لماذا، يا حبيبي؟
قصة لريموند كارفر
ترجمة: محمد عبد النبي
اقرأ المزيد من قصص ريموند كارفر على هذا الرابط
يحتفظ المسؤول عن الملف بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بالترجمات دون إذن منه.
سيدي العزيز:
فوجئتُ للغاية عند ما تلقيتُ رسالتكَ التي تستفسر فيها عن ابني، كيف عرفتَ بمكاني هنا؟ لقد انتقلتُ إلى هنا قبل أعوام، بعد أن بدأ ما حدث مباشرةً. لا أحد يعرف هُنا مَن أكون، لكني أظن أنَّ الأمر سواء، فأنا لا أخشى إلَّاه هو. عندما أنظر إلى الصحف أهز رأسي وأتعجب. أقرأ ما يكتبونه عنه وأسأل نفسي هل هذا الرجل هو ابني حقًا، أهو مَن يفعل تلك الأشياء؟
كان صبيًا طيبًا باستثناء نوبات غضبه وأنه لم يكن بوسعه أن يقول الحقيقة بالمرة. لا يمكنني أن أقدم لك أي أسباب. بدأ الأمر ذات صيف بعد احتفالات الرابع من يوليو، كان على وشك أن يتم الخامسة عشر من عمره. اختفت قطتنا ترودي وظلت غائبة طوال الليل والنهار التالي. في المساء جاءتني السيدة كوبر التي تسكن وراءنا، لتقول لي إن ترودي قد زحفت إلى باحتهم الخلفية في تلك الظهيرة نفسها لتمت هناك. قالت إن ترودي كانت ممزقة الجسم، ولكنها تعرفت عليها. ودفنَ السيد كوبر رُفاتها.
قلتُ لها: ممزقة، ماذا تقصدين؟
رأى السيد كوبر وَلدين يضعان المفرقعات النارية في أذنيّ ترودي وفي ذلك الموضع الآخر الذي تعرفينه. حاول أن يمنعهما ولكنها فرَّا راكضين.
مَن؟ مَن ذلك الذي يُقدم على فِعلة كهذه؟ هل رأى مَن كانا؟
لم يتعرَّف على الصبي الآخر، لكنَّ أحدهما جرى في هذا الاتجاه، ويظن السيد كوبر أنه كان ابنك.
هززتُ رأسي. كلَّا، هذا غير ممكن، إنه لن يفعل أمرًا مِثل هذا، كان يحب ترودي، وترودي كانت جزءًا من الأسرة لسنوات، كلَّا، هذا لم يكن ابني.
أخبرتُه بأمر ترودي ذلك المساء وتصرَّف كالمندهش المصدوم وقال إنَّ علينا الإعلان عن جائزة. نسخَ شيئًا ما على الآلة الكاتبة ووعد بتعليقها في المدرسة. ولكن بينما كان متوجهًا لغرفته تلك الليلة قال لا تغتمي لهذا الأمر يا أمي، لقد كانت عجوزًا، حَسَب أعمار القطط يمكن أن تكون بلغت 65 أو 70 سنة، لقد عاشت عمرًا مديدًا.
التحق بعمل خلال فترات ما بعد الظهيرة وأيام الآحاد، كصبيٍ يجلب المؤن والبضائع في متجر هارتلي. أخبرتني صديقةٌ تعمل هناك، اسمها بيتي ويلكس، بشأن الوظيفة، وقالت إنها سوف تُزكيه بكلمة. ذكرتُ له أمر الوظيفة في المساء نفسه فقال هذا جيد، من الصعب أن يجد الشبان الصغار عملًا.
الليلة التي كان سيحصل فيها على أول راتب له أعددت له طعامه المفضل وكان كل شيءٍ جاهزًا على المائدة حين دخل. جاءَ رجلُ البيت، هكذا قلت واحتضنته. أنا فخورة بك للغاية، كم بلغ أجرك يا حبيبي؟ قال، ثمانون دولارًا. أصابني الذهول. هذا رائع، يا حبيبي، إنني لا أستطيع أن أصدق. قال إنني ميت من الجوع، فلنأكل.
كنتُ سعيدة، لكنني لم أستطع أن أستوعب الأمر، فقد كان المبلغ يفوق ما أكسبه أنا.
وأنا أجمع الغسيل المتسخ وجدت كعب الوصل الخاص بمتجر هارتلي في جيبه، كان المبلغ ثمانية وعشرين دولارًا، وكان قد قال ثمانون. لماذا يعجز عن قول الحقيقة ببساطة؟ لم أفهم.
كنتُ أسأله إلى أين ذهبتَ ليلة أمس يا حبيبي؟ فيجيب شاهدتُ أحدَ العروض. ثم أكتشف أنه ذهب إلى مدرسة الرقص أو أنه أمضى المساء راكبًا في سيارة أحدهم وهم يتجولون. وكنت أفكر أي فَرق في هذا، لمَ لا يقول الصدق وكفى، فَلا يُوجَد سبب يدفعه للكذب على أمه.
أذكرُ ذات مرة أنه كان من المفترض به الذهاب إلى رحلة ميدانية، فسألته ما الذي شاهدته في الرحلة، يا حبيبي؟ نفضَ منكبيه قائلًا تكوينات أرضية، وصخرة بركانية، ورمادًا، كما عرضوا لنا المكان الذي كانت تشغله بحيرةٌ كبيرة قبل مليون سنة وهو الآن مجرد صحراء. ونظر إلى عينيّ مواصلًا حديثه. ثم تلقيتُ رسالة من المدرسة في اليوم التالي تقول إنهم يطلبون الإذن بقيامه برحلة ميدانية، وما إذا كنتُ أسمح له بالذهاب.
وقُبيل انقضاء سنة تخرجه اشترى سيارة وصار خارجَ البيت على الدوام. كنت قلقةً بشأن درجاته، لكنه كان يكتفي بأن يضحك. أنت تعرف أنه كان طالبًا متفوقًا، لا بدَّ أنك تعرف هذا إن كنت مُلمًا بأي شيء. بعد ذلك اشترى بندقية وسكين صيد.
كرهتُ رؤية تلك الأشياء في المنزل وأخبرته بذلك فضحك، كان دائمًا مستعدًا بضَحكة من أجلك. قال إنه سيحتقظ بالبندقية والسكين في حقيبة سيارته، قال إن ذلك سوف يُسهّل عليه الوصول لهما على أي حال.
لم يرجع إلى البيت في ليلة من ليالي السبت ودفع بي القلق إلى حالة رهيبة. وفي العاشرة صباحًا تقريبًا دخل وطلب مني أن أعد له إفطارًا، وقال إن رحلة الصيد تلك قد فَتحت شهيته، وقال إنه آسف لغيابه بالخارج طوال الليل، وقال إنهم رحلوا بسياراتهم لمسافاتٍ طويلة من أجل الوصول إلى ذلك المكان. بدا كلامه غريبًا. وكان متوترًا.
إلى أين ذهبتم؟
حتى ويناس[1]. أطلقنا بعض رصاصات.
ومع من ذهبت يا حبيبي؟
فرِد.
فرِد؟
حدقّ فيّ فلم أنطق بشيء.
يوم الأحد التالي مباشرة تسللت على أصابع قدميَّ إلى غرفته لآخذ مفاتيح سيارته. كان قد وعد بجلب بعض الأطعمة للإفطار في طريق عودته للبيت في الليلة السابقة وقلتُ ربما ترك الأشياء في السيارة.
رأيتُ حذاءيه نصف بارزين من تحت فراشه ومغطيين بالوَحل والرمل. فتح عينيه.
حبيبي، ماذا حدث لحذاءك؟ انظر إلى حذاءك.
نفد مني الوقود، واضطررت للمشي لجلب الوقود. نهض جالسًا. لماذا تهتمين بهذا؟
إنني أمك.
بينما كان يستحم أخذت المفاتيح وخرجت إلى سيارته. فتحت الصندوق. لم أجد البقالة. رأيت البندقية ملقاة على لحاف والسكين أيضًا ورأيتُ قميصًا من قمصانه مطويًا ومكورًا، فَردتُه وكان مغطىً بالدماء. كان ما زال مبتلًا فألقيته به. أغلقت الصندوق ووجَّهت نظري ناحية المنزل، فرأيته ينظر من وراء الزجاج وفتحَ الباب.
قال، نسيتُ أن أخبرك، لقد نزف أنفي نزيفًا شديدًا، ولم أدرِ إن كان يمكن تنظيف هذا القميص أم يجب التخلص منه. ابتسم.
بعد بضعة أيام سألته عن أحواله في العمل. قال، رائع، وقد حصل على علاوة. لكنني قابلتُ بِتي ويلكس في الشارع، وقالت إنهم جميعًا آسفون في متجر هارتلي بسبب فصله من العمل، وقالت بِتي ويلكس إنه كان محبوبًا جدًا.
بعدها بليلتين، كنت راقدة في الفراش لكن عاجزة عن النوم. رحتُ أحدق في السقف. سمعت صوت سيارته تتوقف بالخارج واستمعت إلى صوت المفتاح يديره في القفل، ودخل إلى المطبخ ومرَّ بالردهة إلى غرفته وأغلق الباب من وراءه.
نهضتُ. رأيتُ نورًا من تحت بابه، طرقت ودفعت الباب وقلت ألا تحب تناول كوب من الشاي الساخن، يا حبيبي، فأنا لا أستطيع النوم. كان منحنيًا على طاولة الزينة، ولدى سماعي أغلق أحد الأدراج بعنف، والتفت نحوي صارخًا اخرجي، اخرجي من هنا، لقد سئمتُ من تجسسك. ذهبتُ إلى غرفتي وجعلتُ أبكي حتى نمت. لقد حطَّم قلبي في تلك الليلة.
في الصباح التالي نهض وخرج قبل أن أتمكن من رؤيته، ولكنني لم أنزعج لهذا. قررتُ أن أعامله منذ ذلك الحين فصاعدًا مثل ساكن بالإيجار. إلَّا إذا أراد أن يصلح من شأنه، طفح بي الكيل. سيكون عليه أن يعتذر إذا أراد لنا أن نكون أكثر من مجرد غريبين يقيمان معًا تحت سقفٍ واحد.
حين عدتُ إلى المنزل ذلك المساء وجدته قد أعدَّ العشاء. قال، كيف حالكِ؟ وتناول عني معطفي. كيف كان يومك؟
قلت إنني لم أذق طعم النوم ليلةَ أمس، يا حبيبي. لقد عاهدتُ نفسي ألا أفتح الموضوع من جديد، وأنا لا أحاول أن أجعلك تشعر بالذنب، لكني لم أتعود أن يخاطبني ابني بهذه الطريقة.
قال لي، أريد أن أريك شيئًا. وعرض علي هذه المقالة التي كان يكتبها من أجل مادة الحقوق المدنية. أظن أنه كان يتناول العلاقات بين الكونجرس والمحكمة العليا. (كان هو البحث نفسه الذي نال عنه جائزة عند تخرجه!) حاولتُ أن أقرأه ولكن عندئذٍ قررتُ أنَّ الوقت قد حان. حبيبي، أود أن أتحدث إليك، من العسير تربية طفل والحياة على ما هي عليه هذه الأيام، وكان من العسير علينا خصوصًا أن نواصلَ بلا أبٍ معنا في المنزل، بدون رجلٍ نلجأ إليه وقت الحاجة. توشك أن تصير راشدًا الآن، ولكني ما زلت مسؤولة عنك وأرى أنني أستحق بعض الاحترام والمراعاة، وطالما حاولتُ أن أكون نزيهة وصريحة معك. أريد الحقيقة يا بُني، هذا هو كل ما أطلبه منك، الحقيقة. حبيبي، قلتُ والتقطت أنفاسي، افترض أنَّ لك ابنًا عندما تسأله عن شيء، أي شيء، مثل أين كان أو إلى أين سيذهب، وكيف يقضي وقته، أي شيء، فإنه لا يخبرك بالحقيقة ولا مرة واحدة، لا يقول الحقيقة بالمرة، بالمرة. طفل إذا سألته ما إذا كانت السماء تمطر بالخارج، سيجيبك كلَّا، الجو لطيف ومُشمس، وربما يضحك في نفسه ظنًا منه أنك بلغتَ من الكبر أو الغفلة ما يجعلك لا تلحظ أن ثيابه مبتلة. ما الذي يدعوه للكذب؟ هكذا ستسأل نفسك، ماذا يجني مِن وراء هذا؟ أنا لا أفهم؟ ظللت أسأل نفسي هذا السؤال دون أن أجد جوابًا. فلماذا، يا حبيبي؟
لم يقل شيئًا، ظل يحدق فيّ، ثم تحرك صارَ قُبالتي، وقال سأريكِ. اركعي، قالَ، هذا ما أقول. اركعي أرضًا هو ما لديَّ لأقول لكِ، ذلك أوَّل سبب.
هرعت إلى غرفتي وأغلقتُ بابها. وقد غادر في تلك الليلة نفسها، أخذ أشياءه، أخد ما أرادَ وغادر. وصدّق أو لا تصدّق فإنني لم أره مرة ثانية. رأيتُه في حفل تخرجه، لكن كان ذلك وسط كثيرٍ من الناس حولنا. جلستُ بين الجمهور وراقبته وهو يتسلم شهادته وجائزة على المقال، ثم سمعتُه يلقي كلمة، وبعدها رحتُ أصفق مع الآخرين طوال الوقت.
عدتُ للمنزل بعدها.
ولم أره بعد ذلك قَط. بالطبع رأيته على شاشة التليفزيون ورأيته صوره في الصحف.
علمتُ أنه انضم إلى قُوات المارينز، ثم سمعتُ من أحدهم أنه ترك المارينز وعاد ليدرس سنة الكلية للتأهل هناك في الشرق، ثم تزوج تلك الفتاة، واقتحم عالم السياسة. بدأتُ أرى اسمه في الصحف. عرفت عنوانه فكتبتُ إليه، كتبتُ إليه رسالة كل بضعة أشهر، ولم أتلق ردًا منه أبدًا. رشح نفسه كحاكم للولاية ونجح في الانتخابات، أصبحَ شهيرًا عندئذٍ. في ذلك الحين بدأ القلق يساورني.
تراكمت فيَّ كل تلك المخاوف، وصرتُ خائفة، توقفت عن الكتابة إليه بالطبع وتمنيت أن يظنني قد مِت. انتقلتُ إلى هنا. وطلبت أن يكون رقمي غير مُسجَّل في الدليل. ثُمَّ توجَّب علي أن أغير اسمي. إذا كنتَ شخصًا صاحب نفوذ وأردتَ العثور على أحدهم تستطيع أن تجده، لن يكون ذلك بالأمر العسير عليه.
يجدر بي أن أشعر بالفخر لكنني خائفة. الأسبوع الماضي رأيتُ سيارةً في الشارع وبداخلها رجل أعلم أنه كان يراقبني، عدتُ للبيت مباشرةً وأحكمت رتاج الباب من خلفي. قبل بضعة أيام أخذَ جرس التليفون يدق طويلًا، كنت راقدة. التقطت السماعة ولم أسمع شيئًا مِن الطرف الآخر.
إنني عجوز. إنني أمه. ينبغي أن أكون أكثر الأمهات شعورًا بالفخر في الأرض كلها، لكنني خائفة وحسب.
شكرًا لأنك كتبتَ لي. أردتُ من أحدهم أن يعرف. أشعرُ بخِزيٍ شديد.
أردتُ أيضًا أن أسأل كيف وصلتَ لاسمي وعرفتَ عنواني، كنت أدعو الله ألَّا يعرف أحد. لكنك عرفت. فلماذا فعلتَ؟ أرجو أن تخبرني لماذا.
المخلصة.
- Wenas: بلدة تقع على مسافة نحو عشرين ميلًا مِن سيلا (Selah) في مقاطعة ياكيما، ولاية واشنطن، وفيها خليج بنفس الاسم، وكانت من أماكن الصيد المفضلة عند الأمريكيين الأصليين، ويعني اسمها بلغتهم المخيم الأخير.