اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.

ترجمات هذه السلسلة جرت ضمن أعمال الدورة الرابعة من مختبر الترجمة بمعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة بالإسكندرية (سيلاس الإسكندرية) – ربيع 2019.

قائمة مكروم |  تشريح الكآبة لروبرت برتون (1621)

نُشر بموقع الجارديان 18 ديسمبر 2017

ترجمة: أنس عبد الله ومحمد ناصر الشعراوي ونرمين أحمد عبد المحسن وأمير زكي

الترجمة خاصة بـ Boring Books وسيلاس الإسكندرية

يحتفظ المترجمون بحقهم في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهم دون إذن منهم


روبرت برتون، عن الجارديان

بداية من عنوان الكتاب الكامل المبالغ للغاية في طوله «تشريح الكآبة: ماهيتها وكل أنواعها وأسبابها وأعراضها ومقدماتها والعديد من علاجاتها. ثلاثة أجزاء متعددة الأقسام والفصول والأقسام الفرعية. مشروحة ومقسمة فلسفيًا وطبيًا وتاريخيًا»، يظل هذا العمل الخالد لمؤلفه روبرت برتون من الأعمال الرائعة الصالحة لإعادة الاطلاع والقابلة للإدمان من القراء المشغولين بموضوعها، بما فيه حتى من جزئيات مثيرة للسخط. وأتصور أن بعض قراء كارل أوفه كناوسجارد[1] بالذات سيكونون قادرين على استيعاب جاذبية هذا الكتاب.

يبدو هذا الكتاب ظاهريًا دراسة طبية لمصطلح «المالنخوليا» (Melancholia)، وتعني الكآبة، الموضوع الذي يعود ظهوره إلى العام 1514 في المنحوتة الشهيرة «ميلانكوليا 1» للرسام الألماني ألبرخت دورر. لكن كتاب برتون (بعدد صفحاته الذي يزيد عن 1400 في الطبعة التي أمتلكها)، لم يقتصر على الجانب العلمي، بل جعل من نفسه قامة أدبية تستغل كل جانب من جوانب موضوعها في استكشاف الإنسانية بكل تعقيداتها المتناقضة، منطلقًا من المعرفة العلمية (ما توصل له العلم في وقت تأليف الكتاب)، ومازجًا تلك المعرفة مع علوم التنجيم والظواهر الجوية وعلم النفس واللاهوت وعلم الخداع kidology القديم والثري.

يصف برتون نفسه على سبيل السخرية أنه «كاتب بسيط وصريح ووقح.. أُسمِّي الأشياء بمسمياتها»، ويمكن أن يقول مثلًا: «كل الشعراء مجانين»، وقد يجدر بنا التوقف قليلًا هنا لتأمل ما إذا كانت هذه الجملة عادية أم وقحة فعلًا. تمتلئ العديد من أجزاء كتاب «تشريح الكآبة» -للمفارقة- بأسلوب فكاهي ساخر، لذا من غير المفاجئ أن لورانس ستيرن  في روايته «تريسترام شاندي» قدم محاكاة ساخرة لبرتون.

وحقيقة الأمر أن أسلوب برتون في الكتابة لا يُضاهى:

«في الحقيقة يمكن أن أذكر وصية الشاعر (اترك مسودتك حتى مرور تسعة سنوات) nonummque premartur in annum، (وكان عليَّ تنفيذها عن حكمة) وأن أكون أكثر حرصًا، وكما فعل الإسكندر الطبيب باللازورد: يُغسل خمسين مرة قبل أن يستخدم، كان عليَّ أن أراجع هذه المسودة وأصححها وأصلحها، ولكن لم تكن لديَّ الفرصة السعيدة لذلك (كما ذكرت) ولا النسَّاخ ولا المساعدين». 

وفقًا لكاتب السيرة الذاتية جيمس بوزويل، ورد عن الكاتب الإنجليزي صمويل جونسون، وشهرته دكتور جونسون (مؤلف الكتاب رقم 86 في هذه السلسلة) قوله إن كتاب تشريح الكآبة «هو الكتاب الوحيد الذي أَجبره على ترك سريره قبل موعد استيقاظه بساعتين»، بينما استلهم كيتس قصة قصيدته «لميا» كلها من كتاب برتون وزعم أنه كتابه المفضل.

وحقيقة الأمر أن الكآبة والأدب وثيقا الصلة ببعضهما، وهي الفكرة التي يطرحها جراهام جرين في كتابه «طرق الهروب»: «الكتابة نوع من العلاج النفسي؛ في بعض الأحيان أتساءل كيف يقدر الشخص الذي لا يكتب أو يؤلف الموسيقى أو يرسم على الهروب من الإصابة بالجنون والكآبة والهلع والخوف، وكلها مخاطر متأصلة في الوجود الإنساني».

وصولًا إلى القرن العشرين، نجد عضوًا جديدًا في قائمة المتعصبين لكتاب تشريح الكآبة، وهو صمويل بيكيت، الذي دفعته قراءته للكتاب إلى كتابة روايته الأولى «مورفي»، بينما تمتد قائمة محبي الكتاب من أعلام الفن في القرن العشرين لتشمل أسماء مثل: خورخي لويس بورخيس وفيليب بولمان والشاعر جاي باريني ووليام جاس والرسام الأمريكي ساي تومبلي. 

قبل الاستغراق في الرحلة الغامضة لاستطلاع كتاب «تشريح الكآبة» ، قد يكون من الضروري في البداية إلقاء نظرة على معنى وتعريف «المالنخوليا» (Melancholy) في المعجم، واضعين في الاعتبار سياقها الزمني الغني وجوانب تشكلها المختلفة، وهي مشتقة من اللغة اليونانية القديمة. الجزء الأول من الكلمة (Melan) يعني اللون الأسود Black، بينما الجزء الثاني (Hole) يعني المِرّة Bile؛ وهي السائل الذي ينتج عن الكبد. لذا فإن الترجمة الحرفية لكلمة (Melancholy) هي المِرّة السوداء أو إفرازات الكبد السوداء[2].

ويوجد بقاموس أكسفورد للإنجليزية ثلاثة تعريفات أساسية للكلمة: 

1. المتأثر بالإصابة بمرض المالنخوليا.

2. الغاضب والحانق والمتجهم

3. ذو الروح المكتئبة. الحزين والكئيب. الأسيُّ والمفجوع.

يجب أن يُفهم مصطلح «المالنخوليا»، بالمعنى المعاصر، على أنه الاكتئاب الحدي: حيث يشمل حالات الحزن والعواطف السلبية، والشعور بالانزعاج الوجودى والمرارة والإحباط اليومى. بالنسبة إلى برتون اشتملت الكآبة أيضًا على الجنون والهوس. يمكن لأي شخص أن يُبتلى بالمالنخوليا: العشاق، العلماء، الحكام. المهووسون مصابون بالمالنخوليا. ويشتهر الشعراء بالإصابة به. المالنخوليا في أفضل أحوالها يمكن أن تكون مصدر الإلهام والإبداع.

بصرف النظر عن قاموس أكسفورد ، فإن تفسير برتون للكلمة واسع النطاق:

«المالنخوليا، موضوع حديثنا الحالي، إما نزوع أو عادة. إن كانت نزوعًا، فهي تلك الكآبة المؤقتة التي تذهب وتجيء مع كل مناسبة صغيرة تتسم بالحزن أو الحاجة أو المرض أو المتاعب أو الخوف أو الأسى، أو العاطفة أو اضطراب العقل، أو أي شكل من أشكال القلق أو السخط أو الفكر، تلك التي تسبب المعاناة أو البلادة، أو ضيق الروح وثقلها. هي أي شيء مقابل للذة والمرح والبهجة والسرور، ذلك الذي يؤدي بنا لمواجهة أنفسنا وكراهيتها. هكذا نطلق على العقل المشتت وغير المنضبط أنه مصاب بالمالنخوليا، أي أنه كئيب وحزين وبليد ونفور ومنعزل. في كل الأحوال منفعل، أو غير راض. ولا يوجد أي إنسان بعيد عن طغيان نزوع المالنخوليا، ولا يوجد شخص رواقي لهذه الدرجة، ولا سعيد لهذه الدرجة، ولا صبور أو كريم أو متدين أو تقي، لدرجة أن يستطيع حماية نفسه من هذا النزوع، وحتى الشخص رابط الجأش تمامًا وبأي صورة، فإنه من وقت لآخر يشعر بتأثيرها عليه. المالنخوليا بهذا المعنى هي سمة من سمات الفناء… أما المالنخوليا التي نعالجها فهي عادة مرض خطير، حالة مستقرة، وكما أطلق عليها أورليانوس والآخرون، فهي ليست حالة عابرة وإنما مستقرة: وبينما تكون قد طغت من فترة طويلة، فهي الآن تنمو (بشكل محبب أو مؤلم) لدرجة أن تصير عادة، فيصعب التخلص منها». 

«تشريح» برتون من بين أكثر الكتب غير المألوفة في هذه القائمة. أما في زمنه، فكان له متعصبون، وحظي بشعبية كاسحة في أوساط القراء في عصر الملك جيمس الأول. تأثرت به شخصيات لاحقة متنوعة، من تشارلز لام إلى الجنرال كاستر. واستمر في إضفاء سحره على الخيال الرهيف كعمل فريد وموسوعي يتأمل خفايا الوجود عبر تيار الوعي.

ظاهريًا، قد يبدو كتاب برتون الشامل نصًا طبيًا يحيل إلى غيره (كالإنترنت)، لكنه، في الحقيقة، سخرية لطيفة من قابلية العقل البشري للخطأ. يرى المؤلف أن الكآبة متأصلة في الطبيعة البشرية، أو على حد قوله «علة فطرية نحملها جميعًا».

 كما يتضح من العنوان الفرعي، يتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء: (الأول والثاني حول أعراض المالنخوليا وعلاجها، والثالث عن مالنخوليا الحب والمالنخوليا الدينية). برتون، الذي كان رجلًا واسع الثقافة، يملأ سرده، على طريقة مونتيني، باقتباسات لجانب من الكتاب البارزين. كما يتخذ لنفسه اسمًا مستعارًا فكاهيًا «ديمقريطس الصغير» إشارة للكاتب الإغريقي المعروف بالفيلسوف الضاحك.

بالنسبة للقارئ المعاصر، يتجاوز «تشريح الكآبة»، كونه كتابًا ساخرًا، فهو عمل غرائبي من روائع النثر الإنجليزي أواخر عصر النهضة، يزخر بشذرات تأملية بديعة وعبارات تهكمية حول الطبيعة البشرية: «لعلي هنا لا أغفل هذين الوبائين الرئيسيين، والخرف المتفشي في الجنس البشري؛ النبيذ والنساء، اللذين فتنا الآلاف من الناس وغيبا عقولهم. وهما يتلازمان عادة».

بخلاف الجانب الذي يخاطب المعارك بين الجنسين، من بين العديد من الجوانب، يسخر برتون من مهنته التي اختارها: «من هذا يظهر جليًا كيف أن القلم أسوأ من السيف» ويختم بنصيحة جيدة لقرائه: «لا تكن وحيدًا، لا تكن عاطلًا».

اقتباس أساسي

«في العديد من المرات تكون لدى الرجل الطيب المخلص المتألم زوجة مزعجة، امرأة مخادعة كسولة مهملة، تكون رفيقته، أنثى متكبرة سيئة الطبع وجشعة وسفيهة، وهكذا تتحول علاقتهما إلى حطام. أو إذا اختلفا في الطبع، يكون حريصًا، فتنفق هي كل شيء، يكون حكيمًا فتكون غبية وقليلة العقل. أي اتفاق يحدث بينهما؟ وأي صداقة؟»


 [1]  كارل أوفه كناوسجارد (روائي نرويجي 1968) اشتهر بسلسلة رواياته «كفاحي».

 [2]  درج تحويل الكلمة في العربية إلى «المالنخوليا» وتم تعريفها على أنها مرض عقلي من مظاهره فساد التفكير، ينشأ من تغلب الإفرازات السوداء في الدم، بسبب عجز الطحال عن امتصاصها.