قصة للكاتب الفرنسي
البلجيكي إريك إيمانويل شميت
ترجمة: محمود راضي
الترجمة خاصة بـ Boring
Books
يحتفظ الكاتب بحقه
في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
سَرَت في دواخلهن رعشة من اﻷمل حين رأوا أولجا للمرة اﻷولى.
لم تبد لطيفة في ذاتها إحقاقًا للحق. كانت طويلة، ذابلة، ذات فك ناتئ، وكوعين بارزين، وبشرة شاحبة، في البدء لم تتطلع إلى أية امرأة في الجناح حين وفدت. جلست على السرير المخلخل الذي عُين لها، وطرحت متعلقاتها في قلب الصندوق الخشبي، واستمعت إلى الحارس يصرخ بالقواعد في وجهها كما لو كان ينهق بشفرة مورس، ولم تدر رأسها حتى أُعلِمتْ بمكان الكِنيف، وبمجرد أن غادر الحارس، تمددت على ظهرها، وفرقعت أصابعها، وسلمت نفسها للتأمل في ألواح السقف المُسودّة.
تمتمت تاتيانا: «أرأيتِ شَعرها؟»
لم تع السجينات ما تعنيه تاتيانا بذلك.
كان للوافدة الجديدة شَعر كثيف: مُجعد، متين، خشن، مما ضاعف حجم رأسها. نماء وحيوية نشهدهما في العادة على رأس امرأة أفريقية، لكن لا يرجح أن تكون أولجا أفريقية رغم بشرتها الزيتونية، وربما تكون قد وفدت من مكان ما في الاتحاد السوفيتي، بما أنها اﻵن في سيبيريا، وفي هذا المعسكر النسائي حيث يعاقِب النظام أولئك اللاتي لا يفكرن على نحو قويم.
«ماذا عن شعرها إذن؟»
«أظن أنها من منطقة القوقاز».
«أنتِ على حق، فنسائهم على الدوام ذوات شَعر يشبه التبن».
«نعم، شَعر بشع، أليس كذلك؟»
«إطلاقًا، إنه رائع، مع شَعري اﻷملس الرفيع، لا يسعني سوى الحلم بامتلاك شَعر كهذا».
«أفضل الموت عن ذلك، يبدو مثل شعر الحصان».
«لا، شَعر العانة!»
صاحبت ملحوظة ليلي اﻷخيرة قهقهة سرعان ما انكتمت.
اكفهرت تاتيانا وأسكتت الجمع بإشارة:
«قد يقدم لنا شَعرها الحل».
حرصًا على إرضاء تاتيانا التي اعتبرنها قائدتهن رغم كونها مجرد سجينة عادية مثل اﻷخريات، حاولن التركيز على ما أخفقن في فهمه: كيف يمكن لشَعر سيدة غريبة أن يقدم أي حل للحياة اللاتي يختبرنها، حياة المنحرفين سياسيًا المجبرين على التعلم مجددًا؟
في تلك الليلة، دُفن المعسكر في الثلج المتساقط الكثيف. كل شيء كان مظلمًا في الخارج فيما عدا المصباح الذي تبذل العاصفة قصارى جهدها لإطفائه. درجة الحرارة الواقعة تحت الصفر لم تساعدهن على التركيز.
«أتعنين...؟»
«نعم، أعنى أنه يمكنكِ إخفاء بضعة أشياء في أعماق شَعر كهذا».
أدركن لحظة من الصمت الوقور. خمنت إحداهن في نهاية المطاف: «لقد جلبت معها..».
«نعم!»
ليلي، سيدة شقراء رقيقة، ما زالت ملفوفة القوام مثل أية امرأة جذابة رغم الطقس والشقاء في العمل والطعام البائس. أبدت اﻵن تشككها..
«حسنًا، عليها أن تفكر في ذلك الأمر أصلًا».
«لماذا لن تفكر في ذلك؟»
«بالتأكيد لن أفكر في ذلك قبل مجيئي هنا».
«وأنا أشير إليها، ليس لكِ».
تراجعت ليلي عن التعبير عن ضيقها، وعادت لحياكة حشوة تنورتها الصوفية، ﻹدراكها الكامل أن تاتيانا سيكون لها الكلمة الأخيرة.
استمعن إلى العواء الثلجي للعاصفة.
نزلت تاتيانا ﻷسفل الصف تاركة رفيقاتها وراءها، واقتربت الوافدة الجديدة من طرف سرير، ووقفت هناك لوهلة، منتظرة إشارة تدل أنها قد لاحظت.
كانت الشعلة الواهنة تموت في الكانون[1].
بعد دقائق قليلة، لم تحز فيها أي رد فعل، قررت تاتيانا أن تخترق الصمت «ما اسمكِ؟»
أجاب صوت عميق: «أولجا». لم تتحرك شفتاها.
«ولم أنتِ هنا؟»
لا استجابة على وجه أولجا، قناع من الشمع.
«أظن أنكِ كنتِ خطيبة ستالين المفضلة وسئم منك، مثلنا جميعًا».
اعتقدت أنها تقول شيئًا مضحكًا، نكتة شبه روتينية لتحية كل مقاومي النظام الستاليني، انزلقت كلماتها على الغريبة مثل حصاة ملساء على الثلج.
«اسمي تاتيانا، أتحبين أن أقدمكِ للأخريات؟»
«سيكون هناك ما يكفي من الوقت لهذا، أليس كذلك؟»
«بالتأكيد سيكون.. سنبقى في هذه الحفرة شهورًا، أو سنوات، قد نموت هنا».
«لذا لدينا الوقت».
ختامًا، أغمضت أولجا عيناها واستدارت لتواجه الجدار، تاركة فقط كتفيها النحيلتين لتواصلا الحوار.
عادت تاتيانا لتنضم للأخريات، مدركة أنها لن تحوز أي شيء إضافي منها.
«يا لها من جوزة صلبة، وهذا شيء مطمئن، هناك فرصة ﻷن...».
أومأن موافقات، بما فيهن ليلي، وقررن الانتظار.
في الأسبوع التالي، لم تتفوه الوافدة الجديدة بما يزيد عن جملة في اليوم، وحتى تلك كانت تخرج غصبًا. بدا هذا المسلك مُعَزِّزًا ﻵمال السجينات القديمات.
قالت ليلي في النهاية، مع ترسخ قناعتها مع كل ساعة تمر: «إني على يقين أنها فكرت في ذلك، قطعًا هى من نوعية اﻷشخاص الذين يفكرون في ذلك».
جلب النهار ضوءًا شحيحًا، وفرض الضباب رماديته عليه، وعندما انقشع، هبط على المعسكر ستار لا يُخترق من السحب الثقيلة، كجيش من الحرس.
بما إنه لم يقدر أحد على تحفيز ثقة أولجا، اعتمدت النساء على الدُش لتظهر لهن إن كانت الوافدة الجديدة تخفي ...! لكن الجو كان باردًا لدرجة أن إحداهن لم تحاول خلع ملابسها أكثر من ذلك، لذا كان من المستحيل أن يتنشفن ويستدفئن بعد لجوء الكل للشروع في اغتسال سري وجيز. زاد على ذلك اكتشافهن ذات صباح مطير أن فروة رأس أولجا شديدة الكثافة لدرجة سيلان القطرات فوقها دون التصاق، كان شعرها مضادًا للماء.
جازفت تاتيانا قائلة: «لا يهم، علينا المخاطرة».
«أن نسألها؟»
«لا، أن نريها».
«وماذا لو كانت جاسوسة؟ ماذا لو قد أرسلت إلى هنا كي توقعنا في الفخ؟»
قالت تاتيانا: «إنها ليست من أولئك اﻷشخاص».
أكدت ليلي ذلك، ساحبة خيط وهى تحيك: «لا، إنها ليست من أولئك اﻷشخاص».
«بلى إنها من أولئك! تتظاهر بالصمت والشدة والجفاء، ذلك النوع الذي لن يتقرب ﻷحد، أليست تلك بالطريقة المثلى لدفعنا للثقة بها؟»
كانت إيرينا هى من صاحت على هذا النحو، مفاجئة المرأة اﻷخرى، ومفاجئة نفسها، نشوانة بتماسك برهانها، واصلت مشدوهة: «بإمكاني فحسب التخيل أنه لو أوكل لي أحد بالتجسس على كوخ حاشد بالنساء، فلن توجد طريقة أمثل من ذلك لفعلها. أن أمرر نفسي بكوني الشخصية الهادئة المنعزلة، ومع الوقت أكسب ثقة الأخريات. ذلك أذكى من التظاهر بالود، أليس كذلك؟ ربما اخترقتنا أكبر نمامة في الاتحاد السوفيتي».
كانت ليلي، للمفاجأة، شديدة الاقتناع بذلك لدرجة أنها كبست إبرتها في قلب إصبعها. تكونت قطرة من الدماء. ونظرت إليها مرتعبة.
«أود الانتقال إلى كوخ آخر، بسرعة!»
تدخلت تاتيانا:
«أتفهم منطقك يا إيرينا، لكن هذا كل في اﻷمر، منطق، أما أنا، فحدسي يخبرني العكس. يمكننا الثقة بها، إنها مثلنا، أو أشد مما نحن عليه».
«لننتظر، ﻷنه إن قُبض علينا...».
«نعم، أنتِ على حق، لننتظر، وفوق كل هذا، لنحاول دفعها حتى نقطة الانهيار، دعونا نتوقف عن الحديث معها، إن كانت جاسوسة مزروعة هنا لتبلغ عنا، ستقلق وتحاول التقرب منا، ستكشف عن خطتها مع كل خطوة تتخذها».
أيدت إيرينا: «فكرة جيدة، لنتجاهلها ولنر كيف ستستجيب».
«هذا مريع» شهقت ليلي، لاعقة إصبعها لتسريع التئام الجرح.
لمدة 10 أيام، لم تتفوه سجينة واحدة في العنبر رقم 13 بكلمة ﻷولجا، لم تبد أنها قد لاحظت في البدء، وفور وعيها بذلك، اشتد تحديقها، صار شبه جامد، ومع ذلك لم تُبد أقل إيماءة لخرق جدار الصمت. لقد تقبلت عزلتها.
بعد أن حصلن على حسائهن، تجمعت النسوة حول تاتيانا.
«هاهو دليلنا، أليس كذلك؟ إنها لم تنكسر».
«نعم، هذا مخيف».
«أوه يا ليلي، كل شيء يخيفك».
«عليكِ الاعتراف بأن هذا كابوس، أن تُلفظي من جماعة، ثم تدركين ذلك، ولا ترفعي إصبعًا للحد من هذا النبذ، هذا لا يكاد من شيم البشر، أتساءل لو كان ﻷولجا قلبًا».
«من قال إنها لا تقاسي؟»
نحت ليلي خياطتها، وشبكت إبرتها في ثنية الصوف الكثيف، إنها لم تفكر في ذلك، اغرورقت عيناها على الفور بالدموع.
«هل جعلناها تعيسة؟»
«أظن أنها كانت تعيسة عندما وفدت إلى هنا، واﻵن باتت أتعس».
«يا للمرأة المسكينة، وإنه ذنبنا».
«مع هذا، أظن أنه يمكننا الاعتماد عليها».
«نعم، أنتِ محقة» هتفت ليلي، مجففة دموعها بكمها، «لنفصح لها اﻵن، بسرعة. ما يجرحني كثيرًا حين أفكر في كونها سجينة مثل بقيتنا، ونحن نزيد مشاكلها سوءًا بجعل حياتها مستحيلة».
بعد بضعة دقائق من التشاور، قررت النسوة أنهن سيخاطرن بالكشف عن مخططهن، وأن تاتيانا ستأخذ زمام المبادرة.
بعد ذلك، غرق المعسكر في نعاسه، وفي الخارج كان الصقيع قاسيًا، وخشخشت بعض السناجب الماكرة عبر الثلج بين اﻷكواخ.
كانت أولجا تفتفت كسرة بائتة من الخبز بيدها اليسرى، وباﻷخرى تحمل طبقها الفارغ.
جاءت تاتيانا.
«أتعلمين أنه مسموح لكِ بعلبة سجائر كل يومين؟»
«هل خطر لكِ أني لاحظت ذلك أو أني أدخن؟»
خرجت كلمات أولجا من فمها جافة وفظة، لقد ضاعف من قدرتها على التعبير الخرق المفاجئ لأسبوع كامل الصمت.
لاحظت تاتيانا أن أولجا تحدثت أكثر من المعتاد رغم نبرتها الهجومية. كانت تفتقد حتمًا لموهبة التواصل اﻹنساني... لذا اعتبرت تاتيانا أنه لا بأس من المواصلة.
«بما أنك تلاحظين كل شيء، لم يردك أي شك أن أي منا لا تدخن، أو أننا ندخن فقط اﻵن، وثانية حين يكون الحراس في الجوار».
«آ.. نعم، لا، ماذا تعنين؟»
«ألم تتساءلي فيم نستخدم سجائرنا؟»
«أوه، فهمت، أنتن تبادلهن، تستخدمهن على سبيل اﻷموال في المعسكر، أتريدن أن تبيعن لي بعضهن؟ لا أملك شيئًا ﻷدفع به..»
«أنتِ مخطئة».
«إذن، إن لم تدفعن بالمال، فبم تدفعن؟»
رَنَت أولجا لتاتيانا في عبوس متشكك، كما لو أنها تعرف مسبقًا أن أيًا كان ما ستكتشفه، فسوف يشعرها بالاشمئزاز، لذا أخذت تاتيانا وقتها في الرد:
«نحن لا نبيع سجائرنا، ونحن أيضًا لا نبادلهن، نحن نستخدمهن لغرض آخر غير التدخين».
توقفت تاتيانا عن الحديث ﻷنها شعرت أنها أثارت فضول أولجا، مدركة جيدًا أنه سيكون لديها حجة قوية لو بات على النسوة اﻷخريات أن يعدن إليها لمعرفة البقية.
في ذات المساء، توجهت أولجا إلى تاتيانا وتطلعت إليها لوقت طويل، كما لو كانت تطلب منها كسر حاجز الصمت، وردت تاتيانا مختالة بمثل ما فعلت هى في الليلة الأولى.
أذعنت أولجا في النهاية:«حسنًا، ماذا تفعلن بالسجائر؟»
«هل تركت وراءك أناسًا تحبينهم؟»
كان رد أولجا الوحيد أن بدا على وجهها تعبير متألم عابر .
واصلت تاتيانا: «ونحن كذلك، نحن نفتقد رجالنا، ولكن لم يجب علينا القلق حيالهم أكثر من القلق ﻷجلنا؟ إنهم في معسكر آخر، لا، ما يوجع أكثر: اﻷطفال».
اضطرب صوت تاتيانا، نخست وجدانها صورة ابنتيها. حطت أولجا يدها على كتف تاتيانا بدافع من اﻹشفاق: يد ثابتة وقوية، أشبه بيد رجل.
«أعي هذا يا تاتيانا، لقد خلفت ابنة ورائي أنا اﻷخرى، لحسن الحظ أنها في الحادية والعشرين من عمرها».
«ابنتاي في الثامنة والعاشرة».
تطلب اﻷمر منها كل ما تبقى لديها من قوة لتمنعها من البكاء، وبجانب ذلك، ماذا هناك أيضًا كي يُضاف؟
سحبت أولجا تاتيانا بفظاظة إلى كتفها، أما تاتيانا: تاتيانا القوية، زعيمة الخلية، الثائرة اﻷبدية، فلأنها وجدت شخصًا أقوى منها، سمحت لنفسها أن تنتحب على صدر امرأة غريبة.
مع تحررها من فرط مشاعرها في أمان، استطاعت التقاط خيط أفكارها.
«هذا ما نستخدم السجائر ﻷجله: نفرغ التبغ، ونبقى الورق، بعد ذلك يمكننا صنع فرخ حقيقي من الورق من خلال تصميغه معًا، تعالي، سأريكِ».
رفعت تاتيانا لوحًا رخاميًا، وأزالت كومة مضغوطة من ورق السجائر من مخبأ مملوء بالطماطم، حيث تماسكت اﻷنسجة الرقيقة مع كل لفة وكل تجعيدة مصموغة، كما لو كانت برديات من ألف سنة واكتشفت في سيبيريا في جرف أثري.
وضعت فرخ الورق بعناية على ركبتي أولجا.
«هاهي، واحدة منا ملزمة أن تخرج في يوم من اﻷيام، وستأخذ رسائلنا معها».
«حسنًا».
«لكن كما لاحظتِ، توجد مشكلة».
«نعم، أرى أن جميع الصفحات بيضاء».
«نعم، بيضاء من الناحيتين، ﻷننا لا نملك قلمًا أو حبرًا، حاولت الكتابة بدمائي، سرقت دبوسًا من ليلي، لكنه سرعان ما يتلاشى، وأيضًا، أنا لا أحدث جرحًا نافذًا، اﻷمر له علاقة بصفائحي الدموية، سوء التغذية، أنا لا أريد الذهاب للمستشفى، قد يضعني ذلك موضع شك».
«لماذا تخبريني بذلك؟ ما علاقتي بهذا؟»
«حسنًا، أظن أنك ترغبين أيضًا في الكتابة لابنتك؟»
سمحت أولجا بمرور دقيقة كاملة من الصمت الكثيف، ثم قالت بجلافة: «نعم».
«إذن فهذا ما علينا فعله، سنزودك بالورق، وستجلبين لنا قلمًا رصاصًا».
«اﻵن، لم تظنين أن لدي قلم رصاص؟ إنه أول شيء يأخذونه منا حين يقبضون علينا، وتعرضنا جميعًا للتفتيش عدة مرات قبل المجيء هنا».
«شعرك...».
أشارت تاتيانا إلى دارة الشعر الكثيفة المحيطة بوجه أولجا العابس، وواصلت التحديق فيها.
«حين رأيتك أول مرة، حسبت أن...»
قاطعتها أولجا بيدها، وللمرة اﻷولى، ابتسمت.
«أنتِ على حق».
بينما ملأت الدهشة عيون تاتيانا، دست أولجا يدها وراء أذنها، ونقبت بين لفائف شعرها، ثم التمعت عيناها، سحبت قلمًا رصاصًا رفيعًا وناولته إلى رفيقتها السجينة.
«اتفقنا!»
ليس باﻷمر الهين قياس النشوة التي غمرت قلوب النسوة خلال اﻷيام التي تلت. من خلال عود الرصاص الضئيل هذا، رُدت إليهن أرواحهن، وكذلك عادت صلاتهن بالعالم عما قبل، وجدن طريقة لمعانقة أطفالهن. لم يبد الحبس بتلك المشقة بعد اﻵن، ولا حتى الشعور بالذنب. بعضهن ندمن أشد الندم على اهتمامهن بالأنشطة السياسية على حساب حياتهن الأسرية، واﻵن قد شحنّ إلى أجواف الجولاج، تاركين أطفالهن تحت رحمة مجتمع احتقروه وحاربن ضده، لم يسعهن الشعور سوى بالندم على تشددهن، والارتياب في فشلهن في مهامهن، ولذا أثبتن ﻷنفسهن أنهن أمهات سيئات. ألم يكن من اﻷفضل ببساطة أن يصمتن، كمثل الكثير من سائر نساء السوفييت، وأن يغمرن ذواتهن في القيم المنزلية؟ إنقاذًا لحياتهن وحياة أحبابهن، بدلًا من الكفاح لإنقاذ لحياة الجميع؟
بينما تملك كل سجينة بضع لفائف من الورق، لا يوجد سوى قلم رصاص واحد. لذا بعد بضعة اجتماعات، اتفقن أن لكل امرأة الحق في ثلاث لفائف مملوءة قبل أن تُضم اللفائف جميعها معًا في مفكرة مُخيطة على أن تُهرب للخارج مع أول فرصة.
القاعدة الثانية: على كل امرأة أن تخط صفحاتها دون إحداث أية أخطاء كي لا يُهدر عود الرصاص.
مع مقابلة قرارهن بحماس عام هذا المساء، باتت اﻷيام التالية مقلقة أكثر. مع مواجهة الالتزام بالتركيز على أفكارهن على ثلاث لفائف صغيرة، تمثل عناء كل امرأة في كيفية ملء ثلاث صفحات كاملة معًا، وصية من ثلاث صفحات يمكنها أن تميز خلاصة حياة كاملة، والتي ستمرر أرواحهن وقيمهن إلى أطفالهن، وتحكي عن أهمية وقتهن على اﻷرض؟
بات الشروع في الكتابة عذابًا. كان باﻹمكان سماع النشيج كل مساء من السرائر، بعض النسوة لم يستطعن النوم، واﻷخريات تأوهن ألمًا في أحلامهن.
في اللحظة التي استطعن فيها انتهاز الراحة من عملهن اﻹجباري، كنّ يحاولن تبادل أفكارهن.
«سأحكي لابنتي لم أنا هنا ولم لست معها، لذا سوف تتفهم، وربما ستغفر لي».
«ثلاث صفحات من عذاب الضمير كي تمنحين نفسك ضميرًا نقيًا، أتظنين حقًا أنها فكرة جيدة؟»
«أريد أن أحكي لابنتي كيف قابلت والدها، لذا ستدرك أنها ولدت نتاجًا للحب الذي بيننا».
«حقًا؟ وماذا لو كان كل ما تهتم به هو إدراك سبب عدم بقائك في الجوار كي تحبينها».
«أريد أن أحكي لبناتي الثلاث عن ولادتهن، فكل ولادة لهن كانت أجمل لحظة في حياتي».
«هذا مختزل نوعًا ما، أليس كذلك؟ ألا تظنين أنهن سيأسفن ﻷنك قصرتِ ذكرياتك على ظهورهن في المشهد؟ يمكنك تقديم اﻷفضل بالحديث عما جاء بعدها».
«أريد أن أخبرهن عما أحب أن أقدمه لهن».
«هممم».
انكشفت تفصيلة فريدة في غمار مناقشاتهن، كلهن وَلَدّن بناتًا، أدهشتهن الصدفة ثم فاجأتهن لدرجة أنهن تساءلن إن كان قرار احتجاز جميع أمهات البنات معًا في عنبر 13 لم يكن مقصودًا من طرف السلطات.
لكن هذا التحول لم يضع حدًا لمعضلتهن: ماذا يجب أن يكتبن؟
في كل مساء كانت أولجا تلوح بالقلم الرصاص وتنادي: «من تريد أن تبدأ؟»
في كل مساء يخيم الصمت متوزعًا على النساء. يمر الوقت على نحو ملحوظ مثل تكلسات تترسب من سقف كهف. تنتظر النساء منكسات رؤوسهن أن تصيح إحداهن قائلة «أنا!»، وأن تحلهن مؤقتًا من مشاكلهن، ولكن عقب سعال قليل ونظرات عابرة، ستقول أشجعهن في نهاية المطاف أنهن لا زلن يفكرن.
«تقريبًا وصلت إليها، ربما في الغد».
«نعم، وأنا أيضًا، قاربت على الوصول، لكني لست متيقنة بعد..».
مرت اﻷيام، دوارة مع هبات الثلج، متموجة مع صقيع بلا دنس. رغم أن السجينات انتظرن عامين ﻷجل القلم الرصاص، مرت ثلاثة أشهر فعليًا ولم تطلب إحداهن القلم الرصاص أو حتى قبلته.
لذا تخيل دهشتهن في يوم أحد بعد أن رفعت أولجا القلم وتمتمت بكلماتها الطقسية، أجابت ليلي بحماس: «سأحصل عليه، شكرًا».
استدرن واندهشن بالنظر إلى ليلي الشقراء ممتلئة الجسد، اﻷكثر طيشًا بينهن، واﻷشد حساسية، واﻷقل عنادًا. باختصار: اﻷكثر طبيعية. لو كان ﻷحد أن يحاول التكهن من بين السجينات ستكون اﻷولى التي تبدأ كتابة صفحاتها الثلاث، كانت ليلي بالتأكيد ستحل بين المعتزلات. تاتيانا كانت ستصير اﻷولى، أو ربما أولجا، أو حتى إيرينا، ولكن ليلي! الرقيقة العادية؟
لم تملك تاتيانا سوى أن تهتهه «ليلي، هل أنتِ متأكدة؟»
«نعم، أظن ذلك».
«لن تتعجلي في الكتابة، أو تحدثي أخطاء، أو تتلفي القلم الرصاص؟»
«لا، لقد فكرت مليًا، سأتدبر حالي دون أية أخطاء».
أولجا ناولت ليلي القلم الرصاص في تشكك، وبينما كانت تعطيها إياه، تبادلت النظرات مع تاتيانا التي بدت متيقنة أنهن سيرتكبن حماقة.
في اﻷيام التالية، حملقت نسوة عنبر 13 في ليلي مع كل مرة اختلت فيها لحالها كي تكتب، جالسة على اﻷرض، في تناوب بين الوحي -بأعين مرتقية للسقف- وجفافه، تقوس كتفاها كي تخفي الآثار التي تحدثها على الورق عن البقية.
في يوم اﻷربعاء أعلنت راضية: «لقد انتهيت، من يريد القلم الرصاص؟»
قوبل سؤالها بصمت قاتم.
«من يريد القلم الرصاص؟»
لم تجرؤ امرأة واحدة على التطلع للأخرى. استخلصت ليلي في هدوء «حسنًا إذن، سأدسه ثانية في شعر أولجا حتى الغد».
نخرت أولجا بالكاد حين خبأت ليلى القلم عميقًا بين خصلات شعرها.
ربما لاحظ أي شخص آخر غير ليلي -ليس بنفس الكفاءة، مع إدراك أكبر لتعقيدات قلب اﻹنسان- أن النساء في العنبر يوجهن نظرات غيورة نحوها، وربما حتى مع شيء من الكراهية. كيف تسنى لليلي التي كانت أقرب ما تكون للحمقاء أن تستطيع النجاح فيما فشلت فيه الأخريات؟
مر أسبوع، وكانت كل أمسية تمنح فرصة أخرى للنساء لمعايشة هزيمتهن.
أخيرًا، في اﻷربعاء التالي عند منتصف الليل، حين أشار صوت التنفس أن غالبية النساء قد نمن سريعًا، جرت تاتيانا نفسها في صمت إلى فراش ليلي بعد تعب من الاستلقاء والتقلب في فراشها.
«ليلي، أتوسل إليكِ، أيمكنكِ أن تخبريني ماذا كتبتِ؟»
«بالطبع يا تاتيانا، أتحبين أن تقرأيه؟»
«نعم».
كيف تدبرت اﻷمر؟ كان الوقت ما بعد الحظر.
احتشدت تاتيانا عند النافذة، كان هناك حقل من الثلج النقي خلف شبكة عنكبوت. مزرقة من ضياء القمر لو أدارت عنقها، أفلحت تاتيانا في استيعاب الصفحات الثلاث الصغيرة.
اقتربت ليلي وسألت، بنبرة صوت تشبه نبرة فتاة صغيرة اقترفت فعلًا خاطئًا: «حسنًا، ماذا تعتقدين؟»
«ليلي، أنتِ عبقرية».
وأخذت تاتيانا في حصنها ليلي كي تقبلها بضعة مرات على خدودها الريَّانة.
في الصباح التالي، طلبت تاتيانا من ليلي أن تسدي لها صنيعين: السماح بأن تحذو حذوها، والسماح بالمشاركة مع النسوة اﻷخريات.
أخفضت ليلي رموشها، وأجفلت كما لو قُدم لها باقة من الورود، وسقسقت بضع كلمات مغمغمة تشبه الهديل في حلقها، قاصدة الموافقة.
خاتمة
موسكو، ديسمبر 2005
مر خمسون عامًا منذ وقوع تلك اﻷحداث.
الرجل الذي يخط تلك السطور في زيارة إلى موسكو، لقد سقط النظام السوفيتي، ولم تعد توجد معسكرات اعتقال، رغم أن هذا لا يعني بأي حال أن الظلم بات شيئًا من الماضي.
في صالونات السفارة الفرنسية، قابلت الفنانين الذين قدموا مسرحياتي لسنوات. كان من بينهم امرأة في ستينياتها استحوذت على ذراعي في حميمية أخاذة، مع مزيج من الوقاحة والاحترام. لمعت ابتسامتها بالطيبة. كان من المستحيل أن أقاوم عينيها القرمزيتين.. تتبعتها إلى نافذة القصر المطلة على أضواء موسكو.
«أتحب أن أريك أجمل كتاب في العالم؟»
«وأنا الذي تشبثت بآمال كتابته بنفسي، وأنتِ تخبرينني أني تأخرت كثيرًا. وحسرتاه، هل أنتِ متأكدة من ذلك؟ أجمل كتاب في العالم؟»
«نعم، قد يكتب اﻷخرون كتب جميلة، لكن هذا هو اﻷجمل».
جلسنا على واحدة من اﻷرائك البالية هائلة الحجم التي يفترض أنها تزين الصالونات الكبرى في سفارات العالم أجمع.
أخبرتني عن والدتها، ليلي، التي قضت بضع سنوات في الجولاج، وعن تلك المرأة التي قضت العقوبة معها، وأخيرًا قصة هذا الكتاب تمامًا كما أوثقت الصلة أعلاه.
«أنا من أملك الكتاب، ﻷن والدتي كانت أول من يغادر عنبر 13، وأفلحت في تهريبه للخارج مخيطًا في جونلاتها. أمي ماتت، واﻷخريات كذلك. ومع ذلك، تأتي بنات الرفيقات السجينات لتصفحه من وقت ﻷخر: نشرب الشاي معًا ونتحدث عن أمهاتنا ثم نتصفحه من جديد. أوكلن إليَّ مهمة العناية به. حين لن أكون هنا بعد اﻵن، لا أعلم لمن سيؤول. أتساءل هل يمكن لمتحف أن يحصل عليه؟ ومع ذلك يبقى أجمل كتاب في العالم، كتاب أمهاتنا».
نصبت وجهها تحت وجهي كما لو كانت ستُقبلني، وغمزت لي:
«أتحب أن أريك إياه؟»
حددنا موعدًا.
في اليوم التالي، صعدت السلم الشاسع المؤدي إلى الشقة التي تتشاركها مع شقيقتها وابنتي عمومتها.
في منتصف الطاولة، بين الشاي وكعكات السكر، كان الكتاب منتظرًا، مفكرة من وريقات هشة تركتها العقود أكثر هشاشة مما مضى.
أجلستني مضيفتي على أريكة بالية، وبدأت في قراءة أجمل كتاب في العالم، كتبته مَن حاربتن في سبيل الحرية، ثائرات اعتبرهن ستالين خطرًا، محاربات مقاومات من العنبر 13، كل منهن كتبت ثلاث وريقات لابنتها، خشية أن لا تراها مجددًا.
في كل صفحة، كانت هناك وصفة طعام.
نوع من المواقد البدائية. (المترجم)[1]