التنوع والتمايز في جدلية اﻵداب الحرة
مقال لتُن جي. ديكر*
ضمن سلسلة «حول نشوء أبراج الحمام»**
ترجمة حسين الحاج
* تُن جي. ديكر هو نائب عميد الشئون اﻷكاديمية وأستاذ تعليم العلوم واﻵداب الحرة في كلية ماستريخت الجامعية. وقد حصل على درجة البكالوريوس في الآداب من كلية أوتريخت الجامعية، وهي أول جامعة للآداب الحرة في هولندا، ومنذ ذلك الوقت أصبح مناديًا متحمسًا لتعليم اﻵداب الحرة. أكمل دراساته العليا في الفلسفة السياسية في جامعة أوكسفورد مركزًا على نظريات البداوة للعدالة التوزيعية، ثم أكمل بحوثه في جامعة ييل. يُدرس تُن مساقات في كلية ماستريخت الجامعية ويكتب عن الفلسفة التعليمية في تعليم العلوم واﻵداب الحرة.
** ترجم هذا البحث ضمن مشروع لتأليف أربع بحوث فلسفية حول المبادئ اﻷساسية لما أسماه مؤسس معهد القاهرة للعلوم واﻵداب الحرة (سيلاس)، كريم ياسين جوسنجر، ببرج الحمام. أطلق كريم على هذا المشروع «حول نشوء أبراج الحمام»، راميًا إلى تشبيه سيلاس ببرج الحمام، بعكس ما يعرف عن الجامعات الحديثة بأنها «أبراج عاجية». المؤلفون المساهمون في هذا المشروع فلاسفة أكاديميون. تخصص اثنان منهما في الفلسفة القديمة والاثنان اﻵخران في الفلسفة المعاصرة. وقد قدموا بحوثًا حول المبادئ اﻷساسية اﻷربعة التي تنبثق من تجربة سيلاس وتستلهمها، وهم التنوع واللهو والحميمية والجهل.
الترجمة خاصة بـ Boring Books ومعهد القاهرة للعلوم واﻵداب الحرة (سيلاس)
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
تعتبر أبراج الحمام بطبيعتها مواطن للتنوع، ﻷن قاماتها تعلو المدينة مباشرة، وتطير كل أنواع الطيور منها وإليها. ونتيجة لذلك، تضم مجموعة متنوعة بحق من الريش، حيث يمكن للفرد أن يستغرق فيها، ويستكشف ثراء الوجود، ويختبر أنواعًا مختلفة من العيش. تلك البيئة ملهمة بعمق، وتجعل من برج الحمام موضعًا مثقفًا أكثر بكثير من خلية النحل أو مستعمرة النمل اللتين تتسمان بالبني الصارمة والتراتبية الهرمية. لن يصبح برج الحمام مكانًا مثيرًا لتمضية الوقت إذا كان كل الحمام متشابهًا. وإذا صح ذلك اﻵن على أبراج الحمام فهو أيضًا صحيح بالنسبة إلى البيئات التعليمية التي تستلهمها.
من أجل ذلك يحتفي دعاة تعليم اﻵداب الحرة بالتنوع بين جمهور الطلاب بصفته شيئًا جوهريًا بالنسبة إلى نمط التعليم الذي يدعون إليه. وتقدم كليات اﻵداب الحرة نفسها باعتبارها مجتمعات متنوعة تنوعًا واسعًا في مختلف اﻷبعاد، القومية، والثقافية، والاقتصادية الاجتماعية، والعقائدية، والتي تقدر بحق ذلك التنوع. وينفقون في بعض الحالات جهدًا ضخمًا وموارد مالية كبيرة في استقدام طلاب من خلفيات شديدة التنوع. ويحاولون خلق بيئة اجتماعية تلائم ذلك التنوع، من خلال فعاليات الأنشطة المضافة إلى المنهج الدراسي، وأيضًا من خلال مناقشة قيمة التنوع في المنهج الدراسي بصورة مباشرة.
عادة ما يبرر لذلك التأكيد على التنوع من خلال الادعاء أن ما ينتج عنه هو تعليم أفضل لكل الطلاب. يقوم دليلهم على أن الانفتاح على التنوع يحسن رؤيتهم ويقدم لهم الفرصة في التعلم من الثقافات اﻷخرى، ويساعدهم على رؤية اﻷوجه المتعددة للقضايا التي يدرسونها، كما يعلمهم التعاون بين مدى واسع من البشر، ويجعلهم يفهمون ظروف وخبرات مختلف الجماعات في المجتمع، ويزيد من قدر التسامح بين بعضهم بعضًا. في بعض اﻷحيان، تأخذ تلك المناشدات نبرة مشيحانية إلى حدٍ ما، كما يجادل بعض أنصار التنوع أنه يمكن تحقيق السلام العالمي واﻹخاء الكوني من خلال نظام تعليمي أكثر تنوعًا.
قد يغفر للمرء تحوله إلى السخرية من «عقيدة» التنوع التي يوصمها بكونها «شحنة من الهراء الهيبي يتفوه به مجموعة من رعاة النيرف[1] المنشدين للأغاني الحماسية في حفلات السمر في المعسكرات الصيفية». على أية حال، حتى أكثر المدافعين عن عقيدة التنوع حماسًا يجب أن يعترفوا بأن دفاعهم عن التنوع حالم أكثر من كونه مفهومًا بدقة، فهي باعتبارها عقيدة تبدو مقبولة ومرغوبة اجتماعيًا بشدة، لكن لم ينظر لها بما فيه الكفاية بصورة مخجلة. بعض المدافعين عن التنوع يحددون كيفية إبرازه في النظرية اﻷكبر للتعليم أو بلوغها تحديدًا كل تلك النتائج المفيدة. يجعل ذلك من دفاع المرء عن اعتقاده في القيمة التعليمية للتنوع بطريقة ممنهجة شيئًا أكثر صعوبة، وتؤكد بالدليل الظن في أن ما قد يفكر فيه المرء يحدث حقًا. إذا كان الاعتقاد في التنوع يمثل مبدأ محوريًا لتعليم اﻵداب الحرة المقام داخل أبراج الحمام وحولها هو أكثر من أن يكون شعارًا غامضًا، فإنه من الضروري أن يكون هناك منهجية في التفكير في دوره في تعليم اﻵداب الحرة.
وفي الخاتمة، ستقدم هذه الورقة نظرية عامة عن تعليم اﻵداب الحرة، وتوضح أن التنوع يلعب دورًا مهمًا ومحددًا للغاية داخل تلك النظرية. تتخذ تلك النظرية من نظرية هيجل العامة عن التطور قاعدة لها، والتي تؤمن بأن كل عمليات التطور تتبع نظامًا جدليًا. وبينما يصبح تعليم الآداب الحرة مثالًا فائقًا لعملية تطورية، فإنه يمكن فهمه أيضًا بمفاهيم جدلية. وبالتالي يمكن تعيين نظرية هيجل العامة حول التطور داخل نظرية تعليم اﻵداب الحرة. يلعب الهروب من الاستيعاب وعملية التمايز المنبثقة من تلك النظرية دورًا مهمًا، حيث أنها تسمح للعقل المتطور أن يتحرر من وضعية مسبقة، ومن ثم ينمو. هذه العملية من التمايز تتطلب مواجهة مع شيء آخر غير ذات المرء. توفر الدراسة في بيئة تعليمية متنوعة ذلك، ويصبح التنوع مركزيًا بالنسبة إلى العملية التعليمية إذا فُهم من هذا الاتجاه.
نظرية هيجل في التطور
يعتبر العقل اﻹنساني، وبالتبعية المجتمعات اﻹنسانية، وحدات متطورة، فهي تتغير عبر الزمن، وتتحول باستمرار من حالة إلى أخرى. ونحن باستمرار نعيد التفكير في علاقتنا بالعالم وباﻵخرين، ولدينا مفاهيم مختلفة عن أنفسنا خلال مراحل مختلفة من حياتنا. فقد رأى الرومان أنفسهم وموقعهم في العالم بشكل مختلف عما يرى اﻹيطاليون المعاصرون أنفسهم، ويفهم الناس أنفسهم بصورة مختلفة في سن الخمسين عما كانوا يفهمون أنفسهم في سن الثانية عشر. وهذا لا يعني أنهم أصبحوا أشخاصًا مختلفين بالمعنى الدقيق، لكنهم اختبروا شيئًا من التحور في السنوات التي تخللت العمرين. وفوق ذلك، يتخذ هذا التطور في بعض اﻷحيان شكل النمو، ولا يصبح تطور الوحدة مجرد تغير، بل تحسن وتقدم في مستوى التعقد، محققة أكثر من إمكانياتها ومتأقلمة أكثر مع العالم.
تعتبر تلك العملية من التطور حقلاً مثيرًا ومهمًا للبحث العلمي. فقد طمح علماء النفس والاجتماع والفلاسفة -من بين آخرين- في فهم كيفية حدوثه وماهية دوافعه وكيفية التدخل فيه أو تشجيعه. ربما كان هيجل هو أكثر الباحثين في التطور تأثيرًا، بصفته واضعًا لنظرية عالمية في التطور. وتختص أغلب أعماله الفلسفية بشرح الفرضية القائلة بأن الفرد يمكن أن يدرك مراحل مختلفة في أي عملية تطور وأن التطور يتبع ترتيبًا مكونًا من ثلاثة حركات[2]. وهذا الترتيب هو جدلي بطبيعته، مما يعني أن التطور لا يحدث بصفته عملية مرحلية خطية، لكنها عملية مواجهة حيث تقابل اﻷطروحة الاستهلالية نقيضها وينتج عنهما مركبًا.
تتميز الحركة اﻷولى من هذه العملية الجدلية بالوحدة اللامتمايزة[3]. تفهم الوحدة المتطورة نفسها في تلك المرحلة باعتبارها مستوعبة في وحدة أكبر، وهكذا، ترى نفسها جزءًا غير منفصل من الكيان اﻷكبر دون أن يكون لها مصالح خاصة ولا تستطيع أن تدرك نفسها باعتبارها ذات وجود مستقل أو منفصل. يشعر المرء أنه متصل إلى ذلك الحد الذي ليس لديه فيه فهم أو هوية خاصة مميزة. في التطبيق الماركسي لنظرية هيجل التطورية على التاريخ اﻹنساني، تمثل المشاعية البدائية لمجتمعات الجمع والالتقاط والصيد تلك المرحلة. حيث يرى عضو/ة المجتمع نفسه/نفسها جزءًا من قبيلة، ولا يمكن أن تتخيل وجودها مستقلًا عنها. ليس له أو لها هوية إلى جانب عضويتهما بالقبيلة، وحيث إن ليس ﻷي عضو فيها هوية، يعتبر كل منهما اﻵخر مساويًا له. يمكن رؤية شيء مماثل في نظرية هيجل الجدلية حول كيفية تطور المعرفة اﻹنسانية في العالم، حيث تسمى الخطوة اﻷولى اﻹدراك الحسي[4]. في هذه المرحلة، تكون رؤية المرء للعالم شمولية لكن غير انطباعية. يرى المرء الصورة الكبرى فحسب، لكنه لا يميز ما يراه وﻻ يصنفه. يشمل ذلك عدم التمييز بين وحدة الرؤية (أي ذات المرء) وما يراه. يرى المرء يده وكذلك يرى كوبًا على المنضدة، لكنه ﻻ يرى أن اﻷولى جزءًا منه واﻵخر ليس كذلك. بهذا المعنى، يكون المرء مستوعبًا فيما يشعر به.
المرحلة الثانية هي التفكك المتمايز. تنكسر في هذه المراحل الوحدة اﻷصلية ﻷجل التمايز وتتحرر الوحدة المتطورة من استيعابها اﻷولي وتؤكد استقلالها وتفرد هويتها، مما يسمح بالتمايز. يدرك المرء نفسه باعتباره منفصلًا ومن خلال ذلك يكتشف المختلف عن الخلفية. في التصور الماركسي للتاريخ الذي ينبني على تلك المرحلة من التطور الهيجلي يصبح ذلك هو المجتمع الطبقي. يصر اﻷفراد على أدوارهم المختلفة وهوياتهم على حساب مجتمع المتساوين. هذا يسمح بتقسيم العمل وحياة أكثر استقلالًا، حيث لم يعد المرء مستوعبًا داخل القبيلة. على كل حال، يأتي ذلك على حساب الوحدة اﻷولية للمجتمع، فهناك اﻵن طبقات واضحة بين الناس، سواء كانوا رأسماليين وبروليتاريين، أو أمراء إقطاعيين وأقنان، بمصالح وأوضاع مختلفة في المجتمع. وتتميز المرحلة الثانية في جدلية المعرفة بالفهم، حيث يبدأ المرء في تلك المرحلة في اختبار أجزاء مختلفة من العالم بمفرده. ويركز رؤيته على أجزاء من العالم ويفهمها باعتبارها منفصلة. كما يأتي ذلك على حساب الوحدة اﻷولية، بحيث لم يعد يرى الصورة الكبرى.
الوحدة المتمايزة هي المرحلة الثالثة من عملية التطور الجدلي، حيث تستعاد الوحدة اﻷصلية، لكن التمايز الذي تم التوصل إليه ما زال قائمًا. هذا يعني أن الكيان المتطور يحل الصراع مع الكيان المستوعب، لكنه لن يستعاد امتصاصه بداخله كليًا. ينتمي المرء إلى المجموع، لكنه يحوز هوية واضحة فيها في الوقت نفسه. في نموذج التاريخ الماركسي، تماثل هذه المرحلة الشيوعية حيث تختفي الطبقات الاجتماعية وتستعاد المساواة، كما يرى اﻷفراد أنفسهم بصفتهم جزءًا من المجتمع حيث يعتمد جميع الناس على بعضهم بعضًا، وتبقى مع ذلك المعرفة والقدرة اﻹنتاجية التي نشأت في المرحلة الثانية كي تسمح للوصول إلى مرحلة أعلى من الوجود المادي. وبالمثل، تبقى قيم الفردية والاستقلالية والتي لم تكن ممكنة في ظل المشاعية البدائية. تسمى تلك المرحلة الثالثة في جدل هيجل حول المعرفة بالعقلانية. في تلك المرحلة، ﻻ يرى المرء الصورة الكبرى مرة أخرى فحسب، بل يستطيع رؤية التفاصيل والفروق التي يخلفها الفكر أيضًا. وتصبح الوحدات العميقة التي تشكل أساس الفروق الظاهرة مرئية بدون أن تختفي تلك الفروق عن النظر.
التعليم باعتباره تطورًا
وأيا كانت المميزات التجريبية لذلك النموذج من التطور، فليس هناك من ينكر أنه طريقة مهمة ومعترف بها تاريخيًا للتفكير في حدوث التطور. وهذا يجعلها أداة مساعدة في تنظيم تفكير المرء حول عمليات عديدة. ويبدو أن التعليم يمكن أن يكون نموذجًا رئيسيًا، ﻷن التعليم هو عملية التطور الجوهرية، فهدفه هو تطوير عقول الشباب، فليس هناك حاجة إلى التعليم إذا ولد اﻷطفال بعقول مكتملة التطور أو إذا كانت تتطور بصورة مستقلة. إذن، يجب أن تطبق نظرية هيجل في التطور على التعليم، وخصوصًا التعليم العالي، وتعليم اﻵداب الحرة بالتحديد. حيث أن ذلك النوع من التعليم يهتم تحديدًا بتطوير عقول الشباب. أغلب التعليم يهتم بتدريب اﻷفراد على إتقان مهارات محددة أو يعدهم لوظائف معينة. هذا بلا شك هدف مهم، لكنه منفصل عن غاية تطوير عقول الطلاب بشكل شامل. ومن ثم يمكن لتعليم اﻵداب الحرة أن يصبح منفتحًا مسترشدًا بتطبيق النموذج الهيجلي في التطور.
ليس الغرض من هذا القول إن التطور يحدث فعلًا طبقًا لتلك الطريقة، لكن مجرد التفكير فيها بتلك الطريقة مجد. يمكن بصعوبة أن يثبت المرء أن التطور يتبع عادةً أو حتى من وقت ﻵخر ذلك النموذج، وذلك ﻷن مفهوم هيجل عن التطور يحمل بعض تعميمات كبرى وواسعة حول علم النفس والحياة اﻹنسانية الاجتماعية بوضوح. ومع ذلك، من المجدي تنحية عدم إيمان المرء منا جانبًا كي يرى كيف تمضي القصة وإلى أين يمكن أن تقودنا. فقد يمكنها كشف شيء ذي قيمة يخص دور التنوع الذي يستطيع لعبه في نوعية تعليم اﻵداب الحرة التي تبزغ في أبراج الحمام الناشئة.
جدلية اﻵداب الحرة
في المفهوم الهيجلي عن التطور، تصقل أيًا من عملياته الكيان المتطور، ويتضح ذلك في عقول الطلاب في حالة تعليم اﻵداب الحرة. علاوة على ذلك، هناك كيانات أخرى يستوعب فيها العقل المتطور، والتي يمايز نفسه عنها ويعيد الاتحاد معها بينما تحافظ على تفرده. وفي حالة تعليم اﻵداب الحرة، قد يفكر المرء أن الطلاب يتطورون حقيقةً في عدة أبعاد، وهكذا يعيدون التفاوض في علاقاتهم بكيانات مختلفة. وأهم علاقة بينهم هي علاقتهم بالعالم من حولهم، لكن التطور الجدلي يحدث أيضًا واضعًا في اعتباره عددًا من النظائر المحددة، تتضمن مجتمعهم وبيئتهم وأصدقائهم. إذن، هناك عدد من القصص الجدلية التي يمكن حكيها، والتي تتضمن فكرة برج الحمام إحداها.
يقع برج الحمام بين السوق والبرج العاجي، فعندما يسير المرء في مدينة مثل القاهرة على قدميه، يصبح من غير المرجح أن يجد نفسه فيه. ﻷن السوق مكان مليء بالحياة والنشاط، وفيه تنوع كبير من البشر والمناظر واﻷصوات التي تحفز الحواس. يصبح المرء واعيًا بكل تلك التأثيرات، لكن على مستوى الوعي الحسي فحسب. فهو يخطف اﻷنفاس، ويمكن للمرء أن يفقد نفسه فيه بسهولة. ولا يمكن له أن يخطط طريقه فيه، لكن من اﻷفضل له أن يمشي مع تيار الناس. باختصار، السوق يستوعب من فيه، وبالتأكيد يجعل المرء يتحد معه بدون أن يتمايز عنه. وقد يتجه المرء إلى البرج العاجي كردة فعل على نشاطه المحموم في السوق، ﻷن البرج العاجي هادئ ويوفر الفرصة له كي يتأمل موقفه ومعتقداته، ويسمح له بأن يطور رؤية فردية. بالتأكيد، يأتي ذلك على حساب درجة العزلة والوحدة. يكسر الاستيعاب كي يسمح بالتمايز، لكن على حساب الاتحاد. أما في برج الحمام، فيمكن للمرء أن ينخرط مع نطاق متنوع من اﻵخرين الذين يطيرون داخلين وخارجين، لكن يستطيع المرء أن يحظى بشيء من الغاية والفعل الفرديين، فانخراط المرء مع اﻵخرين ﻻ يأتي على حساب ذاته، ومن ثم يصل المرء إلى حالة الوحدة المتمايزة.
تطوير نموذج ذهني
ربما يعد أهم جانب من جوانب تطور الطلاب هو طريقة عمل نموذجهم الذهني في العالم[5]. يمتلك البشر جميعهم نموذجًا ذهنيًا داخل رؤوسهم ﻷنها تمثل وعيًا بالخصائص البارزة في العالم حولهم وكيف يرتبطون بها، وما سيحدث إذا تفاعل أحد معها بطرق معينة. يحكم هذا النموذج أفعال المرء وطريقة تأويله لما يراه يحدث في العالم مع الاستعانة بوعيه الحسي.
وبينما يكبر الطلاب، يتعلمون نموذجًا ذهنيًا محددًا. ويلعب آباؤهم دورًا كبيرًا في ذلك، وكذلك معلموهم ومدارسهم. ينتقل هذا النموذج الذهني بناءً على السلطة، حيث يقدم للطلاب تفسيرًا للطريقة التي يعمل بها العالم، لكن ذلك التفسير يقدم بصفته نموذجًا ثابتًا للطريقة التي يعمل بها اﻷمور حقًا. وفي هذا السياق، يتلخص التعليم باﻷساس في أن يصبح تبنيًا للمواد التي يقدمها المعلمون وإعادة إنتاجها. يتعلم الطلاب كيف يطبقون هذا النموذج ويستخدمونه كي يحلوا اﻷسئلة، ويصبح طريقتهم في النظر إلى العالم. ولذلك يمكن وصف علاقتهم مع النموذج بصفته وحدة لامتمايزة، فهم متحدون معه ﻷنه يشكل طريقتهم في رؤية العالم. حقًا، إنهم مستوعبون فيه، وﻻ يستطيعون تصور العالم بأي طريقة أخرى. وأكثر من ذلك، إنه ﻻ يخصهم. ﻷنهم لم يبتكروه متفاعلين، بل تبنوه فحسب. وبما أنهم ليسوا فاعلين ناشطين في بناء نموذج للعالم، فقد أصبحوا بطريقة ما سجناء فيه بدون أن يعلموا أنهم كذلك، فلا يمكن تمييزهم عنه.
ونحن في غنى عن القول، إنه في مرحلة ما، يدرك المرء أن نموذج العالم الذي ورثه ما هو إلا مجرد للعالم بالتحديد وليس العالم نفسه، ويبدأ في رؤية حدود ذلك النموذج وأن هناك العديد من الطرق اﻷخرى لفهم العالم، كما يستكشف كل تلك النماذج المختلفة للعالم، لكن بطريقة مترددة. ويدرك أن كل تلك وجهات النظر هي وجهات نظر قد يتبناها بناءً على رغبته في ذلك الوقت. يعتبر المرء الحقيقة بصفتها رأيًا، ويفكر أنه يستطيع أن يحمل أي رأي يقنعه. هذا النموذج من العالم يتقاطع مع مرحلة التفكك المتمايز، ويعتبر تفككًا ﻷن المرء ﻻ يربط نفسه بأي نموذج محدد للعالم، كما يعتبر تمايزًا ﻷنه يفهم أن هناك العديد من وجهات النظر هناك وليس هناك نموذج صحيح موضوعيًا، وهكذا تصبح أصالة فهم المرء للعالم وفاعليته ممكنة، لكن على حساب عدم امتلاك نظام مفاهيمي محدد يمكّنه من تفسير العالم.
بالطبع، تصبح تلك الرؤية أيضًا غير مرضية ويتعلم المرء سريعًا أن النسبية الجذرية ﻻ تكاد أن تكون موقفًا مجديًا، ويدرك أنه ﻻ يستطيع أن يقدم رأيًا ببساطة، بل عليه أن يدعم وجهة نظره، ويسعى إلى تطوير نظرة متسقة للعالم بصورة أو أقل تزيل التناقضات وتتجنب تلك العواقب البشعة، كما يختبر باستمرار ويكيف نظرته إلى العالم على المعلومات والاكتشافات الجديدة، فلا يغير رأيه بناء على مزاجه أو مصلحة قصيرة المدى، بل حريًا به أن يسعى إلى تحسين طريقة تفكيره في العالم وفهمها. وبينما تتميز المرحلة اﻷولى بنموذج للعالم مبن على الثقة، تتميز الثانية بنموذج للعالم مبن على الرأي، ويصبح ذلك النموذج اﻷخير مسألة التزام. فالفرد يؤسسها من خلال التفاعل مع الدلائل والحجج وليس بناء على نزوة شخصية، فتتميز الحالة الناتجة بأنها وحدة متمايزة. وتعتبر متمايزة ﻷن ذلك النموذج من العالم يخص المرء ويختلف عما يخص اﻵخرون، وتتميز كذلك بالوحدة، ﻷن المرء يملك نظرة محددة وثابتة للعالم. ويحمل المرء تفسيرًا للعالم يسمح له بالتفاعل مع العالم وفهمه، مثلما حدث في المرحلة اﻷولى، وفي الوقت نفسه، يخص هذا النموذج للعالم المرء وحده، ويسمح له بالتعبير عن هويته الخاصة، فلا يصبح المرء مستوعبًا فيه، بل باﻷحرى فاعلًا ناشطًا في بناءه.
يمكن التعبير عن الفكرة ذاتها بطريقة ما أخرى، مع اعتبار طريقة تقدير المرء للمشكلات التي يجب عليه التعامل معها في مرحلة معينة من تطوره. في البداية، المشكلة هي مشكلة تحدث في موقف معين، ويتعامل معها المرء بطريقة موحدة حيث ﻻ يقسمها إلى مكونات متباينة، وتخاطب الحلول المشكلة ككل، وليس مجرد جزءٍ منها. في مرحلة مبكرة، ﻻ يسأل المرء إذا كانت المشكلة قانونية أو اجتماعية نفسية أو بيولوجية، بل يسعى المرء ببساطة أن يحلها بأي الطرق المتاحة. وهكذا، يخاطب المرء المشكلة بصفتها وحدة ﻻ متمايزة، لكنه يتعلم عن التخصصات اﻷكاديمية المختلفة خلال دراسته ويصنف المشكلات المختلفة باعتبارها تنتمي إلى تخصصات منفصلة وأي حلول يجب أن تستخرج من تلك التخصصات. هذا يسمح بفهم أعمق لجوانب تلك المشكلات، حتى لو أتت على حساب تجاهل جوانب معينة منها، ﻷن كل تخصص يؤكد على خصائص معينة من العالم على حساب خصائص أخرى، وهكذا يعطي النظر إلى المشكلات من وجهة نظر تخصص واحد معين رؤية معينة، وهكذا تعلم دراسة المشكلات من وجهة نظر متخصصة الاقتراب منها بروح التفكك المتمايز. وحالما يتقدم تعلم المرء ويدرس تخصصات أكثر، يتعلم المرء الجمع بين تخصصات مختلفة في تحليل المشكلات التي تقابله وحلها. وهذا يسمح بمعالجة أكثر شمولًا لها، كما اعتاد المرء في البداية، لكن مع ميزة التمييز المتخصص التي افتقر إليها في المرحلة اﻷولى.
وهناك جانب ذهني آخر يتطور أثناء التعليم وهو العلاقة بين الطالب ومجتمعه. في البداية، يعرّف الطلاب أنفسهم بصفتهم جزءًا من المجتمع الذي نشأوا فيه، ويشبهون عائلاتهم والناس في مجتمعهم، ويعتبرون مصالحهم الخاصة مرتبطة حتمًا بمصالح أولئك الناس. وبما أنهم ولدوا في تلك المجتمعات، فهم يعتبرون هذا النظام طبيعيًا وغير قابل للتغير، وﻻ يستطيعون تخيل أنفسهم منقطعين عن هذا المجتمع أو يعملون ضد مصالح مجتمعهم اﻷصلي. إنهم بذلك المعنى مستوعبون في مجتمعهم، بحيث يصبحون متحدين معه وغير متمايزين عنه. إﻻ أنه، ربما في مرحلة ما يدركون أنهم غير معرفين تمامًا من أين أتوا عندما يغادرون مجتمعاتهم وينتقلون إلى المدينة لدراسة اﻵداب الحرة. ويعيشون معتمدين على أنفسهم، بعيدًا عن بيوتهم واﻷدوار التي يتوقع منهم لعبها في المجتمع، ويصبح عليهم أن يبتكروا أدوارًا جديدة ﻷنفسهم. وتلك عملية صعبة ومخيفة عادةً، ﻷنه في البداية، قد تكون المدينة مكانًا منعزلًا، وﻻ يعرف المرء أحدًا، وعلى المرء أن يسأل نفسه كيف يحب أن يبني حياته الجديدة، إذن ينخرط المرء في عملية تفرد، لكن على حساب المجتمع الذي تمتع به المرء سابقًا. باختصار، يصبح المرء في مرحلة التفكك المتمايز. وحالما ينخرط المرء في عملية التفرد تلك، يصبح المرء تدريجيًا جزءًا من مجتمع جديد، وتصبح المدينة مألوفة، ويجد المرء أصدقاء جدد، وتخلق أدوار مسندة إليه. لكن هذا المجتمع ليس موروثًا أو تم تلقيه، بل أسسه الطلاب أنفسهم بحيوية بناءً على قيمهم وتفضيلاتهم. وهكذا، ﻻ يأتي ذلك على حساب هوية الفرد، بل على أساس التعايش المشترك معه. يصبح المرء شخصًا مميزًا وذاتي التوجه في وسط مجتمع من الباحثين. وذلك يعادل مرحلة الوحدة المتمايزة، ﻷن مجتمعًا كهذا يعد منزلاً مميزًا، فهو ﻻ يشبه الجيش، حيث يضحى بالفردية كلها من أجل الغاية العامة، وأيضًا ليس مطارًا، حيث يقطع اﻷفراد دروبهم مثل سفن عابرة في الليل. يسعى الباحثون نحو دروب مختلفة في مثل ذلك المجتمع، لكن يفعلون ذلك في تبادل مستمر لوجهات النظر وبحس من الهوية والغاية العامة.
أهمية التنوع والتمايز
آمن هيجل أن الضرورة الداخلية هي دافع التطور، وأنه مقدر للعقول أن تطور نفسها بتلك الطريقة، وستظل كذلك، بطريقة أو بأخرى. هذا يبدو متفائلًا بصورة ما. يمكن أن يعني هذا بطريقة ما أن التعليم ليس ضروريًا على اﻹطلاق، حيث أن العقول ستتطور بمحض إرادتها. رغم أن المرء قد يفكر أن العقول ذات حاجة داخلية تواقة بحق إلى أن تطور نفسها، يبدو واضحًا أن التعليم له دور بالفعل في تشجيع التطور وتسييره. إذن، فإنه من المهم أن نفكر كيف يمكن أن تفعل ذلك وكيف يستطيع مجتمع متنوع أن يساهم في مرور العقول بهذا التسلسل الجدلي. ﻻ حاجة للقول إن برامج العلوم واﻵداب الحرة تفعل ذلك بطرق شتى، فمناهجها متعددة التخصصات مصممة كي تكشف أمام الطلاب العديد من الرؤى التخصصية وهي تتسم بتفضيلها لأساليب تعليم مبنية على المناقشة التي تسمح للطلاب بمناقشة الموضوعات التي يدرسونها من وجهة نظرهم عن المحاضرات الكبيرة، كما تقيم الطلاب من خلال كتابة اﻷوراق اﻷكاديمية وتقديم العروض، بدلًا من خلال امتحانات الخيارات المتعددة المرتكزة على إعادة اﻹنتاج. ومع ذلك، يعتبر وجود بنية متنوعة من الطلاب شيئًا مهمًا من أجل دعم تطور الطلاب في العملية الجدلية.
علينا أن نتذكر أنه من أجل أن نعبر التسلسل الجدلي فإن هناك عمليتين يجب أن تحدثا. اﻷولى هي أنه يجب على الاستيعاب اﻷولي أن ينكسر وأن على الكيان المتطور أن يجاهد خارجًا من الخلفية التي بدأ منها من أجل أن يميز نفسه عن تلك الخلفية. والثانية هي أنه يجب أن يستعاد التوحد مع تلك الخلفية، والتصالح حيث تستعاد الوحدة اﻷصلية التي تبقي على التمايز[6]. العملية اﻷولى من التمايز هي بالتحديد مهمة في هذا السياق، حيث أنها تتطلب مواجهة مع اﻵخر.
وليست حالة الاستيعاب إﻻ حالة هانئة بطرق عديدة، فهي مريحة، وآمنة، ومطمئنة. ومن المؤلم ترك الوعي المتداول للعالم والمجتمع الموروث الذي يتيح عيشة مرضية، ذلك ﻷنهما يعرفان وجود المرء ويؤسسان عالمه إلى ذلك الحد. إذن، قد يكون هناك شيء ما غير معقول بصورة مدهشة في أن يقطع المرء علاقته معهم، فبينما يبدو هذا ضروريًا من وجهة النظر التطورية التي ترى أن استعادة الوحدة كامنة في المستقبل، لا يظهر له ذلك في اللحظة اﻵنية.
إذن، يجب أن تصبح حالة الاستيعاب اﻷصلية مقيدة وغير ملائمة ومجتزأة، وتدرك على أنها كذلك، ويجب أن تصبح غير مريحة وسخيفة. على العقل المتطور أن يشعر أنه مقيدٍ بها، ﻷنها لن تستطيع فعل ما يتوجب عليها فعله وما يتوجب عليها كونه بدون تركها. يجب أن يصبح واضحًا أن النموذج المتلقى عن العالم غير قادر على إيضاح كل شيء يعرفه المرء عنه، ويجب أن يصبح مجتمع المرء وقريته التي نشأ فيها مسرحًا صغيرًا بالنسبة إلى الأدوار التي يريد لعبها. يجب أن يرى الطلاب أن وعيهم بالمشكلات التي يواجهونها غير كاف كي يفهمونها بصورة كاملة ويحلونها. أن تبين للطالب أن حالة الوحدة اللامتمايزة على كل مستوياتها غير مرضية كي تيسر تطورًا أبعد هو أحد أهم مهمات التعليم العالي. جزء من ذلك هي قضية إبانة تلك القيود، لكنه أيضًا من المهم اﻹلهام واﻹغواء، أي توضيح أن هناك بدائل للعيش ولفهم العالم كما أن هناك مجتمعات مختلفة وأدوار يمكن استكشافها من خلال اللعب فيها. يستطيع العقل المستوعب بتلك الطريقة أن يتشجع للتحرر ويميز نفسه. في النهاية، إذا كان المرء غير واع بالقيود الموروثة في حالته اللامتمايزة أو غير مدرك ﻷن هناك احتمالات أخرى، لن يتمايز المرء مطلقًا.
من أجل ذلك، يجب على البيئة التعليمية أن تلهم الطلاب وتقنعهم بترك راحة الاستيعاب خلفهم. وما نوع البيئة التي تستطيع فعل ذلك؟ من الواضح أنها تحتاج إلى أن تكون مختلفة عن البيئة التي نشأوا منها. لن تبين بيئة مماثلة لتلك التي نشأ الطلاب منها عدم ملائمة الحالة اﻷولية أو تقدم بدائل كي تشجع الطلاب على التمايز. قد يفكر المرء أن البيئة التعليمية المناسبة قد تكون متجانسة لكنها مختلفة عن الحالة اﻷولية، فطالما كانت البيئة منفصلة، فإن ذلك سيخلف صراعًا مع الحالة اﻷولية، وسيبين أن هناك أكثر من مجرد الوحدة اللامتمايزة. إلا أن تلك البيئة قد تستبدل وحدة لامتمايزة بأخرى على اﻷفضل أو تفكك لامتمايز، حيث أنها تكاد تشجع المرء على التفرد بنفسه بالطريقة التي تعني ابتكار هوية جديدة للذات، بل أن المرء يتبنى عادات وطرق فهم العالم من مجتمعه الجديد، تاركًا إياه في حالة محدودة مثلما دخلها، أو تنتهي وجهتي النظر بورطة، عندما يتبنى المرء جوانب معينة من ماضيه وجوانب أخرى من وضعه الجديد. كلا الحالتين لا تطوران العملية الجدلية.
إلا أن، المجتمع المتنوع بشدة، أقصد مجتمعًا تتمثل فيه مختلف طرق الحياة وتتبادل فيه مختلف نماذج العالم، يستطيع فعل ذلك. أولًا، ﻷن المرء سيصبح بسرعة في مجتمعٍ كهذا واعٍ بمحدودية وجهة نظره. إذا تواصل المرء مع عقول أخرى مختلفة وسئلوا أن يفكروا معًا في مشكلات ويناقشوا حلولًا وتأويلات متنوعة، يدرك المرء بسرعة أن طريقته في النظر إلى اﻷمور ليست هي الطريقة الوحيدة المعقولة لفهم العالم وأنها تفتقد رؤية جوانب مهمة من الواقع. وما يعتبره المرء واضحًا في البداية يصبح جدليًا، والحلول التي بدت لوهلة مناسبة تنكشف لتصبح خلافية. وبالمثل، يتعلم المرء أن اﻵخرين ﻻ يستجيبون إلى أفكار المرء وسلوكه مثلما يفعل الناس في مجتمع المرء اﻷصلي. قد تصبح اﻷفعال واﻷلفاظ التي كانت تجد الموافقة والمديح اﻵن محيرة أو مستنكرة. لا يمكن للمرء أن يتوقع ردود أفعال اﻵخرين، وﻻ أن يعتبر العلاقات أمرًا مسلمًا به، ويصبح المرء كالغريب. كل ذلك يبين عدم ملائمة المرء مع الوضع الحالي.
في الوقت نفسه، يجعل التنوع المرء واعيًا بكل طرق الوجود وفهم العالم المتعددة التي تصبح متاحة على تشكلها من زملائه، كما يقدم تنوع المجتمع أمثلة عديدة على الطرق المختلفة للوجود والتفاعل، والتي يمكن أن تستعمل لبناء أشكال جديدة من الاجتماع وطرق لفهم العالم، وتصبح كلها معروضة كي تستنسخ أو تكيف أو توحد أو حتى يتم تجاهلها. وبطريقة ما، يقدم التنوع خيارات متسعة وإحساسًا بالمحتمل الذي يمكن أن يستخدمه المرء كي يتغلب على ضيق طريقة وجوده السالفة. وكل ذلك يجعل المرء واعيًا بالعديد من الاحتمالات المجهولة للوجود، وهكذا يجب عليه اختيار الاحتمالات التي سيكتشفها ويسعى إلى إعادة تشكيل وجوده ورؤيته. تجبر التعددية المرء على أن يتخذ موقفًا، لكن بينما يفعل ذلك، يفصل المرء نفسه عن اﻵخرين وبذلك ينخرط في عملية التفرد. وبمجرد أن يتعرض المرء إلى ذلك التنوع، لا يصبح المرء نفسه مطلقًا، ويصبح عليه أن يخلق هوية جديدة تنبثق من الاعتراف بضيق ما كان عليه من حال والتحمس لمختلف اﻷشياء التي قد يتحول إليها.
وبعدما أكملت حجتي، يمكن للمرء أن يرى اﻵن القيمة الحقيقة من الدراسة في مجتمع متنوع، حيث أنها تكشف حدود الوحدة اللامتمايزة، وتقدم دفعة وإلهامًا للتمايز الضروري للتطور. فبدونها، يصبح التطور معرقلًا، ولا تستطيع اﻵداب الحرة أن تبلغ غايتها. ﻻ يمكن للتعليم في خلية نحل أو مستعمرة نمل، اللذان يفتقدان هذا النوع من التنوع، التحريض على التمايز المطلوب لنمو مواطن ناضج مكتمل وذي جدارة، إنسان منتمٍ إلى مجتمع لكن يظل فردًا مستقلًا. في الحقيقة، لا يستطيع أن يجد المرء نفسه في أي مكان عدا أبراج الحمام بريشها المتنوع وطيورها القادمة من جميع أنحاء المدينة.
النيرف: حيوان خيالي يشبه القطاس ينتمي إلى عوالم سلسلة أفلام حرب النجوم (ملاحظة المترجم) [1]
[2] ن أجل عرض فلسفي مفصل حول هذه المسائل يرجى النظر في Taylor, C. Hegel. Cambridge: Cambridge University Press, 1975.
[3] من أجل استعراض المراحل الثلاثة للتطور الجدلي، يرجى النظر في Cohen, G. A. History, labour, and freedom. Oxford: Clarendon Press, 1988, Chapter 10.
[4] تلك المناقشة حول تطور المعرفة قدمت بصورة متقنة في Cohen, Gerald Allan. Karl Marx's theory of history: a defence. Oxford: Clarendon Press, 2000, p. 7.
[5] أفسر هنا وصف تطور طلاب الجامعة كما قدمه ويليام بيري، انظر Perry, W. G. Forms of intellectual and ethical development in the college years. New York: Holt, Rinehart and Winston, 1970.
[6] ستناقش هذه العملية اﻷخيرة في مناسبة أخرى قادمة.