رعب هذه المحبة

نص لمارجريت دوراس*

ترجمة: محمود راضي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه

* نُشر هذا النص للمرة اﻷولى في العام 1976، ثم ضُمت مع عدد كبير من المقالات والنصوص النثرية التي كتبتها الكاتبة الفرنسية الراحلة مارجريت دوراس -التي كتبت الفيلم الفرنسي الشهير (هيروشيما حبيبي) للمخرج اﻵن رينيه في العام 1959- ضمن كتاب (أنا وكتابات أخرى) الذي صدر في أكتوبر الماضي.


رسم فيين جوريسين، عن النيويوركر

قالوا لي: «طفلُكِ ميت»، حدث ذلك بعد ساعة من الولادة. ذهبت الراهبة المشرفة كي تزيح الستائر، دخلتْ شمس مايو إلى الغرفة. لمحتُ الطفل حينما مر من أمامي، بين ذراعي الممرضة. لم أره. في اليوم التالي سألت: «كيف كان شكله؟» أخبروني: «أشقر، أشقر ضارب إلى الحمرة، كان لديه حاجبان مرتفعان مثلكِ». «ألا يزال هنا؟» «نعم، إنه هنا حتى الغد». «هل جسده بارد؟» أجابني (ر): «لم ألمسه، لكنه كذلك بالتأكيد، إنه شديد الشحوب»، ثم ارتبك وقال: «إنه جميل، ربما أيضًا بسبب الموت». طلبت أن أراه. رد (ر) بـلا. طلبت من كبيرة الراهبات، قالت لا، وإنه لا مغزى من هذا. أخبرَوني بمكانه، على يسار عنبر الولادة. لم أستطِع الحركة. كان قلبي مُتعَبًا، كنتُ راقدة على ظهري. لم أكن أتحرك. «كيف يبدو فمه؟» قال (ر): «يشبه فمكِ». وفي كل ساعة: «ألا يزال هنا؟»، يقولون «لا أعلم». لم أستطع القراءة. تطلعتُ من النافذة المفتوحة. أوراق اﻷكاسيا المتنامية على جسور خط السكة الحديد المار قرب المستشفى. كان الطقس شديد الدفء. ذات ليلة، كانت اﻷخت مارجريت في الخدمة. سألتُها: «ماذا ستفعلين به؟» قالت لي: «أنا سعيدة أني هنا معكِ، لكن يجب أن تنامي، الكل نيام!» «أنتِ ألطف من رئيستكِ. ستحضرين لي طفلي. ستتركينه معي للحظة!» صاحت: «أنتِ لستِ جادة!» «أنا جادة، أريده في جواري هنا لمدة ساعة. إنه ينتمي إليّ!» «هذا مستحيل، إنه ميت، لا أستطيع أن أعطيكِ ابنكِ الميت!» «أريد أن أراه وألمسه، عشر دقائق!» «لا فائدة من هذا، لن أذهب!» «لم؟» «قد يدفعك ذلك إلى البكاء والسقم.  ثقي بي، من اﻷفضل ألا ترينهم في هذه الحالات». في اليوم التالي، وفي النهاية، قالوا لي كي يخرسوني: إنهم يحرقونهم. كان هذا بين الخامس عشر والحادي والثلاثين من مايو 1942. قلتُ لـ(ر): «لا أريد المزيد من الزوار، ما عداك». ما زلتُ مستلقيةً على ظهري، في مواجهة اﻷكاسيا. خرج الطفل. لم نعد معًا بعد اﻵن. رحل إثر موت منعزل. منذ ساعة، منذ يوم، منذ ثمانية أيام، موت منفرد، موت حياة عشناها تسعة أشهر معًا، حياة غادرها على انفراد. ارتدت بطني متثاقلة على نفسها، ملبس مهترئ، خرقة بالية، كفن، لوح، باب، ذلك الفراغ في البطن، مع أنه قد حمل هذا الطفل، حيث نمت تلك الفاكهة البحرية في حرارة أحشائه الدبقة الناعمة. قتله ضوء النهار. صُعِق ميتًا بعزلته في الفضاء. يقول الناس: «اﻷمر ليس رهيبًا هكذا عند الميلاد، هكذا أفضل». هل كان رهيبًا؟ هكذا أظن. بسبب ذلك بالضبط: قدومه إلى العالم تصادف مع موته. لا شيء. لم يبق لي شيء. كان هذا الفراغ رهيبًا. لم أحظ بطفل، ولا حتى لساعة. أُجبِرتُ على تخيُّل كل شيء. دون حراك، أخذتُ أتخيل. الطفل الكائن ها هنا، النائم، ذلك الطفل، للتو، ضحك. ضحك لدمية على شكل زرافة أعطاه إياها شخصٌ ما. ضحك وتردد صوت الضحك. كان الجو عاصفًا ووصلني بعض من صوت الضحك. لذا رفعتُ الغطاء قليلًا فوق عربته. أعطيتُه زرافته ثانية حتى يضحك أكثر، وحشرتُ رأسي داخل الغطاء لألتقط كل صوت الضحك. ضحك طفلي. وضعتُ أذني على القوقعة وسمعتُ صوت البحر. كانت خاطرة احتمال ضياع هذه الضحكة في الريح غير مُحتملة. التقطتُها. كانت لي. أحيانًا حين يتثاءب، أتنشق فمه، هواء تثاؤبه. «لو مات، ستكون لديَّ هذه الضحكة». أعلم بإمكانية موتهم. إني أقيس كل الرعب في هذه المحبة.