط» (Duck Soup) للإخوة ماركس حاضرة غالبًا في ذهن الجماهير التي شاهدت «حدث ذات ليلة» في عام 1934. فالمفارقة داخل نوع واحد (الكوميديا) تكاد أن تكون محتومة، بين التفكيك الساخر للحكومة عند الإخوة ماركس أو تدميرها الصريح في الواقع، ورسالة الوحدة وإعادة البناء المحملة بالأمل عند كاپرا. لا يمثل أيًا من الفيلمين رواية مقنعة عن العلاقة بين إنتاج الأفلام واستهلاك الجماهير أثناء الكساد، ولكن يبيّن الفيلمان عبر سياقات جماهيرهما بدايات الخطوط العريضة للخطاب الكوميدي أثناء فترة الكساد، الذي يتميز بالميل النابذ نحو التهريج الساخر عند الإخوة ماركس، والميل الجابذ نحو المديح في الوحدة الاجتماعية عند كاپرا.[8]
يمكننا أن ننظر أيضًا إلى «الإرهاب والكباب» بشكل مُتناص. تميل الطريقة التي يتعامل بها القراء مع معاني النصوص الفيلمية المصرية إلى الاختفاء في التحليلات المتمركزة حول السياق الأمريكي. من الطبيعي ألا يستطيع المشاهدون الأمريكيون أن يحللوا بشكل دقيق كيف تتعامل الجماهير المصرية مع تلك المعاني عن بعد. وأحد الشروط البديهية لمثل هذا التحليل ربما يكون اكتساب تقدير عما تستهلكه فصائل كبيرة من الجمهور في مصر بخلاف الأفلام التي تُعرض في الولايات المتحدة. أؤكد أني أقدم هذه النقطة تحديدًا لأن من أوائل الأشياء التي تُفقد عادةً في السياق الذي تُعرض فيه الأفلام المصرية في أمريكا (أي ورش الأفلام والمهرجانات) هي تناص الفيلم. ليس لدى أحد في مثل هذه المناسبات وقتًا للأفلام المصرية، بمن في ذلك أعداد كبيرة من المثقفين المصريين، ما عدا القلة القليلة من الأفلام التي يُنظر إليها باعتبارها خارجة عن تراث سينمائي مُحتقر عمومًا. لا تُقدَّم الأفلام التي نراها باعتبارها مقولات راسخة داخل مجال خطابي ما، بل باعتبارها مثل اللاجئين المحظوظين القادمين من عالم غير مطروق يضم منتجات الرفاهية الصناعية، التي يبدو تحليلها مستحيلًا بطريقة غريبة.
عادل إمام
اختلفت «مدرسة المشاغبين» تمامًا. اختطف الممثلون النص المسرحي حرفيًا، وتحول النص المكوّن من تسعين صفحة إلى مسرحية من أربع ساعات عبر الارتجال الوقح.
إحدى النقاط التي يبدأ عندها انهيار المقارنة بين الأفلام الأمريكية في فترة الكساد الكبير والسينما المصرية المعاصرة هي درجة اختلاق مخرجي تلك الأفلام للإشارات المتناصة المقصودة. يقترح روبرت ستام أن مخرجًا مثل وودي آلان (Woody Allen)، الذي يسعى إلى استخدام التناص عن عمد، «لا يخفي ما يستعيره، بل يقترح أن الاستلاب جزء أساسي من عملية الإبداع».[9] من الواضح أن فرانك كاپرا لم يفعل ذلك في كوميدياته الثلاثينية؛ لم يكن تناص كاپرا تناص المؤلف الواعي، بل تناص القارئ.[10] في المقابل، يقع شريف عرفة في «الإرهاب والكباب» بين اقتباس وودي آلان الواعي بذاته ومهارة فرانك كاپرا الضمنية في التفرقة بين تفاؤله المشرق وعدمية الإخوة ماركس وويليام فيلدز. مفتاح أسلوب التناص عند شريف عرفة هو اختيار الممثلين، وخاصةً اختيار عادل إمام في دور البطولة.
إن الممثلين المشهورين في السينما التجارية كالنصوص في ذاتهم – نصوص معقدة للغاية وتتشكّل بالطبع حسب المواقع الاجتماعية المتعددة لأي جمهور، وحسب الربط الذي تربطه الجماهير بين النجم وجميع أدواره السابقة، وحسب مجالات ثانوية أيضًا مثل مجلات النجوم والنميمة.[11] تخيّلوا مثلًا «المطاردون» (The Searchers) لجون فورد (John Ford) ببطولة ممثل آخر بخلاف جون وين (John Wayne). فربما يخلق تصوير فورد لقسوة الحدود وإيحاءات زنا المحارم فيلمًا ممتازًا مهما كان الممثل في البطولة مقتدر، ولكن مع جون وين، أصبح الفيلم مروعًا وعصيّ على النسيان. لماذا؟ لأننا لم نشاهد فقط «المطاردون» القاسي، بل أيضًا «مركبة السفر» (Stagecoach)، و«السفر الطويل إلى المنزل» (The Long Voyage Home)، و«الرجل الهادئ» (The Quiet Man)، و«كان يمكن التخلص منهم» (They Were Expendable)، بدون ذكر الأفلام العديدة التي عمل فيها وين مع مخرجين بخلاف فورد. لم يكن «معنى» جون وين مسألة نصية فقط، بل كان متعلقًا بوقت وظروف مشاهدة الناس للأفلام. والأثر الإجمالي هو تحويل جون وين إلى أيقونة محددة للأيديولوجيا الأمريكية، وهي أيديولوجيا تعزز الرجولة والخشونة والشرف. لذا أضافت مشاهد تشويه الجثث والاشتهاء ببنت أخيه في «المطاردون» طبقة معقدة من المشاعر إلى فيلم كان ثريًا بالتعقيدات في الأساس حسب تحليل شكلي صافٍ للنص. يستحيل أن يمثل أي ممثل آخر نفس الدور بنفس الطريقة أو ربما بنفس الفاعلية.
الخلاصة أن جماهير الأفلام التجارية تشاهد الأفلام عن طريق الممثلين وليس عن طريق المخرجين. كان دارسو الأفلام يحتقرون تلك النزعة إلى وقت قريب.[12] أما پيير بورديو (Pierre Bourdieu)، فقد تبنى منهجًا اجتماعيًا أفضل للنظر في العلاقة بين نصوص الأفلام والجماهير. لاحظ بورديو أن معرفة أسماء المخرجين في فرنسا ترتفع بالتناسب مع مستوى تعليم الجمهور.[13] هناك علاقة شبيهة في الغالب بين مستوى التعليم والميل إلى التفكير في الأفلام كنتيجة الإبداع الفردي في مصر، رغم عدم وجود مادة إحصائية تعادل مادة بورديو لإثبات تلك الافتراضات بشكل عملي. ولكن إذا أردنا أن نفهم المعنى الاجتماعي لفيلم مثل «الإرهاب والكباب»، يجب أن نتبع بورديو ونسمح بإحالة بعض الهالة التي تحيط بالمؤلف إلى الممثلين، على الأقل إذا قصدنا توسيع وجهة نظرنا بعيدًا عن دراسة الجماهير النخبوية. إن فعلنا ذلك في حالة «الإرهاب والكباب»، سنبدأ في كشف التباس ما في الفيلم، وهو غالبًا غير ملحوظ بالنسبة لمعظم المشاهدين الأمريكيين. سوف أعود لهذا الالتباس بعد قليل.
لنعد قليلًا إلى المقارنة مع كوميديا السكروبول. تمتعت أفلام فرانك كاپرا بعبقرية إخراجية – كثيرًا ما كان هو الذي يصنع النجم وليس العكس. كان كلارك جيبل (Clark Gable) ممثلًا ثانويًا قبل أن تدفع به «حدث ذات ليلة» إلى القمة. ولكن القوة الدافعة خلف الكوميديات التي تزامنت تاريخيًا مع كوميديات كاپرا هم الممثلون: «ريش الحصان» (Horse Feather) للإخوة ماركس و«أرجل بمليون دولار» (Million Dollar Legs) لويليام فيلدز. تعتمد تلك الأفلام على نكات مرئية وألعاب لفظية فودفيلية، وكثيرًا ما بدت بليدة للنقاد، لكنها كانت جذابة للجماهير، وتحديدًا في أوائل سنوات الكساد الكبير. انتصر المخرج في نهاية الأمر. وصلت فوضى الفودفيل السينمائي إلى أعلى موجتها في «شربة البط» للإخوة ماركس و«كوب البيرة المميت» لويليام فيلدز، وبينما تعايشت كوميديا السكروبول مع الفودفيل طوال الثلاثينيات، ليس هناك شكٌ عمَّن انتصر في النهاية.
لنعد إلى أفلامنا المصرية مرة أخرى: ما هي العلاقة بين الممثلين والمخرجين في «الإرهاب والكباب» وسلفه «رمضان فوق البركان»؟ الفرق غير واضح. إذا اكتفينا بطرح أن عمل شريف عرفة أفضل شكليًا من عمل أحمد السبعاوي (مخرج «رمضان»)، سيكون ذلك ضربًا من الاستسهال. شريف عرفة هو فرانك كاپرا في مصر، بينما السبعاوي مجرد شخص أخرج بعض أفلام عادل إمام. إنما المشكلة أن عادل إمام هو بطل الفيلمين. إنه فطحل السينما المصرية – عظيم إلى درجة أنه يتصدر الصورة بشكل يغطي على المخرجين. حاز عادل إمام على هذا القدر من الشهرة عبر اختلاق صورة محددة تاريخيًا على الشاشة، وهي الصورة التي يحملها معه في أي فيلم يختار أن يظهر فيه بالتأكيد. من وجهة نظر جمهور السينما التجارية، والذي لا يُعتبر المخرج بالنسبة له نقطة البيع الرئيسية بالضرورة، ربما يعادل اختيار عادل إمام في بطولة «الإرهاب والكباب» وضع جراوتشو ماركس (Groutcho Marx) إذا قبل بطولة «قابلوا جون دو». حتى على افتراض أن جراوتشو يبذل أقصى جهد لأداء الدور بجدية، لا يمكن ضمان أن الجمهور لن يرى الأمر مضحكًا عندما يتخذ البطل موقفه الجريء ضد رؤوس المال الكبرى والديماجوجية، لأنه ما زال يرى روفوس فايرفلاي (وهي شخصية جراوتشو ماركس في «شربة البط») يبذل أقصى جهد مَرِح في إدارة جمهورية فريدونيا حتى يفسدها. كذلك بوسع المخرج أن يصور جون وين وهو يشوه الجثث، ويقدم تعليقًا ساخرًا على كل أدوار وين البطولية، ولكنه لا يمكن أن يضعه في دور جيري لويس (Jerry Lewis). الخلاصة أن عادل إمام، مثل جراوتشو ماركس وجون وين، يتقدم لأدواره محمَّل بخلفية ما. بنيت سمعة إمام على العبثية المطعمة بجرعة كثيفة من العدمية.[14] من المؤكد أن وضعه في «الإرهاب والكباب» ليس متطرفًا إلى درجة اختيار جراوتشو في محل جاري كوپر، أو اختيار جون وين في دور جيري لويس، ولكن ما زال المبدأ العام ينطبق عليه. يستدعي استخدام إمام تاريخه. إن «الإرهاب والكباب» يحتفظ بالعبثية الذي بنى عليها عادل إمام مسيرته، فهل يمكنه التخلص من العدمية تمامًا؟
تعيدنا العدمية إلى «رمضان فوق البركان». هذا الفيلم هو الجزء الأخير من ثلاثية بدأت مع «رجب فوق صفيح ساخن» (1979) و«شعبان تحت الصفر» (1980). الثلاثة من أعمال مخرجين مختلفين، ولكنهم موصولين بأكثر من شكل. أولًا، يحمل البطل في كل تلك الأفلام اسم شهر من شهور التقويم الإسلامي – رجب وشعبان ورمضان، أي من الشهر السابع إلى الشهر التاسع على التوالي. دائمًا ما تكون الشخصية الرئيسية فوق شيء أو تحته، ما يوحي بإحساس التزعزع. تصف الأفلام إجمالًا حركة نحو مركز مديني ما، ويبدأ كل فيلم أقرب وأقرب للمركز من الفيلم السابق. يرتفع كذلك المستوى التعليمي لكل شخصية بالتسلسل تدريجيًا، ولكن ليس أبدًا إلى درجة أنه يصلح كمنتج تعليمي «مكتمل». يبرز الفيلم الذي بدأ الثلاثية دور الفلاح عند وصوله إلى المدينة، وهو «رجب فوق صفيح ساخن». أعاد الفيلم الثاني إنتاج فيلم مصري من الأربعينيات، والذي يحكي قصة شخص أوقف تعليمه في المدرسة الثانوية، ويعمل كموظف في إحدى مدن الدلتا لصالح قسم استصلاح الأراضي، وهو «شعبان تحت الصفر». أما «رمضان فوق البركان»، فهو عن موظف يعمل بالمجمَّع. الخلاصة سريعًا أن التركيز ينتقل من فلاح نصف متعلم في الفيلم الأول، إلى موظف ريفي نصف متعلم في الفيلم الثاني، إلى موظف مديني استكمل نصف شهادة جامعية في الفيلم الثالث، أي ينتقل التركيز بين الريف ومدينة صغيرة ومدينة كبيرة، ويرتفع المستوى التعليمي قليلًا مع كل خطوة أقرب من المركز.
المشكلة هي أن قلب المدينة التي يتحرك نحوها البطل فاسدٌ تمامًا في كل حالة. تستسلم الشخصيات المتتالية إلى الفساد الشائع في المدينة، والنتيجة دائمًا نفسها – ينتهي الأمر إلى سجن رجب وشعبان ورمضان. إن فساد المدينة التام أمر هام، ففي الثمانين أو التسعين عامًا السابقة في تاريخ مصر، كان التركيز الأيديولوجي في الخطاب الرسمي دائمًا حول قيمة التعليم والمؤسسات والصناعة والحداثة، وهي بالطبع أحجار الأساس فيما يمكن نصفه باسم «العلمانية»، وتلك الأحجار مدينية في هذا السياق. لقد انعكس الوضع المتميز التي تتمتع به المدينة في الأفلام ووسائل الإعلام الجماهيرية الأخرى منذ زمن بعيد. كان الموظفون والأطباء والمحامون والطلاب والطيارون وضباط الجيش والمسؤولون الحكوميون هم محور التركيز وحاملو الأخلاق في نفس الوقت، منذ بداية السينما المصرية في أوائل الثلاثينيات وحتى السبعينيات. تمحور التركيز أحيانًا حول شخصية تمثل الرجل العادي – سائق النقل والجندي والفلاح – ولكنهم كانوا مصوّرين في مخاض التغيير أيضًا، وهم يسيرون نحو مركز قومي مُتخيل حيث يتعايش التقدم مع الأصالة في تناغم.
لم تكن فترة شهرة عادل إمام فترة الحداثة البناءة، بل فترة ما بعد السبعينيات. لقد كان نشطًا في المسرحيات والأفلام منذ منتصف الستينيات، ولكن صعد نجمه في مسرحية «مدرسة المشاغبين» عام 1972. يدور نص «مدرسة المشاغبين» حول جهود مُدرسة تحاول أن تهذّب مجموعة من الطلاب الخارجين عن السيطرة وغير المنضبطين. أولًا كان عليها التوافق مع قائد عصابة الطلاب والمشاغب الأكبر، الذي أدى دوره عادل إمام. ثم يتم تسجيل مقاومة الطلاب عبر بعض الطرائف المبهجة. ولكن في النهاية، تقنعهم المدرسة بقيمة التعليم، وتحولهم هكذا إلى مواطنين نافعين – وهذه هي الرؤية الإيجابية للحداثة بامتياز. أما أثناء العرض، فاختلفت «مدرسة المشاغبين» تمامًا. اختطف الممثلون النص المسرحي حرفيًا، وتحول النص المكوّن من تسعين صفحة إلى مسرحية من أربع ساعات عبر الارتجال الوقح، والكثير منه كان ذا طابع سياسي. فقد قلل الممثلون من شأن النهاية، حيث يتم حل جميع المشاكل بشكل ملائم وتتأكد قيمة التعليم. لم يكتفوا بمعاملة التعليم بعدم احترام تام (وهو مؤسسة حداثية أساسية)، بل نكّتوا أيضًا على جمال عبد الناصر، الذي كان قد توفى منذ فترة قصيرة، وصبغوا العرض بالسخرية حتى تجاه سياسات السوق الحرة السبعينية للسادات.
قدّرت الجماهير التحطيم الذي أجراه عادل إمام للنص، ولكن لم يقدره النقاد. تجاهلت العروض الصحفية المكتوبة عن المسرحية شخصية عادل إمام، وغالبًا ما مدحت مديري المدرسة، الذين كانوا مجرد شخصيات معرّضة لتهريج عادل إمام وعصابة المشاغبين أثناء العرض. تأفف المثقفون الرسميون من الاستعراض الرخيص المنتشر في المسرح التجاري، والذي دائمًا ما كانوا يقارنونه بالعصر الذهبي لمسرح الدولة في الستينيات. وطبقًا لمعظم المعايير الشكلية، فكان النقاد محقين. إن «مدرسة المشاغبين» مسرحية سيئة للغاية. ورغم ذلك فقد كانت اللحظة الحاسمة في حياة عادل إمام المهنية، وفي الثقافة المصرية بعد الستينيات عمومًا. انفتحت بوابات السد، وبدأت تتدفق عبرها سيول نوع جديد من التخريب. من حيث الكوميديا السينمائية، سادت روح عابسة من السخرية والانقسام تمامًا. أصبحت المؤسسات الحداثية القديمة والاقتصاد الجديد مستهدفين بشكل أساسي. في السنوات الأخيرة، عندما تحول عادل إمام إلى رجل النظام بامتياز، وهذا بسبب موقفه تجاه الإسلاميين المتشددين بشكل كبير، أصبح من السهل التغاضي عن حقيقة احتقار النقاد له في معظم حياته المهنية، وكيف كان رمزًا للانحطاط وليس منقذًا الدولة.
إن «رمضان فوق البركان» هو النموذج المثالي لعادل إمام في قمة مجده. يؤدي إمام دور رمضان، وهو موظف بالخزينة في المجمَّع. لا بد من التأكيد على أن المجمَّع مكان حقيقي وليس ستوديو. معظم الناس يعرفون شكله من الخارج على الأقل، بما أنه يشغل جانبًا من نقطة التنقل الرئيسية في القاهرة، والكثيرون يقضون مشاوير هناك. اقتضى تحويل المجمَّع إلى موقع للعبث جهدًا بسيطًا للغاية من صناع الفيلم، لأن سمعته الراسخة هي أن بداخله «يجب التخلي عن كل أمل».
يعبِّر الفيلم عن الإذلال التام التي تتعرض إليه الطبقة الوسطى، والذي يتبعه استسلام واعٍ للمادية بدون أي محاولة لاسترجاع القيم والعُرف، أو للإيحاء بأي إحساس بالندم عند البطل. يؤكد الثلث الأول من الفيلم على الإذلال. في المشهد الأول، نرى رمضان مع صديقه بشبيشي، وهو عامل نظافة يعدّ الشاي للموظفين في المجمَّع بجانب عمله الرئيسي، وهكذا يربح أكثر من رمضان. إنهم يتسلمان جدول الرواتب من البنك، الذي يحتوي على 400,000 جنيه مصري بالقصاصات الصغيرة. يحمل رمضان النقود في حقيبة بُنية مُثقلة بالأموال إلى درجة أنه لا يستطيع رفعها إلا بالكاد. لا يمكنهما دفع أجرة التاكسي إلى المجمَّع، فعليهما أن يحملا الحقيبة المليئة بالنقود في الشارع. عندما يصلا إلى المجمع، لا يسمح لهما ساعي المصعد بالصعود إلى الدور الأخير حيث يقع مكتب الخزينة؛ فالمصعد محجوز للناس المحترمة، أي الناس الذين يستطيعون دفع البقشيش للساعي. يتصارع رمضان وبشبيشي مع الحقيبة حتى الدور الثالث عشر، عند الساحة المستديرة المفتوحة بين الأدوار.
عند الدخول إلى المجمَّع، أول شيء نراه هي تلك الساحات المستديرة التي تصعد إلى الأعلى، مثل البرَّامة الضخمة، ويحتل هذا المنظر مكانًا هامًا في «رمضان فوق البركان» و«الإرهاب والكباب» كذلك. عندما يصل رمضان وبشبيشي إلى الخزينة، يجلس رمضان على مكتبه، والحقيبة المليئة بالنقود بجانبه. ينادي بشبيشي الموظفين، ويأتون مثل القطيع الهائج. تترنح على رأسهم امرأة حامل بصعوبة، ولكن يزيحها قطيع الموظفين جانبًا بشكل غير مهذب أثناء اندفاعهم نحو مكتب رمضان (معظمهم رجال ببدل، ومشتاقون لقبض مرتباتهم). يجبرهم رمضان المشمئز على الانتظار حتى يعطي للسيدة الحامل راتبها أولًا. هكذا يُظهر ملامح الاحترام البديهية، وفي بعض المشاهد الأولى، تظهر استحالة إفساده. ولكن خلاصة الفيلم لا تخص استحالة الإفساد (التي تنتهي سريعًا)، بل أن سمعته الجيدة لا تجلب له الاحترام.
تمثل مشاهد دفع الرواتب مجرد عيّنة صغيرة من الفيلم (ليس أكثر من خمس دقائق)، ولكنها كافية للإيحاء بنظرة قاسية جدًا عن المجتمع الحديث. إنها فعليًا أكثر قسوة من «الإرهاب والكباب»، أو على الأقل أكثر خبثًا وسخريةً. يؤكد الفيلم على عبثية الحياة القاهرية عبر علاقة رمضان بخطيبته ووالدتها. يعيش رمضان في عمارتهن، ولكن في «عشة» مهمشة فوق السطوح – وهو عادة ما يكون المكان الذي يعيش فيه الخدم. وتعامله حماته المستقبلية كالخادم بالضبط. تبعثه في مشاوير متعبة لا نهاية لها، ويُظهر كل واحد من تلك المشاوير جوانب أخرى من حياة الذل الذي يعيشها. في لحظة ما، نرى رمضان متحدثًا مع والدة خطيبته القامعة، والتي تتكلم بصوت يمكنه تحطيم الزجاج. يقول لها إنه وفَّر فقط 600 جنيه مصري بعد خمسة سنوات، ويشير إليهم بتعبير الـ«براطيش» (أي الأحذية القديمة).
تجيب باحتقار: «عايز تتجوز بنتي وتنيّمها فوق السطوح؟ (...) شوف يا رمضان، ماتزعلش مني، أنت لا تصلح للجواز متلكًا (مطلقًا)!»
ويجيب رمضان: «متلكًا؟ متلكًا ليه بقى؟ ناقص إيد؟ ولا ناقص رجل؟ ولا ناقص... منخار؟»
وتجيب: «لا! ناقص فلوس (...) افرض إن دي أختك، ترضى تبهدلها مع واحد زيك؟»
ويكرر: «واحد زيي؟ ما له اللي زيي يعني؟ يا ستي أنا لا هبهدلها ولا حاجة، أنا هحطها في نني عيني من جوه» (...)
وتقول باحتقار: «يابني إحنا مش عايزين عينيك، عايزين جيبك. دلوقتي اللي إحنا فيه ده، وقت فلوس. معاك فلوس؟»
ويقول: «لا، معايا براطيش».
وتنهي الحوار: «خلاص. تبقى برطوشة ما تسواش».
تتمحور قصة «رمضان فوق البركان» حول الاختلاس؛ لا يتحمل رمضان الوضع في النهاية، ويسرق من الرواتب بدلًا من صرفها لموظفي المجمَّع الفظّين. لسوء الحظ يختار نفس اليوم للسرقة الذي اختاره صديقه بشبيشي، وهو يتعاون مع مجموعة من اللصوص المحترفين. يستبدل بشبيشي وشركاؤه بالحقيبة المليئة بالنقود حقيبة تشبهها وممتلئة بالعجوة. ولكن رمضان لديه خطة أكثر تعقيدًا من مجرد سرقة الرواتب. بدون حتى أن يفتح حقيبته، يدفنها في مكان سري، ثم يسلم نفسه إلى الشرطة. السبب هو أن رمضان طالب حقوق فاشل – وهذا انتقاد آخر للنظام التعليمي – ويتذكر فقط شيئًا واحدًا من كتب القانون: أن عقوبة الاختلاس من ستة إلى عشرة أعوام فقط. في أسوأ الأحوال، سيخرج بعد عشرة سنوات ومعه أموال أكثر بكثير مما كان يستطيع كسبه بالعمل الشريف.
تجري الخطة كالسحر. فجأة يصبح رمضان المعترف باختلاسه مشهورًا ومطلوبًا. يطلق البوليس سراحه قليلًا على أمل أنه أحمق بما يكفي ليدلهم إلى الأموال. عندما يعود إلى البيت، تتعامل حماة رمضان السليطة بأقصى دفء معه، رغم أنها قالت له سابقًا إنه لا يصلح لشيء. ويستقبله بقال المنطقة بفرقة موسيقى نحاسية. لقد أصبح بطلًا.
في السجن، يحاول الحراس دفع رشوة لرمضان على اعتقاد أن لديه أموالًا ضخمة مختبئة. وزملاؤه في السجن يجعلونه قائدهم عندما يسمعون بالقصة. يغنون له أغنية قصيرة مرحة تبدأ بجملة «سلام مخصوص لأسطى اللصوص». تكرر معظم الأغنية الاحتفاء العام بجريمة رمضان، وحتى تصبح سياسية في لحظة محددة. يفرش المسجونون سجادًا ويمشي فوقه رمضان، ويؤدي محاكاة ساخرة واضحة للرئيس أثناء استقبال نخبة القوم في أحد الأفلام الإخبارية الحكومية. يسير بجانبه على «السجاد الأحمر» مسجون آخر، وهو يتقمص دور ضابط المخابرات الذي يهمس في ميكروفون مخفي. يستقبل رمضان عدد من الـ«مسؤولين»، ويتم تعريفهم كـ«هفّافين» و«نشالين». ثم يستدير المغني (وهو أحد المسجونين أيضًا) نحو الكاميرا، ويشير إلى خارج السجن ويغني: «دول الحرامية الفكة، بالصنعة دول عالم سَكَّة».
أول مرة رأيت الفيلم عام 1991، شاهدته على جهاز فيديو مع مجموعة من الطلاب الجامعيين. في النسخة التي كنا نشاهدها، تم محو صورة الأغنية، سواءً عبر التخريب أو المنع، ولم تُمح الأغنية نفسها. كل ما رأيناه هي الشاشة البيضاء، ولكن كانت كلمات الأغنية مسموعة. ظنّ الطلاب أنه منع رقابي لأنهم تذكروا السجاد الأحمر ومحاكاة الرئيس الساخرة بناءً على مشاهدة سابقة، وقالوا لي فورًا ما الذي كان يحدث رغم أنه لم يكن بوسعهم رؤيته.
لا ينتهي «رمضان فوق البركان» عند دخول البطل السجن لأول مرة. تكتشف السلطات أخيرًا أنه لم يسرق رواتب المجمَّع في الواقع. يمضي رمضان باقي الفيلم بحثًا عن اللص الذي سرق منه أمواله المسروقة. وبالتوازي، ينجح في تحويل ظنون الناس القوية بخصوص امتلاكه مئات الآلاف من الجنيهات المختبئة إلى مشروع احتيال هرمي. يؤجر الشقق المفروشة – وهي دائمًا علامة خطر في الأفلام المصرية بما أن الشقق المفروشة مرتبطة بالأجانب والنشاطات المخالفة للقانون – ويشكل شركة استيراد وتصدير زائفة اسمها «رمضانكو لأعالي البحار». يرتدي أصدقاؤه من السجن البدل الغربية الأنيقة ويسرعون داخل المكتب ليتظاهروا العمل أمام العملاء المبهورين. يجلس أحد المسجونين السابقين خلف المكتب بسماعة تليفون في يده ويقول: «ييسسسس... نووووو... يس يس يس... نوووو نو نو» حتى يبدي انطباع أن لديهم علاقات وطيدة مع مصالح تجارية أجنبية كبرى. يدخل أحد المسجونين الآخرين ويعلن بصوت عالٍ حتى يسمعه العملاء أنه رئيس مجلس إدارة الجمارك، وأنه مجبر على أن يرجو من وقت المدير ثلاثة دقائق للتحدث عن وصول مركبه الأخير. فيما بعد، يخرج مختلس آخر من السجن ويبحث عن العمل في الشركة. يسأله رمضان عن سبب دخوله السجن، ويجيب «النشل»، ثم يسأله رمضان: «بتعرف تقرأ وتكتب؟» لا. «عندك صنعة؟» لا. «بتفهم في أي حاجة؟» لا. فيقول رمضان إلى أحد شركاه: «عيّنوه في مجلس الإدارة».
يمضي المشروع كالسحر. يتواطأ الطمع مع السذاجة حتى تدور أموال المستثمرين المتفائلين بين يدي رمضان، بما يشمل عزبة أم خطيبته وكل مدخرات عمه الفظّ من الأرياف، الذي سبق له أن رفض إقراض بعض المال إلى رمضان حتى يعقد زواجه. ينتهي الفيلم عندما يعثر رمضان على أموال رواتب المجمَّع الأصلية ويستردها. يجمعها مع أموال مشروع الاحتيال، ثم يدفنها، ثم يسلم نفسه مرة أخرى للشرطة. بما أن صديقه السابق بشبيشي يقضي مدة سجنه بسبب سرقة الرواتب، فيعترف هذه المرة بمشروع الاحتيال، الذي يتتبع حكمًا بسنتين فقط بدلًا من السنوات السبع التي كان من المفترض أن يقضيها في السجن بتهمة الاختلاس. في المشهد الختامي، نرى رمضان في السجن مرة أخرى، ويحظى باحترام الجميع، وهم يغنون معًا «سلام مخصوص لأسطى اللصوص» مجددًا.
الجمل الأخيرة في الفيلم هي: «الحرية تساوي ملايين... يعيش يعيش الحرية!» بعبارة أخرى، الحرية هي مسألة ملايين الجنيهات أو الدولارات فقط – وليست شيء آخر إلا مسألة مال. في "رمضان فوق البركان"، ليست الخلاصة أن الغايات تبرر الوسائل فقط، بل أن الوسائل نفسها عَرَضية تمامًا.
الختام
استطاع عادل إمام أن يتحول في عيون إعلام النظام من الصعلوك الذي كان يستحب النقاد كراهيته إلى رجل الساعة وبطل الدولة العلمانية.
بما إني أقترب من الختام، يجب أن أضيف تحذير بسيط. بجميع المعايير الشكلية، بالطبع لا يُعد «رمضان فوق البركان» فيلمًا ذكيًا مثل ا«لإرهاب والكباب». عند ضرورة الاختيار بين «رمضان» و«الإرهاب والكباب»، ربما يكون الإصرار على اختيار الأول قبل الثاني ضربًا من الحماقة. ورغم ذلك، فمن الأفضل أن نضع الفيلمين في الاعتبار أثناء تحليلهما. إذا ألقينا نظرة واعية بذاتها إلى الأفلام المصرية التي تُعرض في الولايات المتحدة، من الواضح أن جميع الأفلام المصرية التي تُعرض في المدن الكبرى قد تحصل على مرتبة الأفلام الفنية شرفيًا، سواءً كان الغرض منها كذلك أو العكس. في سياق أمريكي، يبدو فيلم مثل «الإرهاب والكباب» كتصريح سياسي جريء – ربما حتى تصريح تقدمي. ففي نهاية الأمر، يميل الأمريكيون إلى البحث عن التصريحات التقدمية في أفلامهم الأجنبية. إن الطابع المحافظ المفترض في معظم السينمات التجارية التي تعتمد على النجوم[15] هي إحدى الأشياء التي تؤكد احتمال فشله في قطاع «الأفلام الفنية» في السوق الأمريكي. ورغم ذلك، فـ«الإرهاب والكباب» هو طبعًا فيلم تجاري يسيطر عليه نجم. يقترح پول ماكدونالد (Paul McDonald) في كتاباته عن مكانة النجومية في الدراسات السينمائية أنه من الأفضل تحليل تلك الأفلام «داخل سياق شبكة أوسع من النصوص الأخرى التي كانت رائجة في نفس الفترة».[16] بعبارة أخرى، من الخطأ أن نعطي لفيلم مثل «الإرهاب والكباب» مرتبة الفيلم الفني الشرفية، فهذا مما يطيح بإحدى الوسائل الأكثر فعالية لتحليله، وهي العقدة التناصية التي يشاهده الجمهور المقصود عبرها. في النهاية، يتكوّن السياق الاجتماعي للفيلم من أشياء أكثر بكثير من أفلام أخرى، ولكن ربما يجب أن يقود حضور النجم، أو «نجم النجوم» كما يطلق على عادل إمام في مصر، استجواباتنا الأولى.
يعد عادل إمام من الأسباب الرئيسية لشهرة «الإرهاب والكباب» في مصر، ولكنه بالتأكيد لم يكن سبب اختيار الفيلم للعرض في الولايات المتحدة. أثناء غالبية حياته المهنية، كانت أفلامه وبدون أي شك هي الأقل احتمالًا للعرض خارج مصر. كان الفيلم ينجح نجاحًا ساحقًا في مصر، ولكن الكثير من أفلام عادل إمام ناجحة دون أن تثير أي اهتمام عند الجماهير الأجنبية. كذلك لم يكن نجاح الفيلم في الغرب نتيجة مهارة شريف عرفة فقط. لقد أخرج عرفة على الأقل فيلمًا واحدًا مثيرًا للاهتمام قبل أن يعلق مصيره بعادل إمام، و«الإرهاب والكباب» هو الثاني من أربعة أفلام صنعها مع إمام. عبّرت كل تلك الأفلام عن نفس روح الوحدة الاجتماعية المتفائلة المشهودة في «الإرهاب والكباب». وبينما يبدو أن التعاون الرابع بين عرفة وإمام على وشك الإلحاق بهذا الفيلم، وهو «طيور الظلام»، فالفيلمين الآخرين تقريبًا مجهولين.
السبب الحقيقي لتداول الفيلم في الولايات المتحدة هو طبعًا وجود كلمة «الإرهاب» في العنوان. وتلتقي طبعًا الكلمة داخل عنوان الفيلم مع انتقاد ذكي موجه إلى الإسلاميين بإحكام، في صورة الموظف الذي لن يتوقف عن الصلاة في المجمَّع. إذن يتلاعب الفيلم جيدًا مع الهواجس الغربية عن الإرهاب وصعود الإسلام السياسي، بدون أن ينحرف نحو الهيستيريا المبتذلة في معاداة الإسلاميين. على الصعيد المحلي، استطاع عادل إمام أن يتحول في عيون إعلام النظام من الصعلوك الذي كان يستحب النقاد كراهيته إلى رجل الساعة وبطل الدولة العلمانية. بدأ التحول الإعلامي في الواقع مع أول فيلم لشريف عرفة مع إمام، وهو «اللعب مع الكبار»، الذي عُرض قبل سنة واحدة من «الإرهاب والكباب»، وكان ناجحًا جماهيريًا بنفس القدر، واستقبله النقاد جيدًا، عكس أي شيء آخر ظهر فيه إمام في العشرين عام السابق.
وفي عام 1993، بعد مرور عام على «الإرهاب والكباب»، صنع إمام فيلمًا آخر بعنوان شبيه، وهو «الإرهابي». في هذه الحالة، تدفق المديح الموجه إلى عادل إمام في إعلام النظام، بل كان المديح متدفقًا إلى درجة أن الكثير تصوّر – غالبًا على غير حق – أن الفيلم من تمويل الحكومة بالتأكيد. لن يُعرض «الإرهابي» في الغرب بنفس قدر «الإرهاب والكباب» في الغالب. فمثلًا لم تهتم جمعية دراسات الشرق الأوسط بأمريكا بعرضه في مؤتمرها السنوي إطلاقًا. يدعم الفيلم الحكومة بدرجة من الفجاجة تضع في الاعتبار التردد المعتاد بخصوص عرض الأفلام التجارية المحافظة في قاعات مكرسة للأفلام الفنية ضمنيًا. وليس هناك أي شك في أن «الإرهابي» فيلم محافظ للغاية. في المقابل، يُشعِر «الإرهاب والكباب» الجمهور الغربي بأنه على الموضة – وكأنه لمحة داخلية عن الطبيعة الفعلية للمواقف المجتمعية تجاه الإسلام السياسي.
ولكن «الإرهابي» و«الإرهاب والكباب» مصنوعين من نفس القماش المحافظ بشكل دال. إنهما يقعان كنصوص خارج الميول النابذة في مصر ما بعد الستينيات. كثيرًا ما تمحورت سينما ما بعد الستينيات حول تدمير الطبقة الوسطى، وانفجار كل شيء، والفجوات المتوسعة بين الأغنياء والفقراء، وضعف المؤسسات. بين السبعينيات و1991، كان لعادل إمام دور أساسي في السينما النابذة. وبالتأكيد، ليست جميع أفلامه ساخرة بنفس درجة «رمضان فوق البركان»، ولكن رمضان ورجب وشعبان هم ضمن أكثر أفلامه نجاحًا، وصُنعت أعداد من أفلامه الأخرى بنفس هذه الروح قد تكفي لأن ينفر منه إعلام النظام. إنما منذ 1991، سعى إلى توحيد المركز الاجتماعي مرةً أخرى. الآن قد تقع الطبقة الوسطى في موضع الإشكال وتحت الحصار، في أفلام شريف عرفة على أي حال، ولكنها متمسكة بقيمها بشدة. ليس الفرق بين تلك الأفلام وأفلام عادل إمام السابقة هو معارضة الإسلام السياسي، التي كانت غير مباشرة إلى حد كبير في «الإرهاب والكباب» على أي حال، بل تتوافق تلك المعارضة مع ماضي عادل إمام.
حتى «رمضان فوق البركان» استهدف السياسة الدينية في عام 1985. عندما يخلق رمضان وأصدقاؤه المسجونون مشروعهم الهرمي، يربطه الفيلم ربطًا ضمنيًا بمشاريع الاستثمار الإسلامية مثل شركة الريان المخزية في منتصف الثمانينيات، والتي اتهمتها الحكومة بإدارة مشروع احتيال هرمي، رغم أن ما زال الكثيرون يعتقدون أنها أُغلقت بسبب علاقتها مع الإسلاميين. نرى رمضان في الفيلم وهو يجلس خلف مكتبه، ويراكم أموال العملاء دون أن يشعروا بارتياب. توجد آية قرآنية مُبروَزة ومعلقة بشكل واضح على الحائط، وهو يستخدم تعبيرات دينية بفجاجة، بينما تركز الكاميرا على السبحة التي يسبّح بها رمضان حين يقنع الناس بإعطائه أموالهم.[17] فالانتقادات الجانبية تجاه التدخلات المرفوضة من الدين داخل المجال التي حددته الدولة بوصفه «علماني» مسموحة في السينما المصرية منذ زمن طويل.
في سياق اختلاق نجومية عادل إمام، والتي تتشكل تاريخيًا واجتماعيًا، يتميز «الإرهاب والكباب» بأنه «كاپراوي»، أي يحاول هندسة نوع من التناغم الاجتماعي الذي أصبح خافتًا في السينما المصرية منذ فترة – ليس ملغيًا في المجمل، وليس حتى غائبًا تمامًا من أعمال عادل إمام السابقة، ولكنه خافت بالتأكيد.
يقترح أندرو برجمان أن وضع كوميديات السكروبول الأمريكية في منتصف الثلاثينيات بجانب فوضى كوميديات بدايات الثلاثينيات يساعدنا على فهم المعنى الاجتماعي لكوميديات السكروبول.[18] في المقابل، يستدعي «رمضان فوق البركان»، وهو نوع آخر من أدوات عادل إمام، روح وقصة فيلم قصير من إخراج ويليام فيلدز إلى حد ما، وعنوانه «كوب البيرة المميت» (The Fatal Glass of Beer). يحكي «كوب البيرة المميت» عن رجل (يؤدي دوره فيلدز) يرى ابنه الوحيد هاربًا إلى المدينة، حيث يحتسي قدرًا من البيرة ويختلس الناس. يصبح فيلدز منقبضًا. ولكن الابن يتفادى الكارثة بشكل أو بآخر، ويعود إلى البيت أثناء تجمع مرح مع والديه. يبدو أن كل شيء انتهى إلى ما يرام، إلى أن يقول الابن للأب أنه تخلّص من كل الأموال المسروقة، فيضرب فيلدز ابنه ويلقيه خارج البيت في الليل المثلج.[19] يمثل فيلدز المقارنة المثالية لحماة رمضان بالطبع، التي تحتقره وتعامله كالخدم عندما كان شريفًا، ثم تستقبله استقبال الملوك عندما تظن أنه لديه ثروة كبيرة، ولا يهمها أن المال مسروق.
وصلت الفوضى السينمائية إلى حدها الأقصى في «كوب البيرة المميت»، الذي لم ينجح، ربما لأن مسار الكساد كان في صدد التغيير، وأصبحت الناس متفائلة حين اتخذت حكومة روزڤيلت مسارًا جديدًا. عندما تفتح الأفق الاجتماعي الاقتصادي، بدأ نوع جديد من الأفلام في الظهور. في عام 1934، السنة التي فشل فيها «كوب البيرة المميت» تجاريًا، أكدت أول كوميديا سكروبول ضخمة على صعود روح جديدة من المواطنة. وقدم «حدث ذات ليلة» مع صوره للوحدة والمعافاة المضادة للغضب الساخر في السينما الأمريكية منذ بداية الثلاثينيات.
تعد العلاقة بين «الإرهاب والكباب» والعقدة التناصية في الكوميديا المصرية أكثر التباسًا. ما هو الفيلم الذي تشاهده الجماهير؟ هل هو عمل شريف عرفة الكاپراوي، الذي يسعى نحو روح من التعافي الاجتماعي؟ أم عادل إمام «كوب البيرة المميت» المنتشر قبل 1991؟ منذ بداية السبعينيات، لا يصعب على الكثير من المصريين أن يقتنعوا بفكرة أن اقتصادهم وقع في حالة أشبه بالانتكاس. وفي المقابل، لا يصعب تحديد موقع المعارضة الشديدة لفكرة أنه هناك أي شيء يعادل الـ«صفقة الجديدة» المصرية (New Deal) لإبداء الإحساس بالتفاؤل. توجد عوامل أخرى يمكنها تسهيل تغيير جذري في السينما المصرية بين نباذة «رمضان فوق البركان» وجباذة «الإرهاب والكباب». تتردد كلمة «الإرهاب» في الأذهان مرة أخرى: في سياق العنف السياسي واحتمال أن الحرب الثقافية بين الحكومة ومعارضتها الإسلامية تخرج عن نطاق السيطرة وتصبح حربًا مسلحة علنًا، لا يمكن أن يبعد المرء تمامًا فكرة أن الرؤى السينمائية عن الوحدة الاجتماعية لديها إقبال جماهيري متجدد بسبب الرفض الحقيقي والشائع للاحتمال المرعب أن تحدث حرب أهلية. ولكن كذلك لا يمكننا أن نفترض أن الفيلم التي تراه الجماهير في مصر هو نفس الفيلم الذي يتم مشاهدته في الولايات المتحدة. ربما الرؤية الكاپراویة في «الإرهاب والكباب» هي مجرد فيلم آخر لعادل إمام في بلده الأصلي. السؤال بالنسبة للمشاهدين الأمريكيين هو: ماذا يعنى فيلم لعادل إمام بالضبط؟
[1] ولكن لم يُثبت أبدًا أن رفض الإسلاميون الانضمام إلى الجماهير التي تجمعت عند السينمات لمشاهدة الفيلم، وربما كانوا يضحكون مع الفيلم بدلًا من إظهار الغضب تجاهه.
[2] فرانك كاپرا (1897-1991) مخرج أمريكي من أصل إيطالي في العصر الذهبي لهوليود، واشتهر عبر أعماله السينمائية الناجحة في الثلاثينيات والأربعينيات، التي قدمت رؤية مثالية عن الحلم الأمريكي، وتحديدًا عن تكافؤ الفرص لمن يريد العمل نحو مستقبل أفضل. (هامش المترجم)
[3] الكوميديا الـ«سكروبول» (screwball) هي نوع من الكوميديا الرومانسية، وانتشر أثناء فترة الكساد الكبير في أمريكا. يتميز هذا النوع بالحوارات الذكية السريعة بين العشاق، والمشاهد الهزلية المبنية على سوء التفاهم المتبادل، ومعالجة المشاكل الاجتماعية عبر خطاب تفاؤلي عن تناغم الطبقات. (هامش المترجم)
[4] Andrew Bergman, We’re in the Money: Depression America and its Films (New York: New York University Press, 1971), 762.
[5] المرجع نفسه
[6] Robert Stam, Subversive Pleasures: Bakhtin, Cultural Criticism, and Film (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1989), 198. يستخدم ستام العبارة في سياق تحليل لأفلام وودي آلان، التي تهدف بشكل واعٍ وبنية ساخرة تامة إلى الاستشهاد بأفلام أخرى. من الواضح أن نية آلان تختلف كل الاختلاف عن نية كاپرا
[7] Chris Rojek, Decentring Leisure: Rethinking Leisure Theory (Thousand Oaks, California: Sage Publications, 1995), 10.
[8] يستخدم أرمبرست مجازًا فيزيائيًا ليشرح الفرق بين نوعين من الكوميديا. القوى النابذة (centrifugal) هي التي تدفع الجسيمات من داخل مركز ما إلى خارجه، والقوى الجابذة (centripetal) هي التي تدفع الجسيمات من الخارج نحو المركز. كذلك تفجر الكوميديا الفوضوية التصورات المتماهية عن المجتمع في جميع الاتجاهات، بينما تجتذب الكوميديا السكروبول تلك التصورات نحو مركز اجتماعي متماهٍ. (هامش المترجم)
[9] Stam, Subversive Pleasures, 198.
[10] هذا لا يعني أن نصوص كاپرا موجودة في فضاء فارغ. إذا تقبلنا افتراضات ما بعد البنيوية عن الطبيعة الحوارية الكامنة في كل النصوص - أن النص حتمًا نتيجة نصوص أخرى - إذن ينطبق نفس الافتراض على كاپرا. ولكن بالطبع، المشكلة هنا هي مشكلة النوايا، وليست مشكلة وضع المقولات اللغوية الأنطولوجي في المجمل.
[11] يعرّف پول ماكدونالد (Paul Macdonald) أربعة مناهج رئيسية لدراسة نجوم الإعلام الجماهيري: علم الدلالة (semiotics)، والتناص، وعلم النفس التحليلي، ودراسات الجماهير. أكثر منهجين اتصالًا بموضوع هذا المقال هما بالتأكيد أول منهجين، أي علم الدلالة والتناص. يطرح ماكدونالد أن تلك المناهج ليست متنافرة بالضرورة. McDonald, "Star Studies," in Joanne Hollows and Mark Jancovich, eds., Approaches to Popular Film (Manchester: Manchester University Press, 1995).
[12] ولكن توجد أدبيات نامية وموضوعية في دراسات الإعلام الجماهيري عن "نظرية استجابة القارئ" (reader response theory). تتمحور معظم تلك التحليلات حول استكشاف لوجهات النظر المتعددة ضمن الجمهور - أي كيف يشكل النوع والطبقة والطائفة وجهة نظر الجمهور. تسير هذه الأعمال عمومًا في اتجاه تفكيك مفهوم متماسك عن نموذج "تركيب وتأويل الشفرة" في إنتاج واستهلاك المادة الإعلامية. إنظر إلى Ien Ang, Watching Dallas: Soap Opera and the Melodramatic Imagination (London: Methuen, 1985); Tania Modleski, Loving with a Vengeance: Mass-Produced Fantasies for Women (New York: Methuen, 1984); David Morley, The Nationwide Audience (London: BFI, 1980); Stuart Hall, "Encoding/Decoding," in D. Hobson, S. Hall, A. Low, and P. Willis, eds., Culture, Media, Language (London: Hutchinson, 1980).
[13] Pierre Bourdieu, Distinction: A Social Critique of the Judgment of Taste (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1984), 26-27.
[14] بدأت النزعة العدمية في أفلام إمام عامًة بعد "رجب فوق صفيح ساخن" عام 1979. ولكن تنبأت بعض أعمال إمام المبكرة في المسرح بسخرية أعماله السينمائية بعد "رجب"، وخاصًة في "مدرسة المشاغبين" عام 1972. انظر إلى Walter Armbrust, Mass Culture and Modernism in Egypt (Cambridge: Cambridge University Press, 1996).
[15] McDonald, “Star Studies,” 80
[16] المرجع نفسه، 83.
[17] بعد سنة، كرر فيلم آخر لعادل إمام، «كراكون في الشارع» (1986، إخراج أحمد يحيى) سيناريو المستثمر الإسلامي كمختلس، وجعل الربط بين الرمزية الإسلامية السطحية والاختلاس أكثر وضوحًا هذه المرة. كانت الآيات القرآنية على الحوائط أكثر زخرفة وبروزًا، وقدم مكتب الاستثمار الإسلامي سكرتيرة محجبة جادة (والحجاب هي طرحة الرأس التي ترتديها بعض النساء المصريات، ولا نراه إلا قليلًا في الأفلام المصرية)، والمختلس نفسه ملتح ويرتدي جلابية بهدف الادعاء.
[18] Bergman, We’re in the Money, 30-41.
[19] المرجع نفسه، 38-39.