التمساح

قصة لفليسبرتو إرناندث*

ترجمها عن الأسبانية: أحمد حسان

نُشرت ترجمة القصة ضمن مجموعة «الحصان الشارد» الصادرة عن دار المحروسة.

*فليسبرتو إرناندث (1902 ـــ 1964): أحد المنسيين العظام للآداب المكتوبة بالإسبانية. يُعدُّ، مع أوراثيو كيروجا، ألمع ممثّلي الأدب الفانتازي في الأوروجواي. ويندرج الاثنان بين أبرز أعلام الأدب الفانتازي الذي ظل طوال القرن العشرين ينبثق من المنطقة المحيطة بالريو دى لا ﭘـلاتا: خورخى لويس بورخس، وماثيدونيو فرناندث، وخوليو كورتاثار، وأدولفو بيوى كاسارس، وسيلبينا أوكامبو.

تم النشر بإذن من دار المحروسة.

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


فليسبرتو إرناندث، عن Infolibre

ذات ليلة خريفية كان الجو حارًا رطبًا وكنت قد ذهبتُ الى مدينةٍ تكاد تكون مجهولةً بالنسبة لي؛ كان ضوء الشوارع الخافت كابيًا بفعل الرطوبة وبعض أوراق الشجر. دلفتُ الى مقهى قرب كنيسة، وجلستُ الى طاولةٍ في العمق وفكرتُ في حياتي. كنت أعرفُ كيف أعزلُ ساعاتِ السعادة وأحبِس نفسي فيها؛ كنت أولًا أسرق بعينيَّ أىَّ شىءٍ مُهمل في الشارع أو داخل البيوت ثم أحمله إلى وحدتي. وكانت متعتي بإعادة تفقُّدِه تبلغُ حدَّ أن الناس لو عرفوا لكرهوني. ربما لن يتبقى لي وقت طويل للسعادة. كنت قد عبرت تلك المدن من قبل مقدمًا حفلات عزف على البيانو؛ كانت ساعات الهناء نادرة، فقد كنت أعيش في عذاب تجميع أناس يودّون إنجاح تقديم حفل موسيقي؛ كان عليَّ أن أنسق بينهم، وأجعلهم يؤثرون في بعضهم، وأحاول العثور على رجل يكون نشيطًا. وكان ذلك على الدوام تقريبًا أشبه بالصراع مع مخمورين بطيئين وشاردي الذهن: فحين أنجح في إحضار أحدهم يفلت مني الآخر. وعلاوة على ذلك كان عليَّ أن أدرس وأن أكتب مقالات في الصحف.

منذ بعض الوقت لم أعد أحمل ذلك الهم: فقد استطعتُ الانضمام إلى شركةٍ ضخمة لجوارب السيدات. فكّرت أن الجوارب أكثر ضرورة من الحفلات الموسيقية ومن الأسهل إلباسُها. قال أحد أصدقائى للمدير إن لي علاقات نسائية كثيرة، لأنني عازف بيانو وجُبتُ مدنًا كثيرة: ومن ثم يمكنني استغلال نفوذ الحفلات الموسيقية في إلباس الجوارب.

تقلّصت أساريرُ المدير؛ لكنه قَبِل، ليس بسبب نفوذ صديقي فحسب، بل لأنني فُزت بالمرتبة الثانية في شعارات الدعاية لتلك الجوارب.كانت ماركة الجوارب «حلم». وكانت عبارتي: «منذا لا يُربِّتُ، اليوم، على جورب حلم ؟». لكن بيع الجوارب اتضح أيضًا أنه بالغ الصعوبة بالنسبة لي وكنت أتوقّع من لحظة لأخرى أن يستدعوني من المركز الرئيسي ويقطعوا عني مصروف الجيب. في البداية بذلت جهدًا كبيرًا. (فلم يكن لبيع الجوارب علاقة بحفلاتي الموسيقية: وكان عليَّ أن أتفاهم بشأنها مع التجار وحدهم). وحين أصادف معارف قدماء كنت أقول لهم إن تمثيل شركة تجارية كبرى يتيح لي أن أسافر باستقلالية ولا أضطرُّ أصدقائي لرعاية حفلات موسيقية حين لا تكون الحفلات مواتية. ولم تكن حفلاتى الموسيقية مواتية أبدًا. وفي هذه المدينة ذاتها كانوا قد تذرّعوا لي بذرائع غير مألوفة: كان رئيس النادي معتكر المزاج لأنني جعلته ينهض عن طاولة اللعب وقال لي إنه بسبب وفاة شخصٍ له أقارب كثيرون، كان نصف المدينة في حداد. والآن قلت لهم: سأبقى بضعة أيامٍ لأرى هل ستنشأ بشكلٍ طبيعي الرغبة في حفلٍ موسيقي؛ لكن حقيقة أن يبيع عازفُ موسيقى الجوارب أعطتهم انطباعًا سيئًا. أما بالنسبة لإلباس الجوارب، فكنتُ كل صباح أحفزُ معنوياتي وكل مساءٍ تَفتر معنوياتي؛ فكأنني أرتدي ثيابي وأخلعها. وأجهدني أن أُجدِّد في كل لحظةٍ قوةً خشنةً معينة ضرورية للإلحاح أمام تجّارٍ مُتعجِّلين دومًا. لكنني الآن كنت قد قنعتُ بانتظار أن يفصلوني وأحاول الاستمتاع طالما بقي مصروف الجيب.

وفجأة انتبهتُ أن أعمى بقيثارةٍ قد دخل المقهى؛ كنت قد رأيته في المساء. قرّرت الانصراف قبل أن أفقد الرغبة في الاستمتاع بالحياة؛ لكن عند مروري بقربه عاودتُ رؤيته بقبّعة ذات جناحين سيّئي الطيّ وهو يُدير عينيه صوب السماء بينما يبذل جهده ليعزف؛ كانت بعض أوتار القيثارة مُضافةً وكان خشبُ الآلة الفاتح والرجلُ كله مكسوَين بقذارةٍ لم أرها مطلقًا. فكّرت في نفسي وشعرت باكتئاب.

حين أضأتُ النور في غرفتي بالفندق، رأيت سريري في تلك الأيام. كان مفتوحًا وجعلتني أعمدتُه المطلية بالنيكل أفكر في شابّة مجنونة تُسلِم نفسها لأي شخص. وبعد أن استلقيتُ أطفأتُ النور لكنني لم أستطع النوم. عاودتُ إضاءته فظهر المصباح تحت مظلته مثل كرة عينٍ تحت جفنٍ داكن. أطفأتُه على الفور وأردتُ التفكير في تجارة الجوارب لكنني ظللت أري للحظةٍ، في الظلام، مظلةَ الضوء. استحالت إلى لونٍ فاتح؛ ثم، بدأت هيئتها، كأنها روح المظلة المُعذَّبة، تمضي إلى جانبٍ وتتلاشى في الظلام. جرى هذا كله في الوقت الذي تستغرقه ورقة نشّاف في امتصاص الحبر المسكوب.

وصباح اليوم التالي، بعد أن ارتديتُ ثيابي وحفزتُ معنوياتي، مضيتُ لأرى إن كان قطار المساء قد حمل إليّ أنباءً سيئة. لم أجد خطابًا ولا برقية. قررت أن أمرّ على متاجر أحد الشوارع الرئيسية. عند طرف ذلك الشارع يقع متجر. عند دخولي وجدت نفسي في حجرة مليئة حتى السقف بالأقمشة والحليّ التافهة. لم يكن ثمة سوى مانيكانٍ عار، من القماش الأحمر، له بدل الرأس مقبضٌ أسود. صفّقتُ وعلى الفور ابتلعت الأقمشةُ الضوضاء. وخلف المانيكان ظهرت طفلة، في حوالي العاشرة، قالت لي بطريقة فظة:

ــ ماذا تريد؟

ــ صاحب المحل موجود؟

ــ لا يوجد صاحب محل. الرئيسة هي أمي.

ــ أليست موجودة؟

ــ ذهبت عند دونيا بيثنتا وسوف تعود حالًا.

ظهر طفلٌ في حوالي الثالثة. تشبّث بجونلّة أخته ولبرهة ظل المانيكان، والطفلة، والطفل في طابور. قلت:

ــ سأنتظر.

لم تردّ الطفلة. جلستُ على صندوق وشرعتُ ألعب مع الأخ الصغير. تذكرت أن معي قطعة شيكولاتة من تلك التي اشتريتها في السينما فأخرجتها من جيبي. اقترب الطفلُ بسرعة وانتزعها مني. عندها وضعت كفيّ على وجهي وتظاهرت بالبكاء منتحبًا. كانت عيناي مُغَمّاتَين وفي ظلمة تجويف يديّ فتحتُ فرجات صغيرة وبدأت أنظر إلى الطفل. ظل ينظر إليّ بلا حراك وأنا أبكي بقوةٍ متزايدة. وأخيرًا قرّر أن يضع لي قطعة الشيكولاتة على ركبتي. عندها ضحكتُ وأعطيتها له. لكنني في نفس الوقت انتبهت أن سحنتي مبتلّة.

خرجت من هناك قبل أن تأتي صاحبة المحل. وعند مروري بمحل مجوهرات نظرتُ إلى نفسي في مرآة فوجدت عينيّ جافتين. وبعد الغداء كنت في المقهى؛ لكنني رأيت الأعمى يقلّب عينيه إلى أعلى فخرجت على الفور. ثم  مضيتُ إلى ميدانٍ منعزلٍ في موقع غير مأهول وجلست على دكةٍ أمامها جدارٌ من النباتات المتسلقة. هناك فكرت في دموع الصباح. أثارت حيرتي حقيقة أنها قد سالت مني؛ وأردت أن أكون وحدي كأنني أختبئ لتشغيل لعبةٍ جعلتُها تعملُ دون قصد، منذ ساعاتٍ قليلة. كان بي بعض الخجل من نفسي لانخراطي في البكاء دون ذريعة، ولو على سبيل الدعابة، كما حدث في الصباح. قطّبت أنفي وعينيّ، ببعض الحياء لأرى إن كانت ستنسال مني الدموع؛ لكن بعدها فكرت أنني لا يجب أن أسعى إلى البكاء كمن يعتصر خرقة؛ سيتوجب عليّ أن أكرس نفسي للفعل بإخلاصٍ أكبر؛ عندها وضعتُ كفّي على سحنتي. كان بذلك الوضع شيءٌ من الجدّية؛ تحركت مشاعري بصورة غير متوقّعة؛ شعرت ببعض الأسى على نفسي وبدأت الدموع تنسال. مضت برهة وأنا أبكي حين رأيتُ ساقي امرأة ترتديان جورب «حلم» شبه لامعٍ تهبطان من أعلى الجدار. وعلى الفور لاحظت جونلّةً خضراء تختلط مع النباتات المتسلقة. لم أكن قد سمعت السلّمَ يُوضع في مكانه.كانت المرأة في درجة السلّم الأخيرة فجففتُ دموعي بسرعة؛ لكنني عاودت خفض رأسي كأنني غارقٌ في التأمل. اقتربت المرأةُ ببطء وجلست إلى جانبي. كانت قد هبطت وظهرها تجاهي فلم أدرِ كيف يبدو وجهها. وأخيرًا قالت لي:

ــ ماذا بك؟ أنا شخصٌ تستطيعُ أن تثق به…

انقضت بضع لحظات. قطّبت ما بين حاجبيّ كأنما لأخفي نفسي وأظل أنتظِر. لم أكن قد قمت أبدًا بهذه الإيماءة وارتجف جفناي. ثم حرّكت يدي كأنما لأشرع في الكلام ولم يخطر بعد بذهني ماذا يمكنني أن أقول. بادرَت هي بالحديث من جديد:

ــ تكلّم، تكلم فقط. كان لي أبناءٌ وأعرف ضروب التعاسة.

كنت قد تخيلت وجهًا لتلك المرأة وتلك الجونلّة الخضراء. لكنها حين ذكرت الأبناء وضروب التعاسة تخيّلتُ أخرى. وفي نفس الوقت قلتُ:

ــ من الضروري أن أفكر قليلًا.

فردّت:

ــ في هذه الأمور، كلما فكر المرء أكثر صار الأمرُ أسوأ.

وفجأةً شعرتُ بسقوط خرقة مبلّلة، بالقرب مني. لكنها كانت ورقة موز ضخمة مثقلة بالرطوبة. وبعد قليل عاودَت هي السؤال:

ــ قل الحقيقة، كيف حال فتاتك؟

في البداية وجدتُ الأمر مسليًا. ثم خطرت بذاكرتي خطيبةٌ كانت لي. حين كنت لا أرغبُ في مرافقتها للسير على ضفة جدول ــ كانت تتمشّى عندها مع أبيها حين كان على قيد الحياة ــ كانت خطيبتي تلك تبكي في صمت. وعندها، رغم سأمي من المضي دائما عبر نفس المكان، كنت أوافق.

وبالتفكير في ذلك خطر لي أن أقول للمرأة التي بجواري الآن:

ــ كانت امرأة تبكي كثيرًا.

وضعت هذه المرأة يديها الضخمتين والملونتين بعض الشيء فوق الجونلّة الخضراء وضحكت وهي تقول لي:

ــ حضراتكم تصدقون دائمًا دموع النساء.

فكرتُ في دموعي؛ وشعرتُ بشيء من الحيرة، نهضت من الدكة وقلت لها:

ــ أظن أن حضرتك مخطئة. لكنني أشكر لك مواساتك.

ومضيت دون أن أنظر إليها.

وفي الغد، حين تقدم النهار، دخلت واحدًا من أهم المتاجر. فرَد صاحب المتجر جواربي على منصة العرض وأخذ يربِّت عليها بأصابعه المربّعة برهة طويلة. وبدا أنه لا يسمع كلماتي. كان الشيبُ يخطُّ سوالفه كأنه ترك فيها صابون الحلاقة. في تلك اللحظات دخلت عدة نساء؛ وقبل أن يتركني، أشار إليّ أنه لن يشتري مني، بأحد تلك الأصابع التي كانت تربّت على الجوارب. ظللت ساكنًا وفكرت في الإلحاح؛ ربما استطعت الدخول في نقاشٍ معه، فيما بعد، حين ينصرف الناس؛ عندها سأحدثه عن عُشبةٍ بإذابتها في الماء يمكن أن تصبغ سوالفه. لم ينصرف الناس وانتابني نفاد صبر غير معهود؛ تمنّيتُ أن أخرج من هذا المتجر، من تلك المدينة، ومن تلك الحياة. فكرت في بلدي وفي أمورٍ كثيرة أخرى. وفجأة، حين كنت أهدّئ نفسي، خطرت لي فكرة: «ماذا يمكن أن يحدث إذا شرعتُ في البكاء هنا، أمام كل الناس؟». بدا لي ذلك أمرًا بالغ العنف؛ لكن كانت لدي رغباتٌ، منذ بعض الوقت، في اختبار العالم بفعلٍ غير معهود؛ كذلك كان يجب أن أبرهن لنفسي أنني قادرٌ على الكثير من العنف. وقبل أن أندم جلستُ على كرسي صغير مُستند على منصة العرض؛ ومحاطًا بالناس، وضعت كفيّ على سحنتي وبدأت أصدر ضجيج شهقات. وفي نفس الوقت تقريبًا أطلقت امرأةٌ صرخةً وقالت: «رجلٌ يبكي». وبعدها سمعت الضوضاء ونتفٍ من النقاش: «يا ابنتي، لا تقتربي»… «ربما تلقّى الخبر عن طريق برقية»… ومن بين أصابعي رأيت امرأةً سمينة تقول: «لا بد أن نرى حال الدنيا. إذا لم يرني أبنائي، لبكيت بدوري!». في البداية، كنت يائسًا لأن الدموع لا تسيل مني؛ وظننت حتى أنهم سيعتبرونها سخرية ويأخذوني إلى السجن. لكن الكرب والجهد الهائل الذي بذلته سبّبا لي احتقانًا وأتاحا الدمعات الأولى؛ شعرت بيدٍ ثقيلة تستقر على كتفي وحين سمعت صوت صاحب المتجر تعرفت على الأصابع التي ربّتت على الجوارب. كان يقول:

ــ لكن يا رفيق، على الرجل أن يمتلك عزيمة أكبر…

عندها نهضت كأنما بفعل زنبرك؛ أزحت يديّ عن وجهي، واليد الثالثة عن كتفي، وقلت ووجهي مازال مبتلًا:

ــ لكنني على ما يرام! ولدي الكثير من العزيمة! المسألة أنني أحيانًا ما ينتابني هذا؛ إنه مثل ذكرى…

ورغم التوقع والصمت اللذين أبدوهما لكلماتي، سمعت امرأة تقول:

ــ آي! يبكي بسبب ذكرى…

بعدها أعلن صاحب المتجر:

ــ سيداتي، انقضى كل شيء.

ابتسمتُ ومسحت وجهي. وعلى الفور تحرك جمع الناس وظهرت امرأة ضئيلة، لها عينا مجنونة، قالت لي:

ــ أنا أعرف حضرتك. يبدو أنني رأيتك في مكان آخر وكنتَ متوترًا.

فكرت أنها ربما رأتني في حفل موسيقي وأنا أنتزع نفسي في نهاية البرنامج؛ لكنني التزمت الصمت.

احتدم النقاش بين كل النساء وبدأ بعضهن في الانصراف. بقيت معي التي تعرفني. واقتربت مني أخرى قالت لي:

أنا أعرف أن حضرتك تبيع الجوارب. وبالمصادفة فإنني وبعض صديقاتي…

تدخّل صاحب المتجر:

ــ لا تشغلي بالك، يا سيدتي ( ومتوجّها نحوي): تعال بعد الظهر.

ــ سآتي بعد الغداء. هل تريد دستتين؟

ــ لا، نصف دستة ستكون…

ــ الشركة لا تبيع أقل من واحدة…

أخرجت دفتر المبيعات وبدأت أملأ فاتورة الطلب وأنا أكتب مستندًا على زجاج أحد الأبواب دون أن أقترب من صاحب المتجر. أحاطت بي نساء تتناقشن بصوت مرتفع. كنت أخشى أن يندم صاحب المتجر. وأخيرًا وقّع فاتورة الطلب وخرجتُ بين الأشخاص الآخرين.

سرعان ما عُرف أنني ينتابني «ذلك» الذي كان في البداية مثل ذكرى. بكيتُ في متاجر أخرى وبعت جوارب أكثر من المعتاد. وبعد أن بكيت في مدنٍ متعددة صارت مبيعاتي مثل مبيعات أي بائعٍ آخر.

وذات مرة استدعوني في المقر الرئيسي ــ كنت قد بكيت في كل أرجاء شمال ذلك البلد ــ كنت أنتظر دوري للتحدث مع المدير وسمعت من الغرفة القريبة ما يقوله بائعٌ متجوّل آخر:

ــ أنا أفعل كل ما أستطيع؛ لكنني لن أشرع في البكاء حتى يشتروا مني!

فأجابه الصوت الواهن للمدير:

ــ يجب عمل كل شيء؛ بما في ذلك البكاء…

فقاطعه البائع الجوّال:

ــ لكن الدموع لا تخرج مني!

وبعد فترة صمت، قال المدير:

ــ كيف، ومن قال لك؟

ــ نعم! هناك واحد يبكي بدموع غزيرة…

بدأ الصوت الواهن يضحك بجهد تقطعه فواصل سعال. بعدها سمعت دعابات وخطوات تبتعد.

وبعد فترة نادوني وجعلوني أبكي أمام المدير، ورؤساء الأقسام، وبقية المستخدمين. في البداية، حين أدخلني المدير واتضحت الأمور، ضحك بصورة مؤلمة وطفرت منه الدموع. طلب مني، بتهذيبٍ بالغ، أن أقدم عرضًا؛وما كدت أشرع حتى دخل بعض المستخدمين الذين كانوا خلف الباب. حدثت جلبة كبيرة وطلبوا مني ألاّ أبكي على الفور. ومن وراء ساتر، سمعت من يقول:

ــ أسرع، سيبكي أحد الباعة الجائلين.

ــ ولماذا؟

ــ ما أدراني!

كنتُ جالسا بجوار المدير، على مكتبه الكبير؛ واستدعوا أحد المالكين، لكنه لم يستطع المجيء. لم يصمت الفتيان وصاح أحدهم: «فكر في والدتك، بهذا تبكي أسرع».

عندها قلت للمدير:

ــ حين يلتزمون الصمت، سأبكي.

هدّدهم هو، بصوته الواهن، وبعد بضع لحظات من الصمت النسبي نظرتُ من إحدى النوافذ إلى قمة شجرة ـــ كنا في الدور الأول ــ، ووضعت كفيّ على سحنتي وحاولت البكاء. تملّكني نوعٌ من النفور. دائما عندما كنت أبكي كان الآخرون يجهلون مشاعري؛ لكن أولئك الأشخاص كانوا يعرفون أنني سأبكي وسبّب لي هذا كبتًا. وحين انسالت مني الدموع أخيرًا نزعت يدًا عن وجهي لآخذ المنديل وليروا وجهي المبتل. ضحك بعضهم وظل آخرون جادين؛ عندها حرّكت وجهي بعنف فضحك الجميع. لكنهم صمتوا على الفور وبدأوا يضحكون. أخذت أجفّف الدموع بينما يكرر الصوت الواهن: «حسن جدًا، حسنٌ جدًا». ربما خاب أمل الجميع. وشعرت أنني مثل زجاجة فارغة وقذرة؛ أردت أن أردّ، كان مزاجي معتكرا وبي رغبة في أن أكون شريرًا. عندها اقتربت من المدير وقلت له:

ــ أريد ألاّ يستخدم أي واحدٍ منهم نفس الإجراء من أجل بيع الجوارب وأودّ أن تعترف الشركة بــ… مبادرتي وتمنحني امتيازًا حصريًا لبعض الوقت.

ــ تعال غدًا وسنتحدث عن ذلك.

وفي الغد كان السكرتير قد أعد المستند وقرأ: «تلتزم الشركة بعدم استخدام وباحترام نسق الدعاية المتمثل في البكاء…». هنا ضحك الاثنان وقال المدير إن هذه الصيغة سيئة. وبينما يعيدون صياغة المستند، أخذت أتمشى حتى منصة العرض. خلفها كانت فتاةٌ حدثتني ناظرةً إلىّ وبدت عيناها مُلوّنتين من الداخل.

ــ هكذا تبكي حضرتك بمزاجك؟

ــ صحيح.

ــ إذن أنا أعرف أكثر من حضرتك. أنت نفسك لا تعرف أن لديك وجيعة.

في البداية ظللت متأملًا؛ ثم قلت لها:

ــ انظري: ليس الأمر أنني من أسعد الناس؛ لكنني أعرف كيف أتكيف مع شقائي وأكاد أكون محظوظًا.

وبينما كنت أنصرف ــ فقد ناداني المدير ــ استطعت رؤية نظرتها: كانت قد ألقتها فوقي كأنها تركت يدها على كتفي.

وحين استأنفتُ البيع، كنت في مدينة صغيرة. كان يومًا حزينًا ولم أكن أرغب في البكاء. وددت لو أنني بقيت وحيدًا، في غرفتي، أستمع إلى المطر وأفكر أن الماء يعزلني عن العالم كله. كنت أسافر متخفيًا خلف وجه دامع؛ لكن وجهي كان منهكًا.

وفجأة شعرت بأن أحدًا قد اقترب مني سائلًا:

ــ ماذا بك؟

عندها، مثل مُستخدَم ضبطوه لا يعمل، أردت استئناف مهمتي وواضعًا كفي على وجهي بدأت في إصدار الشهقات.

ذلك العام بكيتُ حتى ديسمبر، وكففتُ عن البكاء في يناير وجزءٍ من فبراير، وبدأتُ البكاء من جديد بعد الكرنفال. أفادتني تلك الراحة وعاودت البكاء برغبة. في هذه الأثناءكنت قد استغربت نجاح دموعي وتولّد فيّ نوع من الفخر بالبكاء. البائعون كثيرون؛ لكن ممثّلا يقدم شيئًا دون سابق إنذار ويقنع الجمهور بالنحيب…

ذلك العام الجديد بدأت أبكي في الغرب ووصلت إلى مدينة كانت حفلاتي الموسيقية قد لاقت فيها نجاحًا؛ وفي ثاني مرة لي هناك، كان الجمهور قد استقبلني بتصفيق شغوفٍ وممتدّ؛ كنت أظهر امتناني واقفًا بجوار البيانو ولا يدعونني أجلس لأبدأ الحفل الموسيقي. ومن المؤكد أنني يمكن أن أقدم الآن حفلًا واحدًا، على الأقل. بكيت هناك، للمرة الأولى، في أفخم فندق؛ كانت ساعة الغداء في يوم مشرق. كنت قد أكلت وتناولت قهوة، حين غطيت وجهي بيديّ، ومِرفقيّ على المائدة. وبعد لحظات قليلة اقترب بعض أصدقاءٍ كنت قد حيّيتهم؛ تركتهم وافقين لبرهة وفي هذه الأثناء، جلست عجوزٌ بائسة ــ لا أدري من أين جاءت ــ إلى مائدتي وأخذت أنظر إليها من بين أصابعي المبتلة فعلًا. نكّسَتْ رأسها ولم تقل شيئًا؛ لكن وجهها كان حزينًا إلى درجة تبعث الرغبة في البكاء…

يوم أن قدمتُ حفلي الموسيقي الأول كنت أشعر ببعض العصبية بحيث داهمني الإجهاد؛كنت في آخر عمل من جزء البرنامج الأول وعزفت إحدى الحركات بسرعة مفرطة؛ حاولت أن أتمالك؛ لكنني فقدت مهارتي ولم يسعفني التوازن الكافي ولا القوة؛ ولم يعد أمامي سوى الاستمرار؛ لكن يداي تعبتا، وفقدت الدقة، وانتبهت إلى أنني لن أبلغ الختام. عندها، وقبل أن أفكر، نزعتُ يديّ من لوحة المفاتيح ووضعتهما على وجهي؛ وكانت أول مرة أبكي على المسرح.

في البداية علت همهمات الدهشة ولا أدري لماذا حاول شخصٌ التصفيق، لكن الآخرين تهكّموا فنهضت. حجبت عينيّ يإحدى يديّ وبالأخرى تحسّست البيانو وحاولت الخروج من المشهد. صرخت بعض النساء لاعتقادهن أنني سأسقط في الصالة وكنت في سبيلي إلى عبور بابٍ في الديكور، حين صرخ فيّ شخص، من الشرفة العليا:

ــ تمسسسااااح!!

سمعتُ ضحكات؛ لكنني مضيتُ إلى غرفة الممثلين، غسلت وجهي ثم ظهرت على الفور وبيدين منتعشتين أنهيت الجزء الأول. وفي النهاية أتى لتحيتي أشخاصٌ كثيرون وجرى التعليق على موضوع «تمساح». فقلت لهم:

ــ يبدو لي أن من صرخ فيَّ بذلك على حق: أنا في الحقيقة لا أدري لماذا أبكي؛ يجتاحني البكاء ولا أستطيع شفاءه، الأرجح أنه طبيعيٌ تماما بالنسبة لي مثلما بالنسبة للتمساح. وفي النهاية، لا أدري أيضا لماذا يبكي التمساح.

كان لأحد الأشخاص الذين قدّموني رأسٌ مستطيلة؛ ولما كان يمشِّط شعره تاركًا الشعر واقفًا، كانت رأسه تثير التفكير في فرشاة الشعر. أشار إليه آخر من الدائرة وقال لي:

ــ هذا الصديق، هنا، طبيب. ماذا تقول حضرتك، يا دكتور؟

صرتُ شاحبًا. نظر إليّ بعيني مُحقِّق بوليسي وسألني:

ــ قل لي شيئًا واحدًا: متى تبكي حضرتك أكثر، بالنهار أم بالليل؟

تذكرت أنني لم أبك أبدًا بالليل لأنني لا أبيع في ذلك الوقت، فأجبته:

ــ أبكي بالنهار فقط.

لا أتذكر الأسئلة الأخرى. لكنه نصحني في النهاية:

ــ لا تأكل اللحم. فلدى حضرتك تسمُّمٌ قديم.

بعد أيام قلائل أقاموا لي احتفالًا في النادي الرئيسي. استأجرت بذلة فراك بصديري أبيض لا تشوبه شائبة ولحظة أن نظرت إلى نفسي في المرآة فكرت: «لن يقولوا إن بطن هذا التمساح ليست بيضاء. مرحى! أظن أن لهذا الحيوان لُغدٌ مثل لغدي. وهو شرِهٌ…».

عند وصولي إلى النادي صادفت قلّة من الناس. فانتبهت أنني وصلتُ مبكرًا أكثر مما يجب. رأيت سيدًا من اللجنة فقلت له إنني أريد العمل قليلًا على البيانو. بهذه الطريقة أخفي تبكيري. عبرنا ستارة خضراء فوجدت نفسي في صالة خاوية ومجهّزة للرقص. وفي مواجهة الستارة وعلى الطرف الآخر من الصالة كان البيانو. اصطحبني إلى هناك السيدُ من اللجنة والبواب؛ وبينما يفتحان البيانو ــ كان للسيد حاجبان أسودان وشعرٌ أبيض ــ قال لي إن الاحتفال سينال الكثير من النجاح، وأن مدير الليسيه ــ صديقي ــ سيُلقي خطابًا جميلًا جدًا وأنه قد سمعه بالفعل؛ حاول تذكّر بعض العبارات، لكنه قرّر بعدها أن من الأفضل ألاّ يقول لي شيئًا. وضعت يدي على البيانو وانصرفا. وبينما أعزف فكرت: «هذه الليلة لن أبكي… سيكون أمرًا قبيحًا جدًا… يستطيع مدير الليسيه أن يتمنى أن أبكي لإظهار نجاح خطبته. لكنني لن أبكي مقابل أي شيء في العالم».

مرّت برهة وأنا أري الستارة الخضراء تتحرك؛ وفجأة ظهرت من بين طياتها فتاةٌ طويلة ذات شعر مفكوك؛ زرَّرت عينيها كأنما لتنظر لبعيد؛ أخذت تنظرُ إليّ وتتجه صوبي حاملة شيئًا في إحدى يديها؛ وخلفها ظهرت خادمةٌ لحِقت بها وبدأت تحدثها عن قرب. انتهزت أنا الفرصة لأنظر إلى ساقيها وانتبهت أنها ترتدي فردة جورب واحدة؛ وفي كل لحظة كانت تقوم بحركات تشير إلى نهاية النقاش؛ لكن الخادمة استمرت تحدثها وتعودان إلى الموضوع كأنما إلى قطعة حلوى. واصلت أنا العزف على البيانو وبينما تتحادثان أتيح لي الوقت للتفكير: «ماذا تريد بفردة الجورب؟.. أتكون قد وجدتها سيئة ولمعرفتها أنني بائع متجول…؟ وفي هذا الوقت المتأخر في هذا الحفل!»

وأخيرًا أتت وقالت لي:

ــ آسفة، يا سيدي، وددت لو وقّعت لي على فردة جورب.

في البداية ضحكتُ؛ وعلى الفور حاولت التحدث معها كأن الناس قد طلبوا مني هذا الطلب في مراتٍ أخرى. بدأت أشرح لها كيف أن فردة الجورب لا تتحمَّل القلم الحبر؛ وأنني قد حللت هذه المشكلة بالتوقيع على بطاقة لاصقةٍ وبعدها تلصقها من يهمُّها الأمر على فردة الجورب. لكنني بينما أقدّم هذه التوضيحات أظهرتُ خبرة تاجرٍ قديم تحوّل بعدها إلى عازف بيانو. وبدأ القلق يغزوني، حين جلسَتْ هي على مقعد البيانو، وقالت لي وهي ترتدي فردة الجورب:

ــ يؤسفني أن أكتشف أن حضرتك كذّاب كبير … كان يجب أن تشكرني على الفكرة.

كنت قد ثبّتُّ عيني على ساقيها؛ ثم انتزعتهما وتشوّشت أفكاري. ساد صمتٌ كريه. برأسٍ مائلة، تركت شعرها ينسدل؛ وتحت تلك الستارة الشقراء، تحركت يداها كأنهما تهربان. ظللتُ صامتا وبدا أنها لن تنتهي أبدًا. وفي النهاية قامت الساقُ بحركة رقص، وارتدت القدمُ، على طرف أصابعها، الحذاءَ في لحظة نهوضها، ضمّت اليدان الشعرَ وحيتني تحيةً صامتة ومضت.

حين بدأ الناس يدخلون مضيتُ إلى البار. خطر لي أن أطلب ويسكي. ذكر لي البارمان أسماء ماركات عديدة ولما كنت لا أعرف أيّها قلت له:

ــ أعطني من هذه الأخيرة.

اعتليتُ أحد مقاعد البار وحاولت ألاّ أكرمش ذيل الفراك. بدل التمساحِ لا بد أنني بدوتُ ببغاءً أسود. كنت صامتًا، أفكر في فتاة الجورب وأزعجني تذكر يديها المتعجلتين.

شعرت بأن مدير الليسيه يقودني إلى الصالون. توقّف الرقصُ للحظة وألقي خطابه. نطق عدة مرات كلمتي «تقلبات» و«واجب». وحين صفّقوا رفعت ذراعيّ كقائد أوركسترا قبل أن «ينقضّ» وما أن صمتوا حتى قلت:

ــ الأن حين يجب البكاء لا أستطيع. كذلك لا أستطيع الكلام ولا يمكنني أن أترك من اجتمعوا للرقص منفصلين وقتًا أطول ــ. وأنهيت بمجاملة.

بعد جولتي، عانقتُ مديرَ الليسيه ومن فوق كتفه رأيت فتاة الجورب. ابتسمت لي ورفعت جونلتها من الجانب الأيسر وفرّجتني على موضع فردة الجورب حيث لصقَت صورةً شخصية صغيرة لي قصّته من برنامج. شعرتُ أنني ممتلئٌ بالبهجة لكنني قلت حماقةً كرّرها الجميع:

ــ حسنٌ جدًا، حسن جدًا، ساقُ القلبِ.

ورغم ذلك شعرت أنني محظوظ ومضيت إلى البار. اعتليتُ مقعدًا من جديد وسألني البارمان:

ــ ويسكي الحصان الأبيض؟

وأنا، بحركة فارسٍ يستلُّ سيفًا:

ــ الحصان الأبيض أو الببغاء الأسود.

وبعد قليل جاء فتى يُخفي يدًا خلف ظهره:

ــ قال لي البدين إن حضرتك لا يسيئك أن يطلقوا عليك «تمساح».

ــ صحيح، يعجبني.

عندها أخرج يده من خلف ظهره وفرَّجني على رسم كاريكاتوري. كان تمساحًا ضخما شديدَ الشبه بي؛ له يدٌ صغيرة في فمه، حيث أسنانهُ لوحةُ مفاتيح؛ومن يده الأخرى تتدلى فردة جورب؛ عليها تجفُّ الدموع.

حين أوصلني الأصدقاء إلى فندقي فكرت في كل ما بكيتُه في ذلك البلد وشعرت بمتعةٍ خبيثة لأنني خدعتُهم؛ اعتبرت نفسي بورجوازيًا للعذاب. لكن حين أصبحتُ وحيدًا في غرفتي، خطر لي شيءٌ غير متوقع: أولًا نظرتُ إلى نفسي في المرآة؛كان الرسم الكاريكاتوري في يدي وأخذت أنظر بالتبادل إلى التمساح وإلى وجهي. وفجأةً ودون أن أقترح على نفسي تقليد التمساح، شرعت سحنتي تبكي، من تلقاء ذاتها. أخذت أنظر إليها مثلما إلى أختٍ كنتُ أجهلُ شقاءَها. كان بها تجاعيدٌ جديدة ومن بينها انسابت الدموع. أطفأتُ النور واستلقيت في الفراش. ظلت سحنتي تبكي؛ كانت الدموع تنزلق على الأنف وتسقط على الوسادة. وهكذا نمت. وحين استيقظتُ أحسستُ حرقةَ الدموع التي جفت. أردتُ أن أنهض وأغسل عينيّ؛ لكنني خِفت أن تشرع السحنة في البكاء من جديد. ظللتُ هادئا وجعلت عينيّ تدوران في الظلمة، مثل ذلك الأعمى الذي يعزف القيثارة.