أسرار الدولة
مقال لشهاب الخشاب
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
إيه الفرق بين السد العالي وسد النهضة؟ السد العالي أكبر وأفخم مشروع في تاريخ مصر، اللي هي أكبر وأفخم دولة في العالم، وإحنا أبناء وأحفاد الجيل العظيم اللي دخّل الكهرباء ووقّف الفيضان. أما سد النهضة، فهو مشروع خسيس دسيس يهدف لإسقاط الدولة المصرية وتدمير الشعب المصري. الخطابات دي بتعكس رؤية قومية مركزية بتعتبر إن أي حاجة مفيدة للطبقات الحاكمة في القاهرة تبقى كويسة لمصر، وأي حاجة مضرة لمصالح الطبقات دي تبقى ضد مصر. بالتالي السد العالي حاجة كويسة لأنها وفرت طاقة للبلد (بغض النظر عن تهجير النوبيين وتدمير حوض النيل)، وسد النهضة حاجة وحشة لأنها هتقلل من حجم المياه والطاقة في العاصمة (من غير ما الحكام ياخدوا حاجة يا عيني).
التفكير ده منتشر في وسائل الإعلام الحكومية، في الجرايد والتلفزيون والمطبوعات الرسمية. اللي عايز يقرا عن السد العالي هيلاقي ألف نشرة وخبر وكتاب بيعبَّر عن الإنجاز العظيم اللي أدته الدولة المصرية، واللي عايز يقرا عن سد النهضة ممكن يتابع الأخبار اليومية عن خيانة أثيوبيا والمؤامرة العالمية ضد الوطن. طبعًا الكلام العام ده مختلف عن الكلام الخاص اللي بيتقال جوه كواليس الدولة، جوه الأوض المقفولة اللي الحكام بيجتمعوا فيها، بعيد عن ودان المواطنين الغلابة. في غياب المعلومات المؤكدة (بما إن الإعلام بطَّل يِعلِم من زمان)، المواطن لازم يقعد يخمن اللي بيحصل جوه الدولة من اللي بيتقال للناس براها.
التخمين بيخلِّينا نتصور إن القوة الحقيقية مش في الكلام اللي بيتقال للناس، ولا في الإنجازات المعلنة والمؤامرات الفادحة، وإنما في الدواوين والمجالس المغلقة، في دواير جوه الدواير، لأن صاحب السر هو صاحب الدولة. في غياب التسجيلات والبيانات، الواحد ممكن يتصور إن الوسيلة الوحيدة للوصول للي بيحصل جوه الدولة هي الوثائق المكتوبة. المؤرخين المحترفين بيعتمدوا على الوثائق دي عشان يكتبوا التاريخ الرسمي، ولكن الوثائق مش دايماً متاحة للبحث ولا التأمل، حتى في مؤسسات زي دار الوثائق القومية.
في الظروف دي، ممكن نتصور إن عمرنا ما هنعرف السر الحقيقي اللي ورا قوة الدولة، والناس اللي تعرف كل الأسرار هتكتمها لغاية ما تنزل في تربتها، من غير ما تقول لنا إيه اللي حصل بجد وليه هُمَّا عملوا فينا كده. فمثلًا المفاوضات الرسمية اللي حصلت مع الاتحاد السوفييتي وقت بناء السد العالي مالهاش أثر إلا في الورق الـ «سري» والـ «سري للغاية» اللي كان بيتداول في الكواليس، وكذلك مفاوضات سد النهضة الجارية بين مصر والسودان وأثيوبيا حاليًا في أمريكا. ما حدش عارف حاجة إلا اللي بيحضر الجلسة.
الرؤية دي لأسرار الدولة لها حدود حسب المؤرخة الأمريكية آن ستولر (Ann Stoler). في كتاباتها عن الأرشيف الكولونيالي، ستولر كانت شايفة إن الأرشيف مش مجرد مستودع كبير للمادة اللي المؤرخ بيستخدمها عشان يأكد أو ينفي سردية تاريخية ما. الأرشيف عبارة عن مؤسسة بتنتج خطاب ممنهج عن التاريخ وبترتب الوثائق حسب مفاهيم ومعايير مرتبطة بسياسة المؤسسة نفسها. تأثير أفكار ميشيل فوكو (Michel Foucault) عن الأرشيف واضح في طرح ستولر. فوكو كان شايف إن الأرشيف مش مجرد كومة من الوثائق ومن المباني اللي جواها وثائق، وإنما إنه كمان بيشكّل «نظام الخطاب»، يعني قواعد وممارسات لتنظيم الكلام بتسمح بوجود بعض الخطابات والأفكار وبتنفي وجود البعض الآخر.
في حالة الأرشيفات الكولونيالية في إنجلترا وفرنسا وأسبانيا وهولندا وغيرهم، أوراق الإدارات الإمبريالية بقت محطوطة ومرصوصة في مباني خاصة اتبنت معظمها في القرن الـ 19، بالتزامن مع ظهور شغلانة المؤرخ وأقسام التاريخ في الجامعات الأوروبية. الغرض من الأرشيف وقتها ما كانش مجرد الحفاظ على الوثائق والعلم والنور، وإنما برضه تجسيد قوة الدولة الإمبريالية في تاريخ متنظم ومتهندم بفضل المؤرخ المحترف. التنظيم والتنسيق ده بيتم في إطار خطاب قومي راسخ عن عظمة الوطن وإنجازاته، وبالتالي شكل الأرشيف والوثائق بيجسِّد الخطاب ده في كينونته. يعني بعيدًا عن وثائق ومباني الأرشيف، كان فيه رؤية معرفية حاكمة للي ممكن يتقال واللي ما ينفعش يتقال عن الدولة الكولونيالية في تنظيم الوثائق والمباني نفسه.
في رأي ستولر، دور المؤرخ الحالي مش إنه يحفر في الأرشيف عشان يكشف وقائع منسية جواه، سواء كانت وقائع مع أو ضد الدولة الاستعمارية. دور المؤرخ إنه يحاول يفهم منطق التنظيم والتنسيق جوه الأرشيف، لأن المنطق ده دال عن طبيعة الدولة اللي بتحتفظ بالوثائق، سواء في عصر الاستعمار أو ما بعد الاستعمار. النقطة دي مهمة في تاريخ الأرشيف المصري تحديدًا، لأن المؤسسات المعنية بالاحتفاظ بالوثائق اتأسست قبل ثورة 1952، ولسة لها أثر في مؤسسات الدولة المصرية الحالية.
دراسة تنظيم الأرشيف بتبيِّن إن أسرار الدولة مش مدهوسة تحت أكوام وأكوام من الورق، وإنما إن السر جزء من إدارة الدولة نفسها. في دراستها للأرشيف الكولونيالي الهولندي، ستولر بتكشف إن الوثائق اللي كانت متعلمة «سري» أو «سري للغاية» ما كانش فيها دايمًا أسرار بالمعنى الحرفي، لأن الوثائق بتتكلم عن مواضيع شائعة حتى عند الناس في الشارع. في رأيها، التفرقة بين السري وغير السري في الوثائق دي بتكوّن وبترسَّخ دواير للحكم جوه الدولة، بمعنى إن الموظف أو الحاكم اللي يقدر يخش في دايرة الأسرار هو اللي قادر يحس بانتمائه للكيان اللي اسمه «الدولة». إذا رجعنا للتسميات القديمة في الإطار ده، نقدر نفهم إزاي قوة الدولة ما بتبقاش بس في إيدين الحكام، وإنما كمان في إيدين «أمناء السر»، أو اللي بنسميهم النهارده «السكرتيرات».
الدواير جوه الدواير مش شرط تكون عندها تصور عن الحكم في المجمل، ولكن وجود دواير «سرية» بتربط الموظف بالحاكم حسب قواعد وممارسات محددة واضح في تنظيم وتنسيق الأرشيف. لذلك تحليل الكيان اللي بنسميه «الدولة» مش شرط يكون مرتبط بمعرفة محتوى المعلومات المتداولة جوه الكيان ده، لأن الناس اللي جوه دايرة السر نفسهم مالهمش قدرة خارقة على معرفة الواقع. القدرة دي جاية من أدوات معيَّنة للحكم – زي الدراسات الإحصائية والمؤسسات الأمنية – وبالتالي محتوى المعلومات اللي جوه ممكن جدًا يكون متاح بره. يعني أسرار الدولة مش ألماظات محدش يقدر يجيبها، وإنما هي ممارسة ممنهجة عند بعض الأفراد والمؤسسات لإعادة إنتاج كيان اسمه «الدولة». إذا دايرة الحكم قادرة تحاسب على أسرارها، ولو كان محتواها تافه أو شائع، تقدر تحافظ على قوتها وسيطرتها ضد الدواير التانية، وده واضح سواء في حالة السد العالي أو في حالة سد النهضة.
لذلك الدولة عمرها ما كانت كيان واحد وموحَّد بيحتفظ بأسراره، وإنما الكيان نفسه عبارة عن دواير جوه دواير من الأسرار المكتومة.