دليل النجاة من الحجر في زمن كوفيد-19

مقال لسلافوي جيجيك

نُشر في روسيا اليوم، 28 مارس 2020

ترجمة: أمير زكي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


للتعامل مع الضغط الذهني خلال جائحة فيروس الكورونا، تظل قاعدتي الأولى أن هذا ليس وقتًا مناسبًا للبحث عن الأصالة الروحانية. تبنوا كل الطقوس الصغيرة التي تضفي الاستقرار على حياتكم اليومية، بدون أي شعور بالخجل.

دعوني أبدأ باعتراف شخصي: أنا أحب فكرة التزام منزلي، وأن أقضي وقتي كله في القراءة والعمل.

حتى في أسفاري، أفضل البقاء في غرفة فندق جيدة، وأتجاهل زيارة معالم الجذب الشهيرة. تعني لي المقالة الجيدة عن لوحة شهيرة أكثر بكثير من رؤية اللوحة نفسها في متحف مزدحم، لكن الآن وأنا مجبر على التزام المنزل أشعر أن الأمر شاق عليَّ وليس أيسر. لماذا؟

دعوني أكرر النكتة الشهيرة من فيلم نينوتشكا لإرنست لوبيتش: «أيها النادل، أريد فنجان قهوة بدون كريمة لو سمحت». فيجيب النادل: «أنا آسف يا سيدي، لا توجد كريمة، يوجد لبن فقط، هل من الممكن أن أحضر القهوة بدون لبن؟»

على المستوى الواقعي، تظل القهوة قهوة، لكن ما نستطيع تغييره هو أن نحول القهوة الخالية من الكريمة إلى قهوة خالية من اللبن، أو لتبسيط الموضوع، أن نضيف نفيًا ضمنيًا، ونجعل القهوة الصرف قهوة بدون لبن.

أليس هذا ما حدث لعزلتي؟ قبل الأزمة، كانت عزلة «بدون لبن»، كان بإمكاني الخروج، لكني كنت لا أفضل ذلك. الآن، إنها مجرد قهوة العزلة الصرف، بدون أن يكون من الممكن إضفاء نفي ضمني. 

التهديدات الخفية الأكثر رعبًا

صديقي جابرييل توبينامبا، المحلل النفسي اللاكاني الذي يعمل في ريو دي جانيرو، شرح لي هذا التناقض في رسالة إلكترونية: «الناس الذي يعملون من الأصل في المنزل هم الأكثر قلقًا، والمعرضون لأسوأ الخيالات التي تشعرهم بالعجز، لأنه رغم أنه لا يوجد تغير في عاداتهم إلا أن ذلك يحد من فردانية ذلك الموقف في حياتهم اليومية».

كانت فكرته معقدة لكنها واضحة: إذا لم يوجد تغيّر عظيم في واقعنا اليومي، إذن يمكن اختبار التهديد كخيال شبحي، لا يمكن رؤيته في أي مكان، وهو تهديد واسع القوى لهذا السبب. لنتذكر ألمانيا النازية، كانت معاداة السامية أقوى في المناطق التي كان عدد اليهود فيها محدودًا. اختفاؤهم جعلهم أشباحًا مرعبين.

لاحظ توبينامبا التناقض نفسه قائمًا مع ظهور أزمة فيروس نقص المناعة البشري: «كان الانتشار الخفي لأزمة فيروس نقص المناعة متعبًا للأعصاب. استحالة اعتبار أنفسنا قادرين على مجاراة المشكلة، وصلت لدرجة أن ختم جواز سفر الحامل للفيروس لم يبد بالنسبة للبعض ثمنًا شديد الضخامة لإضفاء بعض الملامح الرمزية على الموقف. إن ذلك على الأقل يقدم معيارًا عن قوة الفيروس ويجعلنا نتخذ موقفًا منه، يمكننا، من خلاله، أن نشعر، نحن الذين أصبنا به، بأنه ما زال لدينا قدر من الحرية».

في اللحظة التي يصبح فيها الفاعل الشبحي جزءًا من واقعنا (حتى إذا كان يعني الإصابة بالفيروس)، يمكن تقييد قوته، إذ يصبح شيئًا نستطيع التعامل معه (حتى لو خسرنا المعركة). طالما لا يمكن للفاعل أن يخترق الواقع، «نعلق سواء في البارانويا القلقة (العالمية المحض)، أو نلجأ للترميزات العطلانة من خلال التنفيس الذي يعرضنا لمخاطر غير ضرورية (تقييد محض)».

تلك «الترميزات العطلانة» تتخذ بالفعل عدة أشكال، الأشهر بينها هو نداء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتجاهل المخاطر وحث أمريكا على العودة للعمل. تلك التصرفات أسوأ من مجرد الصراخ والتصفيق بينما تشاهد مباراة كرة قدم على تلفزيونك في المنزل، وتتصرف وكأنك تستطيع التأثير على النتيجة بقدرة سحرية. لكن هذا لا يعني أننا قليلو الحيلة، إذ يمكن أن نخرج من هذا المأزق قبل أن يقدم العلم الوسائل التقنية للسيطرة على الفيروس.

كيف لا نستسلم للبارانويا

هذا ما يقوله توبينامبا: «حقيقة أن الأطباء الموجودين على جبهة الحرب في مواجهة الجائحة، هؤلاء الناس الذين يخلقون أنظمة التعاون المتبادل في المجتمعات المهمشة، إلخ، هم على الأرجح الأقل شعورًا بأشكال البارانويا المجنونة، تشير لي إلى أنه يوجد ربح ذاتي (جانبي) لأشكال محددة من العمل السياسي اليوم. يبدو أن السياسة التي تجري خلال وسائط محددة –والدولة عادة هي الوسيلة المتاحة هنا، لكني أظن أنه ربما يكون هذا مشروطًا - لا تقدم لنا فقط وسيلة تغيير الموقف، بل أيضًا تضفي شكلًا مناسبًا على الأشياء التي فقدناها».

في المملكة المتحدة، تطوع أكثر من أربعمائة ألف من الشباب الأصحاء لمساعدة ذوي الحاجة – وهذه خطوة جيدة في هذا الاتجاه.

كيف تتجنب الانهيار العصبي

. لكن ماذا عن الموجودين بيننا وغير قادرين على الانخراط في الأمور بهذه الطريقة، ما الذي يمكن فعله لتجاوز الضغط الذهني من العيش في زمن الجوائح؟ قاعدتي الأولى هي: هذا ليس زمنًا للبحث عن الأصالة الروحانية، أو مواجهة الهاوية المطلقة لوجودنا. تبنوا جميع الطقوس والأنساق والعادات الغريبة، إلخ، تلك التي تضفي الاستقرار على حياتكم اليومية، بدون أن تشعروا بالخجل.

أي شيء يمكن أن يؤدي الغرض مسموح به الآن لتجنب الانهيار العصبي. لا تفكر كثيرًا في الخطط الطويلة، فكر في اليوم، ما الذي ستفعله حتى موعد النوم. إذا نجح ذلك، العب لعبة «الحياة جميلة» (الفيلم اﻹيطالي اﻷمريكي)، تظاهر أن العزل مجرد لعبة تشارك فيها مع أسرتك بحرية، مع أمل الحصول على جائزة كبيرة إذا نجحت. وإذا قررت قضاء الوقت مع الأفلام (إذا كان لديك وقت متاح لها)، انغمس مسرورًا في الملذات المذنبة: الديستوبيات الكارثية، المسلسلات الكوميدية عن الحياة اليومية، التي تقدم الضحك المعلب مثل ويل وجريس، بودكاستات اليوتيوب عن المعارك العظيمة من الماضي. مفضلاتي هي السلاسل السكندنافية – أفضل الأيسلندية – الكئيبة مثل «العالق» أو «جرائم فالهالا».

لكن هذا الموقف لا يصمد طوال الوقت، إذ أن المهمة الأساسية هي هيكلة حياتك اليومية بطريقة مستقرة وذات معنى. هكذا وصف صديق آخر من أصدقائي، وهو آندرياس روزنفيلدر، الصحفي الألماني من جريدة دي فيلت، في رسالة إلكترونية، الموقف الجديد الذي يسود في حياتنا اليومية: «أنا بالفعل أشعر بشيء بطولي تجاه هذه الأخلاقيات الجديدة، وحتى في الصحافة. كل الناس يعملون صباح ومساء من مكتبهم بالمنزل، يقيمون مؤتمرات الفيديو ويهتمون بالأطفال أو يدرسونهم في المنزل في الوقت نفسه، لكن لا أحد يسأل لم يفعل أو تفعل ذلك، لأن المسألة لم تعد: (أحصل الآن على الأموال وبعدها سأذهب في إجازة) لأن لا أحد يعرف إذا كانت ستوجد إجازات أو أموال مجددًا. إنها فكرة عالم حيث يكون لديك الاحتياجات الأساسية مثل الطعام وغيره، حب الآخرين والقيام بعمل مهم حقًا، مهم الآن أكثر من أي وقت مضى. فكرة احتياج المرء (للزيادة) تبدو غير واقعية الآن».

لا يمكنني أن أتخيل وصفًا أفضل لما يمكن أن نطلق عليه دون خجل حياة طيبة غير مغتربة، وأتمنى أن تستمر بعض هذه الأوضاع حين نتجاوز الجائحة كما نتمنى.