الحب في مواجهة قانون المدينة
مقال لمينا ناجي
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
تأسَّست فكرة القانون تاريخيًّا على التسامي على الأهواء والرغبات، وتضمَّن مبدأ الحُكم السيطرةَ وكبت الرغبة من أجل صالحٍ عام مؤسَّس على العقلانيَّة. ونجد في نصوص تاريخيّة مختلفة صراع تلك الثنائيّة في صيغة صِدَام الرغبة، المُشكَّلة في صورة الحُب، بصور وسياقات مُختلفة، مع القانون، أو صِدَام الحب مع ما أسميه «قانون المدينة»، الذي يمثِّل العادات والأعراف المستقرّة للتعاملات الاجتماعيّة والسياسيّة في الحيز المديني.
أتناول هنا ثلاثة أمثلة - شخصيات أخذت على عاتقها هذا الصدام: «شولميت» من سِفْر نَشيد الأنشَاد، و«أنتيجون» من مسرحية سوفوكليس بنفس الاسم، و«يسوع» كما ذُكر في الأناجيل، وأتقصَّى من خلال النصوص تشابهات تلك الشخصيات واختلافاتها في تعاملها مع الحب باعتباره مُنطلقًا قيميًّا تتحرك من خلاله لتحدي الأمر الواقع وتغييره.
شولميت
ربما يكون نشيد الأنشاد هو الكتاب الوحيد في الديانات الثلاث الإبراهيميّة الذي يحتفي من أوله لآخره بالحب الإيروسي (الحب العاطفي/الجنسي) بلا أي إشارة إلى مواضيع دينيّة معتادة (الإله، أو قوانينه، أو حِكَم تنظيم الحياة)، بل النص المقدس الوحيد، بحسب علمي، الذي يبدأ بإعلان الرغبة في تبادل القُبَل «ليقبلني بقبلات فمه، لأن حبك أطيب من الخمر». ما جعله مصدر ارتباك، وخجل، ومُعايرة (يمكن في مناسبة أخرى مستقلة أن نتقصى تعاملات أتباع الأديان الثلاثة معه).
يبدأ السِفر، الموجود في التاناخ [العهد القديم]، هذه البداية الصادمة والقوية، محتفيًا في غنائية شعرية بحُب ورغبة شابة في سن الزواج تُدعى شولميت، لحبيبها الذي يُلقَّب بالعريس، ويتماهى مع شخصيّة الملك سليمان الذي يُنسب له السِفر (كُتِب السفر في الأغلب خلال القرن الثالث قبل الميلاد، أي بعد مئات السنين من الظهور التاريخي للملك سُليمان[1]). يتبادل الحبيبان، عبر النَص، إنشاد قصائد حُب واشتياق وغزل، بمصاحبة كورَس متعاطف من الأصحاب، يؤكد كلامهما ويرد عليه، أو يدعمه. ويبدو من الانقطاعات والانتقالات الحادة في بِنْيته أن تلك القصائد في الأغلب قد طُوِّرتْ وجُمعَت عبر مراحلٍ زمنية مختلفة، لتنتج في النهاية نصًا بديعًا شديد العذوبة والحرارة، وأيضًا الغرابة.
يُفتتح الإصحاح الثالث من السِفر بمشهدٍ ليلي تُبث فيه مشاعر حب واشتياق عنيفة: «في الليل على فراشي طلبتُ من تحبه نفسي». فتقرر العاشقة شولميت، مدفوعة برغبتها، أن تجوب المدينة بحثًا عن موضوع رغبتها: «إني أقوم وأطوف في المدينة، في الأسواق، وفي الشوارع، أطلب من تحبه نفسي». تجابهها المدينة وقانونها ممثلان في الحرَّاس الطائفين، فتسألهم ببراءةٍ عن مكان حبيبها. يبدو الإصحاح كما لو كان يسرد حُلمًا، حيث تتحقق الرغبات ببساطة دون مقاومة تُذكر. تناشد شولميت الحراس كي يساعدوها، لتصل بالفعل إلى حبيبها وتأتي بفعل مُدهش خارج تمامًا عن طبائع الأمور: «فأمسكته ولم أرخه، حتى أدخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بي». أتت فتاة عزباء برجل غريب حتى بيت أهلها وأدخلته مخدعها لتبادله الحب، لتطالب بعد ليلة حب هانئة من بنات المدينة «ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء».
ينتقل السِفر هنا بشكل غريب ومفاجئ إلى وصف الكورس شولميت بظاهرة طقسيّة فوق طبيعيّة، تمثل الرغبة الانفجاريّة مُجَسَّدة: «مَن هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر؟» هذه الظاهرة البيئيّة تُوضَع مباشرة في مقابل ترسانة القوة التي تحرس قانون المدينة: «هو ذا تخت سليمان حوله ستون جبارًا من جبابرة إسرائيل. كلهم قابضون سيوفًا ومتعلمون الحرب. كل رجل سيفه على فخذه من هول الليل». مما يجعل هذه الرغبة العارية في الحُلم اختلالًا مُهددًا، رغبةً كاسحة كعمود من دخان يضطرب لها نظام المدينة.
يحدث الصدام الواقعي بين هاتين القوتين الرمزيتين في مرحلة تالية من السِفر، في الإصحاح الخامس، حين يحاول الحبيب ملاقاة شولميت في مخدعها مرَّة أخرى، أو المرَّة الأولى واقعيًا، فيلقى الحُرّاس في طريقه ويهرب: «فتحتُ لحبيبي لكن حبيبي تحوّل وعَبَر. نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته، دعوته فما أجابني». تحدث هنا لحظة التصادم بين الرغبة وقانون المدينة: «وجدني الحرس الطائف في المدينة: ضربوني، جرحوني، حَفَظة الأسوار رفعوا إزاري عني [أي كشفوا عورتها]»، فتسقط مريضة ومنهزمة لتطالب بنات المدينة هذه المرّة بـ«إن وجدتن حبيبي أن تخبرنه بأني مريضة حبًا».
تنكسر الرغبة وتتحول إلى مرض بسبب ردع القانون المديني الذي لا يسمح لهذه الرغبة العنيفة الهوجاء بأن تُشبَع. فتلك الرغبة تمثل خللًا في منظومة حركة وتبادل العلاقات الاجتماعية القائمة على أعراف مثبتة تسير عليها المدينة، لكن ما تم إعلانه بشجاعة هو هذا: المحبة قوية كالموت!
أنتيجون
كتب سوفوكليس مسرحية أنتيجون في القرن الخامس قبل الميلاد كتتمة لثلاثيّة مسرحيات طيبة اليونانيَّة (زمنيًا هي المسرحيَّة الثانية). تتمحور المسرحية حول رغبة أنتيجون في دفن أخيها إيتوكليس -الذي هاجم المدينة وقُتِل في المعركة على يد أخيهما الثالث- رغم قرار عمها الملك بتحريم دفنه، لتأكل جثته الطير والحيوانات الضارية.
تقول «إسمين»، أخت أنتيجون، لها في بداية المسرحية: «ماذا؟ أتفكرين في دفنه وذلك حُرّم على المدينة؟» (2) ومع إصرار أنتيجون تفزع إسمين وتحذرها: «أي ميتة أبشع سنلقاها لو أننا عصينا القانون وهزئنا بأمر الحكام وسلطانهم». تتحرك أنتيجون من منطلق الحب وليس الواجب، لذا ترد على اعتراضات أختها: «لن أصرّ، وحتى لو أردتِ فعل ذلك الآن، لن يجعلني الأمر مسرورة»، فهذا الفعل هو فعل حب، ولو جاء بعد تفكر وتردد لا يكون له معنى، ثم تضيف في ردها بشكل مباشر: «بروابط المحبة معه، سأرقد معه الذي رُبط بالحب معي. سأرتكب جريمة مقدسة».
فعل الحب في هذا الإطار -وهو هنا دفن وتكريم جسد المحبوب- جريمة انتهاك مقدسة، والانتهاك موجَّه تحديدًا لقانون المدينة ممثلًا في مرسوم الملك، وهو ما يُعد بمنطق المدينة أمرًا مستحيلًا، خارج كل موافقة أو تفاوض (في الحقيقة وبالنسبة للمنطق الأسري أيضًا). تقول إسمين لأنتيجون: «لكنك واقعة في حب ما هو مستحيل»، [التشديد هنا وفي الاقتباسات التالية من عندي]. تشير هنا إسمين أن الأمر، كما يظهر، هو «وقوع في حب» وليس أداءً لواجب كما تفصح أنتيجون. على مدار المسرحية تتقنع رغبة أنتيجون في شكل الواجب، امتثالًا لقانون القُربى. يعرض هيجل مثلاً في قراءته للمسرحية في «فينومينولوجيا الروح»، وبشكل أكثر مباشرة في «فلسفة الحق»، صراع أنتيجون بكونه صراع بين «قانون الدم/ القرابة» مع «القانون العام/ قانون الأرض»، الذي يمثل اليونيفرساليّة [الكليّة] التي يجب الخضوع لها.
لكن في تناول علاقة أنتيجون بأخيها الميت إيتوكليس، لا يمكن تجاهل تاريخهما الأسري الذي خرجا منه، وكونهما نتاجًا لسفاح القُربى بين أوديب وأمه (هما أخ/عم وأخت/عمة في ذات الوقت)؛ في مقطع آخر بالمسرحيّة، تظهر بجلاء رغبة أنتيجون في إيتوكليس تحديدًا: «لأني ما كنت أبدًا لأحمل عبء تحدي المواطنين، لو كان أولادي أو زوجي هم الذين ماتوا، وتركوا ليتعفنوا في العراء»، معلِّلةً ذلك بأنه لا يمكن تعويضه بآخر. في موضع آخر أيضًا، يُشار إلى طبيعة الحب الذي تتحدث عنه المسرحية، فينشد الكورس للإله إيروس قائلًا: «لا يقدر الخالدون، ولا الإنسان الذي يعيش ليوم فقط، الهرب منك، والذي يحفظك داخله، يُجن. أنت الذي يشد زمام العقول العادلة ناحية الظلم، مشوِّهًا حياة الرجال، بينما تنتصر قوة الحب في النظرة، العيون الراغبة للعروس التي تبرق بفرح الزواج، هذه القوة على عرشها تحكم بالتساوي مع القوانين الكبيرة».
يربط نشيد الكورس بين الحب الإيروسي وفقدان الرجاحة والعقل للحُكم، والأهم أنه يربط، كنتيجة لذلك، بينه وبين الظُلم. فالعدالة والقانون المؤسَّس على المنطق السليم والعقل في ناحية، والرغبة الإيروتيكية والجنون والظلم الناتج عن ذلك في ناحية أخرى. مما يسفر عن «تشوهٍ» في حياة الرجال، أي فساد حياة المواطنين. بعدها يساوي الكورس بين مقدرة القوتين: قوة الحب، وقوة القوانين الكبيرة أو قانون الأرض بتعبير الفيلسوف هيجل.
يقول الملك كريون، ممثلًا لمنطق قانون المدينة في المسرحيّة، لابنه: «لا تضيع، يا بني، حسك السليم، من أجل المتعة بامرأة». فهو يناديه للانضمام إلى الضفة الأولى، ضفة الحس السليم والقانون ومن ثم العدالة. ويشرح نتاج الخراب الذي يحدث بتدخل الرغبة في مجابهة القانون: «ليس هناك شرٌ أكبر من انعدام الحُكْم، هذا ما يجلب المدن إلى الخراب. هذا ما يمزع البيت من جذوره». تظهر الرغبة هنا بوصفها لحظة انحراف وقطع لمسار القانون والسير المنطقي للأشياء.
في مشابهة مثيرة مع مشهد تغيُّر الطقس العنيف في نشيد الأنشاد، يحكي الحارس للملك ما حدث معه والحراس الآخرين وهم يحرسون جثة إيتوكليس الملقاة في العراء، ممثلين قانون المدينة الذي ينفذ مرسوم الملك: «كل رجل ساعد بإبقاء آخر يقظًا ويحذره بصوت عال لو بدا أنه يتهرب من المهمة». وسرعان ما يُفاجأوا برفع الريح «عمودًا من الغبار من الأرض، عاصفة من الاضطراب عالية كالسماء»، والتي مزقت أوراق الشجر وملأت السماء، فأغلقوا أعينهم وتحملوا هذا «الوباء الخارق للطبيعة». هذا المشهد الأسطوري لتغيُّر الطقس واضطرابه، أسفر، عكس حالة شولميت البهيّة والمعطرّة بالمر واللبان، عن هذه «الطفلة الناحبة» التي أخذت تصرخ كالطائر الذي يجد عشه فارغًا من صغاره. نجد في النصَّيْن إذن مُماهاةً للرغبة (في جسد العريس وجلبه للمنزل، وفي جسد الأخ الميت وجلبه تحت الأرض) مع عمودٍ من الدخان/الغبار يعصف ويثير التهديد والاضطراب في النظام [البيئي] الخاص بالمدينة.
في نهاية «نشيد الأنشاد»، تعلن شولميت عن هزيمة الرغبة، هزيمة عمود الدخان في اختراق نظام المدينة، وتلح على حبيبها بالهرب: «اُهرب يا حبيبي، وكن كالظبي أو كغفر الأيائل على جبال الأطياب». وفي نهاية مسرحية أنتيجون ينشد الكورس: «المنطق السليم هو أول مبادئ السعادة»، والمقصود بالطبع بالمنطق السليم هو اتباع «القوانين الكبيرة» المؤسَّسة على العقل، لتصل إلى العدالة في المدينة. نعرف في النهاية أن كريون لم يقتل أنتيجون، بل أنها شنقت نفسها داخل قبرها الحي؛ أهلكتها رغبتها التي لا تُجاب في فعل الحب.
يسوع
في مذكرات ألبير كامو جملة قصيرة مُبهرة: «الحبُ غير عادل، لكن العدالة لا تكفي»؛ أظن أن هذا ما كان يفكّر به يسوع منذ ألفيّ سنة.
بالرجوع إلى شخص المسيح، وإلى المسيحيَّة في بداياتها التأسيسيَّة، نجد اتجاهًا راديكاليًّا نحو تفكيك مفهوم العدالة اليهودي ومنظومته الناموسيَّة (نسبةً إلى «ناموس موسى») والطقوسيَّة والشعائريَّة، من خلال أقوال المسيح وممارساته، من وعظات ارتجاليَّة حرَّة ومخالطات مع الزُناة والعشَّارين والخطأة والمنبوذين، وفعل الخير في يوم السبت، والصلاة في أي مكان، إلخ.. ومقابلة ذلك من الكَتَبة والفريسيين والكهنة بمحاولاتهم المتكررة للتأكد، أو لإظهار أن يسوع لا يفهم الديانة اليهودية، وغير حافظ للناموس، أو أنه «مُهرطِق» ببساطة. وفي كل مرة، يظهر أن المسيح دارس جيد للكتب لكنه يقدمها بتفاسير تقدميَّة وراديكاليَّة بناءً على مفهوم المحبة، في محاولته النهائية لإحلال الحب باعتباره صفةً مركزية، بل جوهريةً، لله.
مثل شولميت وأنتيجون، يأخذ الحب يسوع إلى هلاكه خارج المدينة: «لأن المكان الذي صُلب فيه يسوع كان قريبًا من المدينة» (يو 19: 20)، ليكون الحيُّ الميت على الصليب (كأنتيجون التي قُيِّدتْ حيَّة إلى قبرها) والميت الحيّ بعدها في انتصار المحبة الأسطوري. يُلفَظ يسوع من المدينة، أورشليم، التي لعنها وتنبأ بخرابها بسبب رفضها حبه الاستثنائي الذي بشَّرَ به: «كم مرة أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا! هو ذا بيتكم يُترَك لكم خرابًا». (مت 23: 37-38). يضع يسوع الحب في مقابل قانون المدينة مباشرةً، ويعلن عن ضراوة تأثير الحب الذي جاء به: «جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟» (لو 12: 49). وهي نار «لهيبها لهيب نار لظى الرب»، كما ينص نشيد الأنشاد الذي يقول إن «مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة، والسيول لا تغمرها».
يعرف يسوع أن انفجار رغبة الحب تسبب اضطرابًا، فهي ما يجلب المدن إلى الخراب، إلى ما يمزع البيت من جذوره: «لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض. ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا». (مت 10: 34). فالمحبة قوية كالموت، عامود من الغبار والدخان يكتسح المدينة. الحب هذا، الذي يشير له يسوع، حب راديكالي يمزق الروابط المدينيَّة الأسريّة: «فإني جئتُ لأفرِّق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكُنة ضد حماتها». (مت 10: 35) هي ليست محبة هانئة تُشبِع صاحبها، بل تقوده على طريق من الآلام، وتُشوِّه حياة الرجال، هي محبة «من وجد حياته يضيعها» (مت 10: 39). الحُب عند المسيح إذن غير عادل، لكن العدالة لا تكفي.
الحب المسيحي تراجيدي مثل حب شولميت وأنتيجون، ويؤدي إلى الطرح خارج المدينة، وإلى الموت: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد». (يو 3: 16) فحد الحب المسيحي هو حد الموت. «ليس لأحد حب أعظم من هذا: أن يبذل الإنسان نفسه لأجل أحباءه»، (يو 15: 13) أو كما يقول القديس أغسطينوس في كتاب (شرح رسالة القديس يوحنا الأولى) : «ذاك هو ملء المحبة. إن عظمت المحبة في شخص إلى هذا الحد ودفعته إلى الموت عن أخوته كانت فيه كاملة». يرتبط الحب بالموت في الشخصيات الثلاث جميعًا: المحبة قوية كالموت - أي ميتة أبشع سنلقاها – حتى بذل ابنه الوحيد.
يلاحظ القديس أغسطينوس أن المسيح، بعد قيامته، لم يسأل بطرس سوى هذا السؤال: «أتحبني؟»، ولم يكتف بطرحه مرَّة واحدة، بل ردده ثلاث مرات حتى حزن بطرس. سأل يسوع بطرس عن حبه قبل أن يقول له أن يرعى خِرافه، فالعلاقة التي يؤسِّسها يسوع هنا ليست علاقة «عَهْد» كما في اليهوديّة (بدلالات العهد القانونية، بصفته عقدًا شفهيًّا ممهرًا بالختان)، بل إنه يؤسِّس زمنًا جديدًا على قيمة الحب، أو كما جاء في سِفر أشعياء «مررتُ بك فرأيتُك وإذا زمنك زمن الحب» (حز 16: 8). أراد يسوع تأسيس زمن الحب، فأتى بوصية جديدة للمدينة: «وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضًا. كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا». (يو 13: 34) وتُوضَح مركزية هذه الوصية الجديدة «الحب»، بصفتها الوصية الأولى والأعظم، وبصفتها الأصل الذي يستند إليه الناموس ويتعلق به. في إنجيل متى حين سأله ناموسيٌّ [حافظٌ ومُطبق للقانون الموسوي]، ليجربه: «أية وصية هي العظمى في الناموس؟ قال له يسوع: «تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء». (مت 22: 35-40)
صدام الحب مع القانون في حالتي شولوميت وأنتيجون، انتصر فيه القانون بصور مختلفة، ربما لكون القانون، بحسب جاك لاكان، هو الوجه الآخر للرغبة والمنتج الداعم لها. لا يمكننا تخيل حضور الرغبة بدون حيِّزٍ [كالمدينة] يُفْرَض فيه قانون يُنظِّم ما هو مسموح وما هو غير مسموح. ففيما أبقت شولميت رغبتها غير المُشبعة إلى ما لا نهاية بحضور القانون الطاغي، هلكت أنتيجون جرَّاء خرقها وجه الرغبة الآخر. فهي في انتهاكها للقانون قد ذهبت إلى خارج ما هو بشري، خارج كل بُعد رمزي، بحسب لاكان. أما يسوع، فيمكن من تلك الزاوية أن نقول إنه قد حاول مطابقة الرغبة مع القانون، وهو ما فهمه القديس بولس وأخذ على عاتقه تطبيقه، فهو قد رفض الناموس في كتاباته: «لأني مت بالناموس للناموس لأحيا لله»، (غل 2: 19) «قوة الخطية هي الناموس»، (1 كو 15: 56) ليُحِل الحب مكانه في خطوةٍ تالية الحب: «المحبة كمال الناموس»، (رو 13: 10) «لأن كل الناموس في كلمة واحدة يكمل: تحب قريبك كنفسك». (غل 5: 14)
في ظاهرة بيئية خارقة مماثلة لما حدث في نشيد الأنشاد وأنتيجون، رسم إنجيل متّى مشهدًا تصادُميًّا مكتمل الأركان: حضور حُرَّاس يمثلون قانون المدينة، يجابهون اضطرابًا كونيًّا خارقًا للطبيعة، حدث وقت موت يسوع على الصليب. فقد أظلم القمر وانشق حجاب الهيكل (في وسط المدينة) و«الأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين. وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين». (مت 27: 51-54) تزلزلت المدينة واختُرقَتْ بجحافل القديسين الذين يجسدون الرغبة-الحب، واعترف قائد المئة، ومن معه من حُرَّاس، بيسوع ابنًا لله، في تمثيل اعتراف قانون المدينة بقانون الحب. يُفسَّر هذا الحدث الخارق تقليديًّا بكونه تجسيدًا للحزن الطاغي على موت يسوع، لكنه ربما يمثل انتصار الحب على القانون باتخاذه شكل القانون، فحد الحب عند يسوع هو حد الموت. وبموت يسوع على الصليب، يكون قد اكتمل الحب وانتصر. الحب قد دخل المدينة، ومزَّعها من وسطها.
[1] بسبب امتزاج العبري بالأرامي في النَص، يرجَّح أن يكون قد كُتب بعد السبي البابلي، ويبدو بوضوح من اختيار الكلمات والصياغة والتعابير وبناء الجمل، ودخول بعض الكلمات الفارسيّة واليونانيّة، أن الكتابة تمت في زمن متأخر، يصل في بعض التقديرات إلى القرن الثاني قبل الميلاد.
(2) اقتباسات مسرحية أنتيجون من ترجمة الكاتب
5 Replies to “الحُب في مواجهة قانون المدينة”
نص ممتع وشيّق ويمهد مسالك مثيرة للبحث.. شكرا للكاتبة وللموقع
اعجبتني قراءتك لشخصية يسوع المرتبطة بالحب او المحبة .. اذ ان كل افعاله وكلماته مرتبطة بالحب او المحبة بطريقة وأخرى .. لا اعرف كيف تفلترت شخصية يسوع من ابعادها الانسانية التاريخية .. بحيث تم تصويرها بهذا التركيز على ثيمة واحدة بالتضاد للعهد القديم واله العهد القديم .. تحياتي
شكرًا لتعليقك يا دانيل. متفق مع حكاية الفلترة دي. في النَص هنا يسوع بيتم تناوله كرمز (زي ما أنتيجون وشولوميت رمز) لنوع معين من الحب وإزاي بيتواجد مع القانون.
بولينيس هو الذي أمر الملك بعدم دفنه علي عكس اخوه ايتيوكليس الذي أمر الملك بتكريمه
مظبوط يا هبة، شكرًا على التصحيح!