فيروس كورونا ولماذا يحتاج البشر إلى تأويل مغزى الأوبئة

مقال لآدم جوبنك*

نُشر في النيويوركر، 11 مارس 2020

ترجمة: رفيده جمال ثابت

آدم جوبنك (1956- ) مؤلف وناقد وكاتب مقالات أمريكي في جريدة النيويوركر.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.


انتصار الموت، بيتر بروجل، عن ويكيميديا

كل وباء له مغزى، هذه هي طبيعة استجابة البشر في العموم لتفشي وباء بشكل مفاجئ أو غير متوقع، ولا سيما الأوبئة التي تُعرّض حياة الأفراد والمجتمعات على حد سواء للخطر. نعرف ذلك منذ بدء التسجيل الأدبي والقصصي لحوادث ووقائع هذه الأوبئة. وجود حرب لا تنتهي ولا يمكن التنبؤ بها بين الإنسان والميكروب، حرب خالية من المغزى، من جانب الميكروب على الأقل، تمثل حقيقة عصية على التصور. ولا شك أن هذه الحرب لا تحدث بين الإنسان والميكروب فحسب، بل تشمل كل أوجه الحياة الموجودة على سطح الأرض، بحيث تنخرط الكائنات الحية في حرب مستمرة غير متكافئة مع جميع أنواع الميكروبات والطفيليات والبكتيريا والفيروسات.

وفي مواجهتنا لهذه الحرب المتواصلة والمخيفة، لا ننقب عن الأسباب المادية فحسب بل وأيضًا عن المغزى الأخلاقي؛ فنبحث عن ثمن يجب دفعه أو درس نتعلمه من المرض. فحينما يُصاب الأخيار بالمصائب نفتش عن مبرر، وعندما تنهال هذه المصائب على رؤوس الجميع، نتلمس سببًا، ويجدر به أن يكون قويًا، مساويًا للألم الذي أوقعه.

وأشهر هذه المحاولات بالطبع تلك المرتبطة بأول طاعون عظيم سُجل في الأزمنة الحديثة، الطاعون الأسود الذي اجتاح جميع أنحاء أوروبا في القرن الرابع عشر مخلفًا وراءه الخراب والدمار. وقد انتقل هذا الطاعون عن طريق الفئران، أو البراغيث التي تسكنها، لكنه وقتذاك بدا وباء غامضًا. فقد كان الناس يمرضون ويموتون بأبشع الطرق، وكذلك يموت أي شخص يقترب منهم. اعتقد الناس أن الطاعون عقاب من الله، أو سم دسه اليهود. ويُعتقد أن معاداة السامية الأوروبية الحديثة، بما فيها القتل الجماعي لليهود، يرجع أصلها إلى سنوات الطاعون. لم يخطر ببالهم أن مسبب الوباء كان شيئًا صغيرًا؛ ربما لأن البراغيث كانت منتشرة في كل مكان حتى أنهم لم يدركوا أن شيئًا حقيرًا كهذا يمكن أن يتسبب في تلك الكارثة. وكانت الخدعة تكمن في إدراك أن وباء على هذا النطاق الكبير يمكن أن يحدث بسبب كائنات صغيرة مثيرة للسخرية كالفئران والبراغيث، وليست عقابًا من الآلهة.

طوال تاريخ الأوبئة والأمراض التي تفشت بين البشر تتكرر الرغبة في إلصاق مغزى بالميكروب. حتى إنه في أواخر القرن التاسع عشر, حينما كان الطب يخطو أولى خطواته بصورته العلمية الحالية، كانت فكرة أن الميازما (miasma) أو الهواء الملوث هو المتسبب في مرض الكوليرا فكرة شائعة، حتى في أوساط المتعلمين، وجاء معها التأويل القائل إن الفقراء والمهاجرين كانوا يموتون لأنهم دومًا يمرضون، أو يجلبون المرض معهم، أو تحتفظ به أجسامهم.

إحدى أعظم ثورات الفكر والوعي البشري كانت إدراك أن الميكروبات فاقدة للمغزى؛ لم تأت لتعاقبنا أو تعلمنا درسًا بل لتعيش وتتكاثر، مثلها مثل أي كائن حي، ولا تتأثر بالنتائج المدمرة التي تصيبنا بها. ومع هذا الإدراك فهمنا أن ما نحتاجه لم يكن الإصلاح الأخلاقي بل الصحة والنظافة العامة. لم تكن المزية العظيمة التي تفوقنا بها عمن عاشوا في العصور الوسطى أننا عبدنا إلهًا أفضل بل أننا عرفنا غسل الأيدي.

في ظل هذا الوباء الحالي المباغت، أدت رغبتنا في إيجاد سبب أخلاقي لإلقاء اللوم عليه إلى معاملتنا للميكروب باعتباره «آخر». في تغريدة له على تويتر يطلق كيفن مكارثي، زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب الأمريكي، على فيروس كورونا المستجد «فيروس كورونا الصيني» في محاولة واضحة لإبعاد المسؤولية الأمريكية عن هذا الفيروس وإلصاقه بالشرق الغامض.

غير أن أطراف المعادلة السياسية ارتكبوا خطأ في اعتبارهم الوباء عقابًا، مثل القول بأنه عاقبة تجاوزاتنا في حق البيئة. على الرغم من أن البعض اقترح أن توسُّع المناطق الحضرية على حساب الريف في الصين تسبب في نشوء أنواع فيروسية جديدة، إلا أن ثمة سبب منطقي يقول إن انتشار هذا الفيروس لم يكن بسبب انتهاك مباغت لحياة على أخرى، بل كان نتيجة دخول الثعابين والخفافيش وآكل النمل البنغولي سوق المواد الغذائية الطازجة، حيث تباع المأكولات البحرية والحيوانية. (مُنعت هذه الأسواق، التي يُعتقد أنها كانت بؤرة انتشار الفيروسات الجديدة في الماضي، من بيع الحيوانات البرية في جميع أنحاء الصين، برغم وجود طلب كاف على الحيوانات مما يسهّل إنشاء سوق سوداء).

على الرغم من أن منع العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى اختلاط فيروسات الحيوانات معًا في مزيج مسموم يبدو أمرًا منطقيًا، لن يستطع المهتمون بالبيئة، مهما زادت إجراءاتهم الاحترازية، منع جميع الأوبئة في المستقبل. فالحياة وأعدائها تعج بمصادفات واحتمالات تفوق تصورنا. ربما ينتهي الميكروب، لكن تاريخ الحياة على سطح الكوكب يشير إلى أن ميكروب آخر سيظهر ويصيبنا جميعًا مجددًا، مهما أصلحنا من أنفسنا ومن سلوكنا البيئي. 

وعوضًا عن محاولة إيجاد مغزى وراء الوباء تحل الآن محلها جهود مبذولة على نطاقات واسعة، تبدو صادمة مقارنة بما يُعتبر، حتى الآن، كارثة محدودة لا تزال تحصد المئات من الحالات الإيجابية في مدن تعج بملايين البشر. الأنباء السارة هي أنه في سنغافورة وكوريا الجنوبية حققت الإجراءات المشددة للعزل والحجر الصحي انخفاضات صغيرة لكنها ملحوظة في الإصابة بالعدوى. هذه الانخفاضات الصغيرة (تُسطِّح المنحنى) وتُحدث تغييرًا في مسار الوباء. وتجري إيطاليا تجربة مماثلة على نطاق غير مسبوق. ولكن إلى أي مدى يستجيب المجتمع ويخضع لهذه الإجراءات؟ إنه «سؤال مهم» كما يقول العلماء. إحدى التبعات الخفية للأزمة الحالية هي تغيير فهمنا إزاء مقدار الصرامة المطلوبة التي يمكن للحكومات استخدامها لتحقق الازدهار في عصرنا.

من المفارقات الساخرة للأزمة أن استخدام وسائل صغيرة إضافية في الأزمنة الحديثة كان يؤثر بشكل كبير على المشكلات العامة، إلا أنه في حالتنا هذه، الوسائل الكبيرة التي تبدو غير مألوفة، مثل إلغاء الأنشطة العامة، وغلق المدارس ومكاتب العمل، تعتبر ضرورية لخلق تغيرات صغيرة في مواجهة هذه الجائحة. وربما تفسر هذه الإجراءات الجديدة غير المألوفة السبب في صعوبة تقبل عقولنا هذه التغيرات؛ فقد اتضح أن وباء يمكن أن يتسبب في نشوب أزمة صحية عالمية ضخمة، وفي الوقت نفسه يخلف، حتى الآن، عددًا قليل من حالات الإصابة بالمرض. 

إن الشيء المنطقي الأن ليس الأمل في حدوث معجزة شفاء، بل قبول أن التدابير والإجراءات القصوى ربما تعود بتأثير مفيد على نطاق صغير. ليكن شعارنا: «لا تبعد الميكروب, بل سطِّح المنحنى!»، والاعتماد على حكمة العلم، أو العقلانية والمنطقية، في هذه الظروف العصيبة.