ساعتي (حكاية تعليمية صغيرة)

قصة لمارك توين

نُشرت في كتاب «القصص القصيرة الكاملة لمارك توين»

ترجمة: محمود راضي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


مارك توين، عن Medium

اشتغلت سَاعَتي الجديدة الجميلة ثمانية عشر شهرًا دون تقديم أو تأخير، ودون انكسار أي جزء من آليتها، ودون توقف. آمنت بعصمتها من الخطأ في أحكامها بخصوص مواقيت اليوم، وأيقنت بأزلية بنيتها وبنيانها. لكن في النهاية، في ليلة من الليالي تركتها تتوقف عن العمل، حزنت بخصوصها كما لو كانت رسول ونذير نكبة، لكني فيما بعد ابتهجت، وضبطتُ الساعة بالحدس، وأمرت كافة نبوءاتي وخرافاتي أن تغادر.

في اليوم التالي، دخلت محل جواهرجي كبير كي يضبطها حسب التوقيت الصحيح، وأخذها مدير المكان من بين يديَّ مواصلًا ضبطها من أجلي، ثم قال: «إنها متأخرة أربع دقائق، ومنظم الساعة يحتاج للتسريع». حاولت إيقافه، وحاولت دفعه ليفهم أن الساعة مضبوطة على الوقت، لكن لا، كل ما رآه هذا «الكرنب» البشري هو أن الساعة كانت متأخرة أربع دقائق، وأن المنظم يحتاج للتسريع قليلًا، ولذا حين تراقصت حوله في كرب، وناشدته كي يدع الساعة وشأنها، اقترف الفعلة المشينة في هدوء وقسوة.

بدأت ساعتي تسارع في الوقت، وتقدمت أسرع فأسرع يومًا بعد يوم، وخلال الأسبوع اجتاحتها حمى عنيفة، وارتفع نبضها لمائة وخمسين في الظل. بعد انتهاء شهرين، كانت قد تركت خلفها في الوراء كل ساعات البلدة، مع فارق يزيد عن ثلاثة عشر يومًا في اﻷفق حسب التقويم، كانت موغلة في نوفمبر تستمتع بالجليد، بينما صحائف أكتوبر لا زالت تتعاقب. عجلت بإيجار المنزل، والفواتير مُستحقة السداد، وهكذا أشياء على نحو مدمر لم أفلح في الالتزام به.

أخذتها إلى ساعاتي كي يضبطها، سألني إن جرى تصليحها من قبل، أجبت بـ«لا، لم تحتج ﻷي تصليح». ألقى نظرة سعادة جهنمية ونقب في الساعة وهى مفتوحة، ثم وضع عدسة مكبرة صغيرة على عينه وأمعن النظر في آليتها. قال «إنها تحتاج للتنظيف والتزييت باﻹضافة إلى ضبط الوقت، تعال خلال أسبوع».

بعد تنظيفها وتزييتها وضبطها، تباطأت ساعتي إلى حد التكتكة مثل جرس رنان، بدأت القطارات تفارقني، وأغفلت كل المواعيد، وصرت أفوِّت عشائي. تقهقرت ساعتي زهاء الثلاثة أو أربعة أيام، وتركتني أوُليّ محتجًا، تقهقرت بالتدريج نحو اﻷمس، ثم أول أمس، ثم الأسبوع الماضي، وسرعان ما أدركت كم طالت عزلتي ووحدتي في الأسبوع قبل الماضي، وصار العالم بعيدًا عن العين.

يبدو أني لمست تعاطفًا يتسلل في داخلي مع المومياء في المتحف، راغبًا في تبادل اﻷخبار معها.

توجهت مجددًا إلى ساعاتي، وفكك الساعة إلى أجزاء بينما أنا منتظر، ثم قال إن أسطوانة الساعة «منتفخة»، قال إنه يستطيع أن يُهبّطها في ثلاثة أيام. بعد ذلك اشتغلت الساعة جيدًا، لكن لا أكثر من ذلك.

كانت تسير بإزعاج جسيم لمدة نصف يوم، مُواصلة النباح والصفير والصياح والعطس والشخير،  لدرجة أني لم أسمع نفسي وأنا أفكر بسبب اﻹزعاج، وطالما باتت عصية على اﻹذعان، فلا ساعة في اﻷرض تفلح في مواجهتها. لكنها واظبت بقية اليوم على التباطؤ والتكاسل حتى تلاحقها الساعات التي تركتها وراءها من جديد. لذا في النهاية، مع ختام أربع وعشرين ساعة، كانت لتهرول متسلقة موقف الحَكَم مباشرة وفي الموعد. كانت تظهر أداء أمينًا ونزيهًا، وليس ﻷحد أن يقول إنها قدمت أقل أو أكثر من واجبها، لكن المعدل المضبوط هو مجرد ميزة مألوفة للساعة، وأخذت هذه اﻵلة إلى ساعاتي أخر. قال إن المسمار الرئيسي مكسور. قلت إني ممتن أنه لم يكن أمرًا أكثر خطورة.

حقًا وصدقًا أقول، ليست لدي أية فكرة عما يكون المسمار الرئيسي، لكني اخترت ألا أبدو جاهلًا أمام غريب. لقد أصلح المسمار الرئيسي، لكن ما كانت الساعة تجنيه من ناحية، تخسره من اﻷخرى، كانت تسير حينًا ثم تتوقف حينًا، ثم تسير حينًا من جديد، وهكذا، مستخدمة تقديرها الخاص للمدد الزمنية. وفي كل مرة تنطلق فيها كانت ترتد مثل بندقية عتيقة. بطنت صدري لبضعة أيام، ثم أخذت الساعة في النهاية إلى ساعاتي آخر. فككها كلها إلى أجزاء، وقلب في الركام تحت عدسته مرارًا وتكرارًا، ثم قال إنه يبدو أن اﻷمر ذو صلة بالمقداح. أصلحه ومنحه بداية جديدة، سارت للآن على ما يرام إلا حين تحل الساعة العاشرة إلا عشر دقائق فتنغلق العقارب معًا مثل المقص، وترتحل سويًا منذ هذا الوقت فصاعدًا.

لم يكن ﻷكثر الرجال شيخوخة في العالم أن يفهم رأسًا من ذيل لمواقيت اليوم من ساعة كهذه، لذا ذهبت مجددًا ﻷصلح هذا الشيء. قال هذا الشخص إن البلورة تقوست، وأن النابض الرئيسي غير معتدل. أشار كذلك أن بعض الشغل في حاجة لنصف نعل. وضع كل اﻷمور في نصابها، وأدت ساعتي وظائفها باستثنائية، وحافظت على ذلك عَرَضًا، وبعد اشتغالها قرابة الثماني ساعات، انفلت كل شيء من الداخل إذ فجأة، وبدأت تطن مثل نحلة، وشرعت العقارب من فورها في الدوران والدوران بسرعة شديدة حتى ضاعت ملامحها كلية، وببساطة تبدت شبكة عنكبوت رقيقة على وجه الساعة. استنفدت اﻷربع وعشرين ساعة التالية في ست أو سبع دقائق، ثم توقفت مع فرقعة.

توجهت بقلب مثقل إلى ساعاتي إضافي، وتطلعت إليها بينما كان يفككها إلى أجزاء، ثم تحضرت لمعارضته بسؤال في جمود ﻷن هذا الشأن قد صار جديًا. 

تكلفت الساعة في الأصل مائتي دولار، ويبدو أنني دفعت ألفين أو ثلاثة اﻵف دولار في التصليحات. بينما كنت أنتظر وأتطلع لما ألفته حاليًا من معرفة قديمة بهذا الساعاتي، مهندس بواخر في أيام أخرى، لكنه حتى ليس بالمهندس الجيد. فحص كل اﻷجزاء بعناية، تمامًا مثلما فعل الساعاتية الآخرون من قبله، ثم أصدر حكمه بنفس الحالة من الثقة، قال:

«إنها تصدر الكثير من البخار، أنت في حاجة لضبط صمام اﻷمان بمفتاح الربط!»

بطحته في التو على رأسه، وجعلته يُدفن على نفقتي الخاصة.

اعتاد عمي ويليام (وحسرتاه على المرحوم) القول بأن الحصان الجيد كان حصانًا جيدًا حتى هرب مرة، والساعة الجيدة كانت ساعة جيدة حتى حظي المصلحون بفرصة معها، واعتاد على التساؤل عما كان من أمر  السمكرية وصناع الأسلحة وصناع اﻷحذية والمهندسين والحدادين الفشلة، لكن لم يستطع أحد أن يخبره.