كولونيالية السلطة

مقال لشهاب الخشاب

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية
والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

ثورة يوليو 1952
الدبابات حول قصر عابدين (1952)، عن history collection

امتى انتهى الاستعمار في مصر؟ في الرواية الرسمية، عبد الناصر والضباط الأحرار هم اللي أنهوا الاستعمار بعد ثورة 1952، وتحديدًا بعد انسحاب آخر عسكري إنجليزي من قناة السويس سنة 1956. الضباط الأحرار حرروا الأراضي المصرية من احتلال أجنبي ادعوا إنه كان مستمر لقرون، من أول غزو المماليك والعثمانيين لغاية الاحتلال الإنجليزي سنة 1882. عبد الناصر رجَّع مصر للمصريين، ومن ساعتها بقينا شعب بيفتخر بإنجازاته واستقلاله.

الرواية الرسمية عن التحرير عبارة عن رواية عسكرية، بتعتبر إن طالما العساكر الأجانب مشيوا من أرضنا الطاهرة، الاستعمار انتهى ومش هيرجع تاني. الرواية دي بتتغاضى عن نقطتين أساسيتين. الأولى إن التحرر العسكري من الاستعمار ما بيأديش بشكل تلقائي إلى تغيير مؤسسات الدولة الاستعمارية، ودي حاجة واضحة من تجربة حركات الكفاح ضد الاستعمار عبر العالم. بنفس المنطق، انقلاب الضباط الأحرار ما غيَّرش مصر بين يوم وليلة، وفضلت آليات القمع والدواوين الحكومية والمصانع والأراضي شغَّالة جوه نمط الدولة الاستعمارية. طبعًا الدولة دي اتغيرت مع الوقت، بعد إصلاحات عبد الناصر وانفتاح السادات، إنما الواقع السياسي والاقتصادي والقانوني اللي تم تغييره كان نابع من الاستعمار. 

النقطة التانية إن خروج العساكر الأجانب من مصر ما غيَّرش في طريقة تفكير الناس في حد ذاته. طبعًا القطاعات الداعمة لعبد الناصر أنتجت كتب وأغاني وأفلام وقصص شعبية عن انتصاراته ضد الإمبريالية والتدخلات الأجنبية، وما زال خطاب التحرر القومي ده عايش إلى الآن. ولكن الدولة اللي ورثها عبد الناصر احتفظت ببعض ملامح التفكير الاستعماري حتى بعد ثورة 1952. إذن الاستعمار انتهى على المستوى العسكري فقط، وإنما ما انتهاش على المستوى الفكري، وده راجع لـ«كولونيالية السلطة» (colonialidad del poder) حسب تعبير المفكر وعالم الاجتماع الپيروي أنيبال كيخانو (Aníbal Quijano).

 كيخانو قدم مصطلح «كولونيالية السلطة» في مقال مؤسس عنوانه «كولونيالية السلطة والحداثة العقلانية». المقال بيربط بين تاريخ الاستعمار الأوروبي للعالم وظهور الفكر الحداثي الأوروبي، وتحديدًا المنهج العقلاني. كيخانو بيقول إن الفلاسفة الأوروبيين كانوا مدركين التزامن بين الاستعمار والحداثة – باعتبار إن الإتنين بدأوا تقريبًا في نفس الوقت مع النهضة الأوروبية في القرن الـ15 – ولكن نادرًا ما الفلاسفة بيربطوا بين الحاجتين – باعتبار إن الاستعمار مشروع سياسي عسكري والعقلانية مشروع فكري فلسفي. أما أطروحة كيخانو إن التزامن ده مش مجرَّد صدفة، وإنما إن السلطة الاستعمارية نفسها استمدت جزء من قوتها من الحداثة العقلانية.

في رأي كيخانو، المنهج العقلاني قائم على تفرقة جذرية بين الذاتي والموضوعي. الذات هي اللي بتفكر وبتحس وبتدبَّر، والموضوع بيتحول إلى مجرد شيء غير فعَّال خارج سيطرة الذات ولو إنها تحت سطوته المعرفية. في أطروحات كانط عن العقلانية مثلًا، الذات ما تقدرش تتعرف على طبيعة الأشياء مباشرةً، إنما هي الوحيدة اللي تقدر تنتج معرفة عن الأشياء، وبالتالي الذاتي دايمًا بيسيطر معرفيًا ومعنويًا على الموضوعي. كيخانو بيشرح إن الفرق الفكري بين الذات والموضوع بيتحول في سياق الاستعمار إلى فرق بين المُستَعِمر الأوروبي والمُستَعمَر الأفريقي أو الآسيوي أو الأمريكي. في الرؤية الاستعمارية، الإنسان الأوروبي هو الوحيد اللي عنده ذات مفكرة مستقلة مدبرة، بينما الساكن الأصلي في أفريقيا وآسيا وأمريكا هو موضوع الحكم والفكر والتدبير، ومالوش كلمة في اللي بيتقال عنه ولا يقدر ينتج معرفة جادة عن ذاته. 

في حالات الاستعمار المباشر، الفرق الطبقي والعرقي والمعرفي بين المُستَعمِر والمُستَعمَر كان واضح بالنسبة لكل الناس اللي نظَّرت للاستعمار، سواء كانوا رجال الحكم الاستعماري نفسهم (زي اللورد كرومر في كتابه عن مصر الحديثة)، أو ناس كافحت ضد الاستعمار (زي المفكر فرانز فانون في كتابه عن معذبو الأرض). إضافة كيخانو إن حتى في سياق ما بعد الاستعمار، الفرق بين الأوروبيين والباقيين ما زال موجود بسبب إن السلطة السياسية والمعرفية نفسها بتحتفظ بطابع كولونيالي.

في السياق المصري مثلًا، كولونيالية السلطة السياسية باينة في استخدام بعض القوانين والسوابق القانونية اللي اتأسست في فترة الاستعمار. فمثلًا قانون الطوارئ اللي استخدمه حسني مبارك عشان يفرض سيطرته ويضعف المعارضة كان قانون ناصري، وإنما كان مضمونه ومفعوله في الواقع قريب من الأحكام العرفية اللي اتفرضت وقت الحرب العالمية الأولى والثانية في مصر. كذلك التصور الشائع عند الأجهزة القمعية القومية إن الشارع والناس والأرض تحت سيطرتهم، سواء كان بشكل رسمي أو بشكل ضمني، هو في الواقع تصور راجع إلى زمن الاستعمار، وكأن الشخص اللي يقدر يمسك سلاح يقدر يحتل المكان بعيدًا عن جنسيته.

كولونيالية السلطة لها كمان ملامح معرفية، بمعنى إنها بتشكل معرفة الناس عن نفسها وعن تاريخها في بلاد ما بعد الاستعمار. في السياق المصري، المثال الأوضح للكولونيالية المعرفية هي التيارات التنويرية القومية اللي ظهرت مع ثورة 1919 وانتشرت في الأجهزة التعليمية والثقافية بعد ثورة 1952. الفكر التنويري العقلاني اللي أنتجه مفكرين زي طه حسين وزكي نجيب محمود مثلًا، واتجدد على إيد تلامذتهم ومحبينهم، بيفترض إن الدولة المصرية في حالة تخلف بالنسبة للعالم الأوروبي المتقدم، ولازم مصر تخرج من الحالة الموضوعية دي عشان تبقى لها ذاتها القومية العزيزة. الحل للمشاكل اللي بتواجه مصر في التحليل ده إن المصريين يعتمدوا المناهج الفكرية الأوروبية بلا تردد، باعتبار إن أي فكر أوروبي لازم يكون أحسن من الفكر المحلي.

التحليل ده بيعيد إنتاج كولونيالية السلطة. أولًا، بيعتبر إن التراتبية الحضارية العنصرية اللي بتفترض فرق جذري بين العالم الأوروبي المتقدم والعالم العربي المتخلف شيء طبيعي وبديهي، بينما هو في الواقع نتاج لتاريخ استعماري أوروبي على العالم بحاله (بما في ذلك في مصر). ثانيًا، فكرة إن المعرفة بتنبع من مؤسسات الدولة التعليمية والثقافية زي الشعاع اللي بينوَّر الشعب الجاهل بتعيد إنتاج علاقات القوة الاستعمارية في سياق قومي، يعني بتحوِّل العلاقة بين مُستَعمِر مستبد ومُستَعمَر مُستَغَل إلى علاقة بين دولة قمعية ومواطنين مقموعين. في الحالتين، بخلاف الناس اللي حسنت وضعها بعد ثورة 1952، المُستَعمَر والمواطن المقموع بيعانوا من نفس المشاكل، بينما القمع شغَّال في إطار كولونيالي وكأن بعض الناس عمرها ما تحررت من الاحتلال. 

لذلك كيخانو كان شايف إن الاستعمار مش ممكن ينتهي بشكل عسكري بحت، لأن أثره السياسي والفكري أكبر بكثير من اللي الواحد بيسمعه في خطاب المؤسسات القومية عن التحرر. في كل البلاد اللي حاربت الاستعمار، كولونيالية السلطة تقدر دايمًا تستمر جوه الدول القومية والمناهج الفكرية اللي بتنتجها، وده واضح في الحالة المصرية. رغم معاداتهم للاحتلال الإنجليزي، لا عبد الناصر ولا طه حسين نجحوا في إنهم يخلقوا قطيعة سياسية وفكرية جذرية مع كولونيالية السلطة، لأن تحليلهم للاستعمار كان مقتصر على مسألة السيادة القومية، وبالتالي القمع الكولونيالي استمر بأشكال مختلفة حتى بعد خروج آخر عسكري أجنبي من مصر.

كيخانو كان شايف إن نهاية كولونيالية السلطة لازم تحصل بشكل سياسي ومعرفي، بمعنى إنها لازم تعترف بالآثار المتبقية للاستعمار وتنتج مناهج سياسية وفكرية جديدة عشان تُعادي الحداثة الاستعمارية الأوروبية. كيخانو كان شايف إن بعض الثورات والانتفاضات ضد الاستعمار الأوروبي بدأت مشروع إزالة آثار الكولونيالية (descolonización). بما إنه كان بيكتب في سياق أمريكا اللاتينية، أشار إلى ثورة هاييتي وانتفاضة توپاك أمارو التاني ضد استغلال السكان الأصليين في پيرو كلحظات كانت ممكن تنتج قطيعة سياسية وفكرية مع الكولونيالية. أما ثورات التحرر القومية اللي بدأت في القرن الـ18 في أمريكا اللاتينية، فهي أعادت إنتاج العلاقات الكولونيالية العرقية بين الأوروبيين والعبيد السود والسكان الأصليين، وبالتالي ما اعتبرهاش كيخانو نقطة تحرر صريحة من الاستعمار.

إذا تتبعنا كلام كيخانو، التحرر مش ممكن يحصل لما العساكر يمشوا من البلد، وإنما لما العساكر يمشوا من دماغ الناس.