المساواة والحميمية: تأسيس خيالي 

مقال لـ «إي - كاي جينج»*

ضمن سلسلة «حول نشوء أبراج الحمام»**

ترجمة: حسين الحاج

حصل إي-كاي جينج على درجة الماجستير والدكتوراه في الفلسفة والدراسات الكلاسيكية من جامعة بوسطن، قبل أن يعود إلى بلاده ويتقلد منصبًا في قسم الفلسفة بجامعة تايوان الوطنية، وقد عمل زميلًا أكاديميًا زائرًا في سيلاس لفصل دراسي واحد وشارك أفكاره حول جمهورية أفلاطون مع طلابها الرائعين هناك. وهو متخصص في الفلسفة اليونانية، مع تركيز خاص على تأملات أفلاطون عن الانخراط الفلسفي في السياسية وطبيعة الخطاب الفلسفي، كما يستمتع بلعبة التنس (نظريًا فقط، وليس الممارسة!) والسينما وطي الورق عندما ﻻ يكون منشغلًا بإيضاح المفاهيم.

** ترجم هذا البحث ضمن مشروع لتأليف أربع بحوث فلسفية حول المبادئ اﻷساسية لما أسماه مؤسس معهد القاهرة للعلوم واﻵداب الحرة (سيلاس)، كريم ياسين جوسنجر، ببرج الحمام. أطلق كريم على هذا المشروع «حول نشوء أبراج الحمام»، راميًا إلى تشبيه سيلاس ببرج الحمام، بعكس ما يعرف عن الجامعات الحديثة بأنها «أبراج عاجية». المؤلفون المساهمون في هذا المشروع فلاسفة أكاديميون. تخصص اثنان منهم في الفلسفة القديمة والاثنان اﻵخران في الفلسفة المعاصرة. وقد قدموا بحوثًا حول المبادئ اﻷساسية اﻷربعة التي تنبثق من تجربة سيلاس وتستلهمها، وهم التنوع واللهو والحميمية والجهل.

الترجمة خاصة بـ Boring Books ومعهد القاهرة للعلوم واﻵداب الحرة (سيلاس)

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه


التصميم من نيجاتيف وسيلاس وخاص بسيلاس و Boring Books

«فما هي التربية؟ أفترض أن التربية هي المقرر الذي ينبغي على المرء أن يدرسه لكي يدرك نفسه»[1].

يوحنا الصامت (سرن كيركجارد) - خوف ورعدة

«كان يكفي أن تستعيد الفلسفة هذه المشكلة بوسائلها الخاصة بها، وبالتواضع الضروري، باعتبار أن الحماقة ليست أبدًا حماقة الغير، ولكن هي موضوع متعال على نحو خاص: كيف تكون الحماقة (وليس الخطأ) ممكنة؟»

جيل دولوز - الاختلاف والتكرار[2]

يقدم كتاب المعلم الجاهل لجاك رانسيير مفهوم «التعليم المُحرر» أو «الكوني» للمعلم جاكوطو من القرن التاسع عشر.[3] يفترض ذلك التعليم فرقًا بين نوعين من التعلم. أكثر ما يتم تعليمه مثل الرياضيات والصيدلة والميكانيكا واﻷحياء يشكل التعليم بناءً على نشاط الحيازة. فأنا لم «أحز» المعرفة الرياضية قبل أن أحضر مساق اﻷستاذ جاس، لكنني بعد المساق، أصبحت «أحوزها» وأمتلكها، واﻵن أعلم شيء يدعى الرياضيات. لكن هناك تعلمًا آخرًا وهو أكثر عصيانًا،  يهتم بأن تصبح إنسانًا ما لا أن تحوز أي شيء، من هو ذلك اﻹنسان؟ «إنه أنت ذاتك»، «لكن ما هي الذات؟ ومن أنا؟» أيًا ما كانت اﻹجابة، فليس النوع الثاني مشكلًا بناءً على الحيازة. وكتاب رانسيير يهتم بذلك النوع من التعلم، أو بعبارة أخرى، ﻻ يريد «أستاذ التحرر» أن «يحوز» أي معرفة من أجل أن يعلمني/يحررني. يمكن للأستاذ أن يكون جاهلًا، بمعنى عدم حيازته للمعرفة، وعدم معرفته بـ(أ)، لكن يجب على المرء أن يكون نفسه أولًا.

اﻹبقاء على ذلك الفرق مهم للغاية، ﻷن رانسيير يدعي أننا نستطيع أن نعلِّم الفيزياء أو الطب بدون أن نعلمهم، أو أن يمكن للطلاب المتعلمين بطريقة التعلم الكوني أن يكونوا أطباء جيدين (المعلم الجاهل، ص 35 / TIS 31). ما زالت المدارس التقليدية ضرورية إذا أردنا طبيبًا عندما نكون مرضى، أو ميكانيكيًا عندما تتعطل سياراتنا. يزعم رانسيير أن الطب أو الرياضيات يفشلان في أن يدلونا نحو أن نكون أنفسنا. أيًا ما كنت تدعوها، فليس التعليم أو التدريب هو «التعليم» على وجه التحديد. عندما يتظاهر التعليم بأنه تعليم، فإننا نصبح كما يقول رانسيير «بلداء». (أعتقد أن تكون بليدًا هو أن تصبح «أحمق» بالمعنى الذي يجعله دولوز مختلفًا عن «الخطأ»)[4] من نحن؟ إننا كائنات ذكية مفردة. فنحن أذكياء ﻷننا نمتلك القدرة على حل اﻷحجية في العالم، ﻻ يحتاج اﻵخرون على أن يقدموها إلينا، فقط هم بحاجة إلى إيقاظها في أنفسنا، أي يجعلوننا منتبهين إلى ذكائنا. وكذلك نحن مفردين ﻷن هناك آخرين مثلنا، ونحن نستطيع أن نفهم بعضنا بعضًا ﻷن جميعنا أذكياء. حتى أصعب الكتب، ولنقل رواية «يقظة فينيجان» لجيمس جويس، يمكن قراءتها وفهمها، ﻷن الكاتب كتبها بذكاء وكذلك أنا أستطيع فهمها بقدر ما في استطاعتي (TIS 22). وفي النهاية نحن كائنات ﻷننا جمع والذي هو ليس حشدًا بسيطًا، لكنه تجمع ﻻ يفقد انفصاله اﻷولي مطلقًا (TIS 58). من ينكر تلك التعددية، أو يفكر في التجمع بتلك الطريقة التي تستثني أن الوحدة الجماعية بها التعددية الفردية فهو «يشعل حربًا» بحسب رانسيير (TIS 82, 85).

بصفتنا كائنات، نحن مساوون لبعضنا اﻵخر، أو كما ﻻحظ روس، مترجم المعلم الجاهل إلى اﻹنجليزية، فإن رانسيير يدعونا إلى البدء بالمساواة. (TIS xix-xx) ينتهي التعليم في العادي إلى المساواة أو شيء قريبً منها. فأنا أعرف شيئًا في بداية الفصل الدراسي عن أفلاطون، لكن طلابي لا يعرفون، وإذا اجتهدوا جيدًا، فسوف يعرفون شيئًا عن أفلاطون كذلك وبالتالي يقتربون من مستواي في نهاية الفصل الدراسي. لكن في التعليم الكوني، فإن المساواة اﻷولية هي التي تهم، أي موقف: «يمكنك أن تفعلها كذلك». ليس هناك كتاب ﻻ يمكن فهمه، ﻷن المقصود به أن يوصل كائنًا ذكيًا شيئًا ما إلى كائنات ذكية أخرى (cf. TIS 22). ليس هناك لغة ﻻ يمكن تعلمها، حتى إذا كنت ﻻ أعرف كيفية إصلاح السيارات، فأنا أستطيع التحقق من عمل الميكانيكي (TIS 29-31). 

يمكنك أن تقول، حسنًا، أنا لست قادرًا على التحقق من إذا كان الميكانيكي سرقني، ربما هو لم يغير المحرك، وأصلحه فحسب وكذب عليَّ. وهذا صحيح تمامًا، لكنني أستطيع أن أتأكد أنه ليس بارعًا على اﻷقل، فميكانيكي السيارات يجب أن يعلم ما يفعل على اﻷقل من أجل يخدعني بأنه أدى عملاً جيدًا، كما أنني أستطيع أن تعلم مهارته من خلال دراسة الكتب التي تدرس تلك اﻷشياء، وأؤكد أن ليس هناك كتاب ﻻ يمكن فهمه من قبل كائن ذكي آخر. كل نقطة في كتاب المعلم الجاهل هي تطبيق أو دلالة أو تفسير لما تحتويه تلك الفكرة حول المساواة اﻷولية.

من أجل أن أوضح «المساواة الجذرية» إلى طلابي، قلت لهم ذات مرة، كما قال رانسيير لنا في الفصل الثاني، أن يقارنوا المحرر الجاكوطوي بالمعلم السقراطي، إذ يتشارك كلاهما في أوجه تشابه عديدة، لكنهما مختلفان في بعض النقاط الجوهرية. ففي البدء، هناك مساواة بين المدرس السقراطي وطالبه، أولاً ﻷن السقراطي يفترض أن ربما كلاهما يعرفان كل شيء، وثانيًا ﻷن ﻻ يدعو تفوق المدرس الحالي على الطالب للفخر فيما يتعلق بما ليس يعرفه كلاهما حتى اﻵن، وهكذا يبدو أن هناك تشابهات بين السقراطي والجاكوطوي. لكن بالنظر إلى الاختلافات، فالمدرس السقراطي يلعب دور المسائل، أي دور عادة ما يلعبه الطلاب. كذلك جاكوطو يسأل الطلاب أيضًا، حيث أن المحرر يفعل ذلك من أجل التحقق. «قل لي ماذا يعني ذلك الشكل، أهو كلمة أو صورة؟» أو «ما الذي تراه في تلك الصورة؟ قل شيئًا». لكن في الحقيقة، الفارق بين الاثنين شاسع هنا. ذلك ﻷن المدرس والطالب واضحان تمامًا في التعليم السقراطي ﻷي مراقب غريب، وﻻ يمكن ﻷحد أن يخطئ المدرس الذي يتظاهر بالحيرة فحسب أنه بالطالب الحائر حقًا. لكن يصعب التفرقة بين المدرس والطالب في التعليم التحرري، فالمحرر ﻻ يدعي إنه يبحث كي يستطيع أن يتحقق من بحث طالبه، وهو يمكن أن يكون جاهلاً حقًا ويظهر ذلك. وهكذا استنتجت لطلابي منتصرًا: ادخلوا الفصل الذي يتبع التعليم التحرري، فسوف تحتارون إذا ما كنتم دخلتم فصلًا أم مؤتمرًا.

تقترف مقارنتي على اﻷقل ثلاثة جرائم بحق نص رانسيير. ففي البدء، يعتبر التعليم السقراطي هو النموذج المكتمل من التبليد من وجهة نظره (TIS 29-30)، لكنني لم أعامله بنفس الطريقة، وبدلًا عن ذلك، عاملته باعتباره بديلًا عن التحرر. كما أن التحرر يتحقق بصورة أفضل في وسط اﻷسرة وليس في الفصل الدراسي (يحاجج الفصل الخامس من «المعلم الجاهل» بخصوص هذه النقطة)، حيث أن مطالبة الطلاب بتخيل فصل دراسي مُحرر يخاطر بتقديم التعليم التحرري بصفته «مجرد نمط تربوي آخر»، وهو ليس كذلك[5]. وختامًا، ما زال التعليم التحرري يبقي الفارق بين المعلم والطالب ﻷن اﻷخير ما زال يجبر الطالب على صنع أشياء محددة. أي أن هناك علاقة غير متكافئة بين اﻹرادات بينما هناك علاقة متكافئة بين الذكاءات (كما يعرف كتاب المعلم الجاهل «التحرر الذهني» بأنه يتلائم تمامًا مع طاعة إرادة اﻵخر).

يبدو أن جوانبي التبسيطية الثلاثة تناقض روح التحرر. إذا كنت أنا وطلابي متساوين، فهل ليس عليَّ أن أثق أنهم يستطيعون فهم ما فهمته؟ ألست أقسو في حكمي أنهم لا يستطيعون التقاط الدقائق في مستواهم الحالي، ومن ثم أنظر إليهم ظلمًا بصفتهم أطفالًا؟

تلك هي الطريقة التي يبدو أن باومان تناول بها المسألة، لما أصبح نص رانسيير نقطة انطلاق له في التأمل حول سؤال التجسد في التعلم[6]. ورغم ذلك، فهو لا يتحدث عن الثقة مثلما فعلت، بل يتحدث بدلًا من ذلك عن الحميمية. فطبقًا لقراءته لرانسيير، تترافق الحميمية مع المساواة الجذرية المتخيلة، فالحميمية هي نمط محدد من الترافق، لكن الترافق هو ترافق مع شيءٍ ما. فلا يختص السؤال هنا بالحميمية بين المتعلم والنص الذي يدعوه إلى فك شفرته، ولا يختص بالحميمية بين المتعلم والحقيقة أو المعرفة، بل يختص بالحميمية بين الطالب والمعلم. فنموذج باومان «لمعلم رانسيير الجاهل» هو المرشد الروحي في الفنون القتالية الذي يدعى بالسي-فو، كما تقترح عنوان ورقته.

وهكذا، يذكّر الاسم نفسه الطالب أنه يعتمد على معلم «الكونج فو» الخاص به كأب، كما يذكّر «السي فو» أنه مسؤول عن الطالب بطريقة لا يتبعها البروفسور جاس. بينما يدعي رانسيير أن ما اكتشفه جاكوطو ليس سوى ما نفعله طوال الوقت بدون أن ندركه -وفي ذلك يتفق معه باومان بوضوح- فهل يمكن أن تضح علاقة «السي -فو-تودي»[7] بالتعلم التحرري، ومن ثم تقدم لنا إدراكًا في ما لم يقله رانسيير؟

أفكر على الجانب اﻵخر بشكل يختلف عن باومان أن العلاقة بين الحميمية والمساواة أبعد ما تكون عن الوضوح. هل يرى أيًا من جاكوطو أو رانسيير أن كلاهما متصلين ببعضهما بشكل وثيق؟ فالقاعدة تقول إنه يجب على المعلم العادي تجنب الحميمية. أنت تريد أن تكون عادلًا، فأنت تقيِّم تقدم الطلاب بشكل عددي (وهو تقييم عادةً ما يتخذ شكل «التصحيح» أو «إعطاء الدرجات» في العديد من اﻷطر المؤسسية)، والحميمية تخلق ظروف المحاباة الوخيمة. لكن ربما ليس على المعلم الجاهل أن يعطي درجة، فالتحقق في النهاية لا يتطابق مع إعطاء الدرجات. هل يعني هذا أن الحميمية مقبولة، بل ضرورية، عندما يتعلق اﻷمر بالتحرر؟ وإذا كانت العائلة هي البيئة المثالية لإقامة التعليم التحرري، فهل يتضمن ذلك أن الحميمية تيسر التحرر؟

ربما يمكن تفسير حيرتي عن طريق تخيل حوار بين معلم وطالب؟ أقصد حوارًا يقدم فرصة لاختبار إذا ما كانت قراءة باومان لرانسيير صحيحة أم لا، أو حوارًا يساعدنا أن نرى إذا ما كان حوارًا خياليًا يمكن أن يؤدي (أو حتى يفترض) بصورة معقولة إلى الحميمية والتحرر أثناء استمراره. حتى إذا كان التحرر بدون حميمية يحدث بالتأكيد في نهاية الحوار، هذا لا يعني بالضرورة أن باومان أو رؤية باومان لرانسيير خاطئة، فربما ببساطة يعني أن الحوار تم تخيله بصورة رديئة. إنني أترك للقارئ الحكم على ما يحدث في هذا البناء الخيالي تحديدًا، فإنني شخصيًا أفضل أن أفكر فيه بصفته حوارًا حميميًا حول المساواة.

*

اﻷول: أستاذي، أيمكنني أن أسألك بخصوص شيء ما؟ لقد وجدت أنك رفعت ملفًا يدعى «تعليقات ذاتية على الاجتماعات» داخل ملف مساقنا في موقع التخزين السحابي، لكنك لم تخبرنا أنك فعلت ذلك.. هل تعلم أننا بإمكاننا أن نراه؟ هل كان ذلك عارضًا بحيث أن نسيت أن تجعل الملف سريًا أو حتى رفعته في الملف الخطأ؟ لم فعلت ذلك؟

الثاني: حسنًا، بما أنك سألت.. لقد كنت أجادل نفسي إذا ما كان يجب أن يبقى سريًا تمامًا أو لا، حيث أنه كان من أجل التقييم الذاتي فحسب. لنكن واضحين هنا: هناك شيء جيد بخصوص ألا يعرف جميعكم شيئًا عما أظنه فيكم، والطريقة التي أفكر أن الفصل يعمل بها، على اﻷقل قبل أن ينتهي الفصل الدراسي. وقد قررت في النهاية عرضه بطريقة فوضوية بغرض التجريب (وأنا متأسف إذا قلت «تجريب»، ﻷنها تبدو أنها تعني أنني أعاملك والطلاب اﻵخرين هنا بصفتكم فئران مختبرات - وهذا صحيح، ولذلك أظن أنني أمين في كلمتي، حتى لو لم تكن صائبة): أن أجعله متاحًا لكم، لكن بدون أن أعلن ذلك رسميًا. وتخيلت أن الفضوليين بينكم سيجدون الملف بتلك الطريقة.

اﻷول: لماذا فعلت ذلك؟ لم يعجبني فعلك.

الثاني: نعم، إنك محق تمامًا، يجب أن يكون لدي إجابة على سؤال «لماذا»، حتى لو كانت على اﻷقل مؤقتة أو أولية، وإلا سيكون تصرفي غير مسؤول تمامًا. والتعليم ليس فنًا طليعيًا. وإذا أنتجت قطعة فنية رديئة، فإنني أؤذي عشاق الفن بقدر أقل. الفصل مكان مقدس- أعلم أن هذا الوصف يبدو مبتذلًا- وأنتم بقدر ما تحت مسؤوليتي. ولذلك إذا فعلت شيئًا خارجًا عن المألوف، فهناك حاجة ﻷن أعطي تبريرًا لمثل ذلك الفعل. على أيّة حال، عندما قبلت بتلك الوظيفة، قيل لي إن دوري لن يقتصر على أن أكون «أستاذًا» أو «معلمًا» كما يتصور عادةً. أنت تعلم هذا مسبقًا: «مدرستنا» أسست من أجل غاية أخرى، فالتعليم بالمعنى المعتاد هو صنع النسخ: والمعلم ينسخ ما في روحه في روح تلميذه بطريقة غامضة وغير مدركة تمامًا، لكن زملائي اللطفاء في مدرستنا شرحوا لي أنني سأكون ميسّرًا، فبطريقة ما، لن أكون من يقرر ما الذي يتم تعلمه ولا حتى ما لا يجب تعلمه، بل يجب أن يدار الفصل بطريقة تعاونية، حيث يصبح كل عضو في الفصل، مؤثرًا في المسار، ومعدلًا عليه، وموسعًا وموجهًا له، ومعلنًا ما الذي يتمنى أن يخرج به من المادة المقدمة إليه، وهكذا إلى آخره. لا أريد أن أتعمق في التفاصيل، فأنتم تعلمون هذا أفضل مني.

اﻷول: نعم، من فضلك أكمل فكرتك.. ما الذي تقصده؟

الثاني: حسنًا، أفترض أنه مثلما شعرت فعلًا، لم أتبع تلك التوجيهات في الفصل بطريقة ملتزمة. ما فعلته بالفعل كان متأثرًا بشدة بما اعتقدته عن التعليم. لقد عمدت إلى عرض المنهج الدراسي بطريقة تجعل منه شيئًا صعبًا ﻷن تقترحوا أي تغيير عليه. هذا لا يعني أنني لا أتفق مع أسلوب التيار التعاوني في إدارة اﻷمور، إنه فقط يعني أنني لا أعلم جيدًا طريقة تنفيذه بطريقة أمينة إلى روحه بينما لا أدع اﻷمور تنزلق إلى الفوضى. والحقيقة أن هناك أشياءً رائعة بخصوصه التي تعجبني بشدة. كان الشيء الوحيد الذي جعلني أفكر أنه بينما كان التقرير التعاوني لمحتوى المساق بدا إشكاليًا بالنسبة لي، كنت مخلصًا إلى فكرة أنكم تقررون بأنفسكم ما تخرجون به من هذا الفصل.

اﻷول: لم يعجبني ما فعلته.

الثاني: أوه! هل يمكن أن تشرح لي لماذا؟

اﻷول: أعتقد أن ذلك كان خاطئًا.

الثاني: همممم.. أعتقد أنك محق.

*

الثاني: دعني أحاول أن أشرح نوع التسوية التي كنت أنشدها. يبدو لي أن المساواة هي الفكرة التي تقف خلف المنهجية التعاونية، ولقد حاولت، بطريقتي الخاصة، أن أفترض مسبقًا المساواة في كشف طريقة تفكيري في «سريان» المساق حقيقةً، ﻷن الشفافية والانفتاح يبدوان متعلقان بالمساواة بصورة عميقة.

اﻷول: وماذا بعد؟

الثاني: متعلقان، لكنهما ليسا متطابقين. وبصورة أدق، ربما تفترض الشفافية مسبقًا المساواة. وهاك مثال بسيط: عندما أعمل برفقة أشخاص، قد يؤذيني أن أشارك أفكاري الحقيقية عن رفاقي أو عن جدارة مديري بالمقارنة مع مدير آخر إذا كان بإمكانه أن يفصلني من العمل. لذلك نفهم جميعًا ذلك: اللامساواة المتمأسسة تجعل استمرار انفتاحنا على بعضنا اﻵخر صعبًا. وهاك مثال آخر: ليس هناك سر بين اﻷصدقاء الحقيقيين. الصداقة هي نموذج العلاقات اﻹنسانية المساوية. عندما تقول ابنة ناضجة في بعض اﻷحيان أنها هي وأمها صديقتان مقربتان لبعضهما فهي تقصد أنهما مساويان وأنهما يشاركان كل اﻷسرار بينهما. لكنك لن تسمع ابنة ذات اثنتي عشر عامًا تقول نفس الشيء بخصوص علاقتها مع أمها، ﻷن مستوى التفاهم المتبادل بينهما ليس كافيًا واللامساواة بينهما ما زالت ذات أهمية، فلا يمكنهما أن يكونا «صديقتين» بعد. لذلك تتضمن «الصداقة» المساواة والحميمية بشكل متماثل. تصدر الشفافية من جهة واحدة فحسب في العلاقة غير المساوية. ﻷن الشخص صاحب السلطة اﻷكبر يمكن أن يتحمل أن يكون صريحًا، وتلك طريقة أخرى من إقرار العلاقة بين السلطة والانكشاف: أن تحوز سلطة يعني أن تقوم بأفعال وأن تحصد ما تريده بدون عواقب. إنك تستطيع أن تعرض ذاتك الحقيقية أكثر في موضع القوة أكثر من موقع الضعيف، واﻷكثر قوة يقرر كم الشفافية يمكن أن يتحملها الضعيف. حتى عندما يحاول القوي أن يخلق المساواة من اللامساواة عن طريق الصراحة، فإنه ينتهي به اﻷمر مستعرضًا لقوته بصورة مفارقة. ويعاد فرض عدم التوازن، ولا يتطور اﻷمر باتجاه التوازن.

اﻷول: أيًا كان! لكن بما أنك شرحت ذلك، فليس واضحًا لي في ختام أفكارك عن فصلنا إذا ما كنت تفترض المساواة مسبقًا أو أنك تشير بتفوقك فحسب.

الثاني: إنك محق. هذا حقيقي شيء غامض. حتى ربما يكون معضلة!

اﻷول: انس ذلك، أعتقد أنكم يجب أن تكونوا صرحاء تمامًا بينهم في الفصل. إذا لم يستطع أحد أن يتحمل ذلك، فذلك سيء، ﻷن ذلك جزء من العملية التعليمية. إذا لم يكن المرء مستعدًا ﻷن يجرح، فعليه ألا يكون هناك بتاتًا. يجب عليه أن يواجه اﻷلم من أجل أن ينضج. حتى بصفتي «ميسرًا»، لديكم التزام بأن تقدموا اﻷلم الذي يجعلنا ننضج بقدر مساو للمعلم العادي. ليس عليكم أن تهتموا إذا ما كنا نستطيع أن نتحمله أو لا، فهذا سيجعل قدرتكم على اتخاذ الخيارات الصحيحة مستحيلًا.

الثاني: الصراحة الكاملة هي شيء مستحيل بالطبع. ليس هناك مثل هذا الشيء ﻷن ليس كل تصريح إلا تستر على شيء ما. الشخص اليقظ لا يقول «أنا صاح»، بل إن أي شخص يدعي أنه يقظ، يصبح مباشرة مشكوكًا في مدى يقظته. إنه يكشف وبالتي يصبح مشكوكًا في تستره. يضع فعل الكشف عن النفس فارقًا بين «شيء خارجي» و«شيء داخلي»: تشك أن هناك شيئًا «خلف» هذا الادعاء. ربما لذلك يتردد بعض الناس دائمًا في التعبير عن حبهم لشخص ما. إنهم لا يفعلون ذلك بسبب خجلهم، أو بسبب احترامهم لعهد الكلمة، قد يكونوا يفعلون ذلك ﻷنهم يخشون أن أفكارهم تصبح «أقل حقيقية» بينما يلفظونها تحديدًا بسبب أنهم لفظها. قال أحدهم ذات مرة إن المرء يمكن أن يلفظ اﻷشياء التي ماتت بالفعل في قلبه. هذا يحدث أيضًا في الحميمية، ﻷن الحميمية ما زالت تنصب عائقًا آخر بغض النظر عن حافزها الداخلي باتجاه كسر العوائق بين الداخل والخارج: المشاركة والصراحة بين الناس الحميميين تخلق «دائرة» مغلقة على من هم «خارج الدائرة». ليست هناك حميمية في الزحام، ﻷن ليست هناك حميمية عمومية، أو حميمية في العراء. لكن هذا استطراد. الشيء الذي أردت قوله إن منطق التستر بالكشف كامن في مشاركتي لأفكاري، وأنا واع بصورة أكيدة لهذا اﻷمر. وبصراحة، إنني أقيمكم في هذا الملف، مما يعني أنني أتحدث من خلف ظهوركم بينما أعلم أنكم ربما تقرؤونه في الوقت نفسه. هذا يخلق شكًا في نواياي من طرفكم بالتأكيد، ولكي أكون أمينًا، فلقد فعلت ذلك ﻷنني اعتقدت أن روح التعاون تتضمن تنحيةً لما يراه المرء الشيء الأفضل، وترك اﻷمور التي يفضل المرء التحكم فيها. ولذلك ينطوي تقديمي لكم سجل انطباعاتي عن مسار المساق على فرصة كي تروا من أين انطلقت توقعاتي أو خططي، سواء كان ذلك للأسوأ أو للأحسن، كما يعطيكم فرصة كي تروا كيف تحدث مشاركتكم فرقًا لما يحدث داخل الفصل بوضوح. بالتأكيد هناك دائمًا أشياء أكثر يمكن قولها، لكن هذا غير مقصود. أحاول أن أكون صريحًا بخصوص اﻷشياء المهمة.

اﻷول: وتصبح أقل صراحة في اﻷشياء التي لا تهم؟ ما نوع تلك اﻷشياء على أية حال؟ أظن أن لا أحد يعرف ذلك، ولا يمكنك أن تعرف ذلك مسبقًا. لقد قرأت قصة بالصدفة عن التعليم، ويبدو أنها تشرح الحاجة في ألا تكون صريحًا، دعني أقرأها لك.

«عندما بدأت تعلم التاي تشي، وكان ذلك عندما كان رأسي وعقلي ممتلئين بالفلسفة الباطنية والشرقية والسحر. شكوت إلى معلمي بخصوص تل مرتفع لم أستطع مطلقًا صعوده بدون إرهاق، فقال لي إن ذلك بسبب أنني أضغط بواسطة قدميَّ، لكني عليَّ أن أدفع من الدان-تين (أسفل السرة)، وهكذا ستصعد التل بدون أن ترهق نفسك مطلقًا. وهكذا، حاولت ذلك في اليوم التالي، وبالتدريج، أصبح ما قاله حقيقة. وعندما رأيته مرة أخرى وافيته بالنتيجة اﻹيجابية فورًا بفخر وحبور. فقال: ياللهول! إذن ذلك كان صحيحًا! لم أستطع مطلقًا أن أفعل شيئًا مثل هذا، هل يمكنك أن تعلمني كيف أفعل ذلك؟»[8]

هذه القصة من مقال باومان عن «السي-فو». ويبدو لي هنا أن المساواة تخلقها السلطة والتي هي بدورها نوعًا من عدم المساواة.

الثاني: ما الذي تعنيه بهذا؟ لا أفهمك.

اﻷول: حسنًا، ألم يصبح الطالب معلمًا عندما وثق في سلطة المعلم، أي أن السي-فو يعلم ما الذي يتحدث عنه؟

الثاني: آه، إنك محق، لكن إذا أصبح الطالب معلمًا، يمكن أن ينظر إليها بصفتها انعدامًا للمساواة منقلبة على رأسها، إلا إذا كنت تعني بالمساواة بهذا الموقف أن يمكنهم تبادل اﻷدوار، كما أن السي-فو أساء استخدام سلطته بصورة ما أيضًا.

اﻷول: لكن طالما ظل مظهر السلطة موثوقًا فيه ومعتمدًا عليه، فسيظل سلطة رغم ذلك. وهذا هو جمال القصة بالنسبة لي، فقد ادعى المعلم أنه يعلم شيئًا لم يكن يعلمه مطلقًا، وكل ما كان يعلمه أن هذا الحديث عن الدان-تين ليس إلا هراء، أشياء يكررها الناس دون تفكير، كأنها نبوءة يمكن أن يفهمها اﻷذكياء بعد لحظة التنوير، لكنه لم يعرف ذلك، وحتى أنه أخفى حقيقة أنه لم ينجح في فهمها مطلقًا، ومرر الرسالة مثلما مررت إليه، كما أتخيل، من قبل معلميه في الماضي. لكن من خلال هذا التكتم تحديدًا، استطاع الطالب أن يتعلم شيئًا لم يتعلمها معلمه. وهذا يفسر لِمَ كنت مخطئًا في مشاركتك لأفكارك معنا. ﻷنه بالمثل، إذا صدقنا أن كل شيء يسير على ما يرام وتحت سيطرتك، ربما نستطيع تعلم شيئًا لم تكن تعلمه.

الثاني: هممم. يجب أن أفكر بهذا. أتعجب إذا لم يكن هناك تأويل آخر يختلف عن الذي قدمته. فالقضية ليست بالضرورة أن تكتم السي-فو أو ادعاءه للسلطة تسبب في تنور باومان. فلربما كان باومان دائمًا على علم بالدان-تين، لكن ما لم يعلمه هو ببساطة كيف يتواصل مع جسده بحيث أن جسده «يعلمه» هو اﻵخر. لم يحتج المعلم إلى الكذب، قد يكون ببساطة شجع باومان، وقد يكون باومان نجح في صعود التل بدون هذا الحديث عن الدان-تين، مثلما يستطيع العديد من الرياضيين أن يفعلوا أشياء دون أن يقدروا على تفسير طريقة فعلها. من الممتع أن نفكر حول فيما تكلمنا فيه، فأنت انتقدتني لصراحتي المبالغ فيها، ثم ادعيت أنني يجب أن أكون صريحًا بصورة كاملة مع الجميع، لكنك اﻵن تبرر لِمَ يمكن لإخفاء اﻷشياء أن يكون شيئًا نافعًا، على اﻷقل في بعض اﻷحيان، بحجة أفضل بكثير مما كان لديك في البداية، والحقيقة أنني أشك إذا كان لديك واحدة من اﻷصل. (يضحك)

اﻷول: لا، ليس هذا ما أعنيه، ولست أناقض نفسي، إنهما ينتميان إلى موقفين وظرفين مختلفين.

الثاني: أي نوع من الظروف؟ إذا لم تكن دقيقًا فستصبح مناقضًا لنفسك، يجب عليك تحديدها كي تحل التناقض.

اﻷول: إنهما مختلفان على أية حال.

الثاني: حسنًا، ربما يمكنك أن تفهم ذلك وتعلمني. إنك تذكرني بقصة عن شوينبيرج[9]، كان يقول دائمًا لكل طالب إنه ليست لديه موهبة في تأليف الموسيقى ويجب عليه أن يترك المجال حالما استطاع. هذا ليس ﻷنه كان لئيمًا، بل ﻷنه شعر أن الوحيدين الذين يستطيعون البقاء في مثل هذا المجال هم من لم يبالوا بما يعتقده اﻵخرون عن تنافسهم، والذين يبدون حزمًا بعد اﻹحباط واﻹهمال والرفض المستمر. وبعبارة أخرى، كان عليه أن يمرن شجاعتهم وثقتهم في قدراتهم، واعتقادهم الذاتي في أنه حتى إذا جلب التأليف الموسيقي إليهم البؤس، فإنه هو الطريق الملكي الوحيد باتجاه أن يصبحوا ما يريدونه - والذي يمكن أن يكون خاطئًا، لكنه فضيلة رغم ذلك. 

اﻷول: هذا ما كنت أقوله بالضبط! سواء أخفيت أو كشفت، يجب أن يكون فعلك فاضلًا.

الثاني: هي فضائل فكرية على أية حال. وكيف لنا أن ننميها؟ من خلال تقرير متى يظلون في حاجة إلى حماية الصوبة البلاستيكية، ومتى يحتاجون إلى المخاطرة للتحطم من قبل العالم الخارجي. هذا هو مجمل فن التعليم.

*

الثاني: بالنظر إلى ما قلناه حتى اﻵن، أتعجب إذا ما كان التعليم، بالفعل، نوعًا من المعرفة. فكر فيها، الفيزياء معرفة، ﻷنه يمكن اكتشاف علاقات واضحة وثابتة بين اﻷشياء المادية، كما أن الرياضيات هي أيضًا معرفة ﻷن الزوايا الداخلية للمثلث دائمًا تبنى على زاويتين صحيحتين. لكن ليس هناك علاقة مثل هذه أو تلك يبدو أنها توجد بين ما يفعله المعلم والطريقة التي يمكن أن يستجيب بها الطالب. دعنا نعود إلى شوينبيرج، فلقد استعملته كمثال لإطلاق كذبة من أجل شيء أهم في التعليم مثل تنمية الفضائل أو الشخصيات. لكن يمكننا أن نتخيل بالتأكيد أن العديد من طلاب شوينبيرج استسلموا ﻷنهم ارتعدوا من بيان معلمهم. ومن وجهة نظر شوينبيرج أن تكنيكه أخرج أولئك الذين لن يكونوا مستعدين أبدًا للتعلم، لكن ربما أولئك الطلاب احتاجوا في هذه النقطة إلى التشجيع بدلًا من الترويع. ربما احتاجوا ببساطة من معلمهم أن يقول لهم حاولوا أكثر، وأنا موجود من أجلكم إذا احتجتم إليَّ. ومن وجهة نظر تلك النقطة، كانت إستراتيجية شوينبيرج صارمة زيادة عن اللزوم. وما كان عليه أن يعامل كل الطلاب بالطريقة نفسها، ﻷن هذا تصرف كسول، لكن كان عليه أن يراقب نفسية كل طالب ويتعامل معهم بطريقة مختلفة.

اﻷول: لكن هذا لا يجب أن يكون مفاجئًا، ﻷن كل واحد يختلف عن اﻵخر، فنحن أفراد.

الثاني: هذا صحيح! أعتقد أنك أشرت إلى القضية بدقة. إذا، بصفتنا الفردية لم نكن مختلفين إلى هذا الحد، أو إذا كنا نتشارك أكثر مما نختلف، أو إذا تشاركنا أمورًا عامة أكثر بيننا في التعلم والتعليم، إذن يمكن تصنيف البشر، ويمكن أن يصبحوا مواد المعرفة مثل الكواكب والمثلثات. يمكن للتربية أن تصبح شيئًا يمكن تعلمه. لكن إذا كان كل منّا مختلفًا ومتفردًا عن اﻵخر بصورة جذرية، إذن فلن نستطيع أن نقول مقدمًا ما النافع ﻷي أحد مطلقًا. حتى إذا نجحت مئات المرات في الماضي، فليس هناك ما يقول إذا ما كنت سأفشل مع الطالب القادم. وربما عليّ أن أقبل هذا، ﻷنه إذا كانت الفردية مهمة، إذن من المستحيل أن نقدم قواعد عامة، أو على اﻷقل لن تصبح القواعد العامة ذات فائدة أو دائمًا ستصبح هناك استثناءات، والسماح للاستثناءات يبدو أن التربية هي شيء أقرب للفن منها إلى المعرفة، والحقيقة أنها مثل الطب. يتطلب الطب أن يعالج حتى اﻷمراض نفسها بطريقة مختلفة بسبب اختلاف وظائف أعضاء المرضى. إذا كان الجسد يعرض تنوعًا يجعل من الطب يتميز بكونه فنًا مخلوطًا بالمعرفة، إذن يمكن للمرء أن يعتقد أن الروح أيضًا كذلك.

اﻷول: الفردية هي بالطبع حقيقة، ليس هناك شك في هذا.

الثاني: لا! لا! لا! لا أعتقد أننا نستطيع أن نقرر تلك المسألة بهذه السرعة. يعتقد العديد من الناس أننا عندما نصبح أنفسنا، فإننا نصبح حكماء، والحكمة مجهولة، لأن الحكمة هي نوع من المعرفة، والمعرفة مجهولة، عندما يجيب جميع من في الفصل بأربعة على سؤال «ما حاصل جمع اثنين واثنين» يصبح الجميع متساوين، ﻷنه ليس هناك فرق بين لون البشرة والخلفية العرقية أو النوع الاجتماعي لترايسي وأندرو.

اﻷول: دعك من هذا. أعلم ما الذي تقصده، لكنه غير ذي صلة. حتى لو خسرنا «أسماءنا» وفرديتنا في النهاية، فهذا لا يعني أن الطريق باتجاه المجهولية واحد بالنسبة إلى الجميع. نحن نبدأ بالفردية و«نسافر عبرها» ولا يهم إذا كان الفرد هو الغاية أو لا.

الثاني: إنك محق، وإني أتراجع عما قلته. المسألة إذا كان الفرد، الشخصيات المتفردة، وطبائع الطلاب (والمعلمين!) هي أشياء يتوجب رعايتها في التعليم. ومن أجل أن نتلافى تعقيد اﻷمور أكثر مما هي عليه، دعنا نقول إن تلك الأشياء مهمة. وإذا كان هذا صحيح، فنحن لدينا حجة قوية للحميمية اﻵن كما أعتقد. تتلازم المقولات عن «الحميمية» و«التربية فن وليست معرفة». إذا كان التعليم فنًا بسبب فردية البشر، إذن يمكن أن يكون المعلم جيدًا بصورة يعتمد عليها فقط إذا أمضى وقتًا مع كل طالب من طلابه وراعى ما يحتاجونه طبقًا لفردياتهم. يحتاج المعلم أن يتعلم بخصوص أرواح طلابه من أجل أن يعلم شيئًا بصورة مؤثرة، يتطلب التعليم معرفة الفرديات بطريقة تتطلب الحميمية وتخلقها. لا يمكن للمعلم أن يكون لديه طلاب كثيرون، فمن الضروري أن يكون انتقائيًا. حتى المعرفة الذاتية تعد شيئًا ضروريًا مع إدراك أن ليس هناك معلم واحد صالح لكل الطلاب. فقط إذا كان هو أو هي صادقين مع أنفسهم، يمكن للآخرين أن يصدقوا مع أنفسهم. ومن ثم يجب على فن التعليم أن يكون متصلًا بشدة بفن الحب، بقدر ما يصبح الحب نموذجًا للحميمية. تعني الحميمية المعاملة الفردية. إذا لم يفعل هذا الشيء بعشوائية، لكن عن معرفة، إذن فالوقت مهم. ومن هذا المنطلق، أعتقد أن أي فصل يدار بالتعاون يحتاج إلى أنشطة خارجه، مثلما نفعل اﻵن - أشعر أنني فهمتك اﻵن بصورة أفضل بناء على استجابتك لما قررت أن أفعله، فتعلمت شيئًا، حتى لو لم يكن ما توقعته بالضبط. تبقى تجربتي مجرد تجربة إلى هذا الحد، حيث لم أطبقها باستيعاب ناضج لماهيتكم. لم أطبقها بمسؤولية.

اﻷول: لا بأس، فالسي-فو في قصتي لم يكن مسؤولًا حقًا كذلك.


[1] Kierkegaard, Søren, Fear and Trembling / Repetition, trans. and edited by Howard V. Hong and Edna H. Hong, with Introduction and Notes, Princeton University Press, 1983, p. 46
والعربية عن ترجمة فؤاد كامل - دار الثقافة للنشر والتوزيع - 1983 - ص 62.

[2]  Deleuze, Gilles, Difference and Repetition, trans. Paul Patton, Columbia University Press, 1994, p. 151.
والعربية عن ترجمة وفاء شعبان، مراجعة جورج زيناتي - المنظمة العربية للترجمة - الطبعة اﻷولى، 2009 -  ص 301.

[3]  Rancière, Jacques, The Ignorant Schoolmaster: Five Lessons in Intellectual Emancipation, translated with an introduction by Kristin Ross, Stanford University Press, 1991.
جاك رانسيير، المعلم الجاهل: خمسة دروس حول التحرر الذهني، ترجمة: د. عز الدين الخطابي، الناشر: مؤسسة عبد المحسن القطان، مركز القطان للبحث والتطوير التربوي.
ملاحظة ذات صلة: يدل العنوان الفرعي أن ذلك التعليم لن «يحررنا» بمعنى تقليل أو إلغاء انعدام التكافؤ السياسي والاجتماعي، فكما يرينا الفصل اﻷخير بوضوح أن التكافؤ الفكري يتعايش جيدًا مع المحافظة الاجتماعية.

[4]  نحن، كما أفترض، ندرك جميعًا الفرق إلى درجة ما. فأنا أعرف طبيبًا، بارع جدًا في عمله وذكي للغاية، لكنه يتأثر بسهولة «بالقادة الروحيين» و«التنمية الذاتية» هو عالم، لكنه بليد أو أحمق. وباﻷحرى، وفي الواقع يقترح رانسيير متبصرًا في بعض اﻷحيان أنه هناك توترًا بين الطريقتين في التعلم: كلما أصبحت متحققًا في التعلم بالمعنى التقليدي، كلما كان صعبًا عليك أن تصبح منعتقًا. (انظر TIS 107, 133.)

[5]  كما اقترح كريم ياسين جوسنجر بأسلوب رائع، ربما توصف بصورة مؤثرة أكثر بصفتها طريقة للبقاء معًا (حتى لو كان الوصف الشاعري مضلل).

 [6]  Bowman, Paul, "The Intimate Schoolmaster and the Ignorant Sifu: Poststructualism, Bruce Lee, and the Ignorance of Everyday Radical Pedagogy," in Seery, Aidan, and Éamonn Dunne, The Pedagogics of Unlearning, Punctum Books, 2016, pp. 131-156.

[7] أي المتدرب، وحرفيًا تعني اﻷخ اﻷصغر للعائلة «يقصد مدرسة الكونج فو».

[8]  Bowman, "Sifu," pp. 154-155, Also compare TIS 58; 107.

[9]  مؤلف موسيقي نمساوي ورسام، يرتبط بالحركة التعبيرية في الشعر والرسم الألماني، وهو صاحب نظريات في التأليف الموسيقي والتدريس.