روما.. في يوم غير محدد من سبتمبر 1976

لويجي سيرافيني*

(مقدمة نسخة 2013 من مخطوطة سيرافيني)

ترجم النص عن الإنجليزية: محمود راضي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

لويجي سيرافيني
لويجي سيرافيني، عن alchetron

*في عام 1981، نشر الفنان والمهندس اﻹيطالي لويجي سيرافيني (1949) كتابه الشهير «مخطوطة سيرافيني» الذي يعد بمثابة موسوعة مصورة عن عالم مُتخيل، مليئة برسوم فائقة السريالية، مصحوبة بلغة غريبة غير مفهومة، مما دعا الكثيرين لاعتباره واحدًا من أغرب الكتب التي عرفها التاريخ، لكنه في المقابل اكتسب كثيرًا من المحبين الذين حاولوا قدر جهدهم فك شفرة اللغة التي كُتب بها هذا الكتاب.

وبعد 32 عامًا من صدور الكتاب والجدل الذي صاحبه، صدرت طبعة جديدة من الكتاب، وقرر لويجي سيرافيني أن يضيف إليها مقدمة جديدة تحدث من خلالها عن أفكاره بخصوص هذا الكتاب، والظروف التي رافقت رحلته معه، والتي يدخلنا منها إلى أحوال روما وقتئذ.

(المترجم)


كنت في السابعة والعشرين من عمري، أستخدم أقلامًا رصاصًا ملونة وكراسة رسم كي أرسم بضعة أجساد بشرية مهجنة بأطراف صناعية على هيئة مخالب وعجلة دراجة وقلم حبر، كما لو كنت في مدرسة لرسم اﻷجساد اﻵلية العارية في أكاديمية للفنون الفضائية الجميلة. رسمت الصور من خلال ما يشابه التصانيف البيولوجية، وتفتق ذهني في نقطة ما أنّي في حاجة لشيء من جنس الكتابة كي أكمل رسومي التي باتت مماثلة على نحو متزايد لصفحة من أطلس في التشريح المقارن، لكن أية شروحات يمكنني إضافتها إليها؟ والسؤال اﻷهم، بأية لغة؟ نعلم جميعًا أن الدمج بين نص وصورة يوّلد ما يشبه المعنى، حتى لو لم نفهم هذا أو ذاك. ألا تتذكرون حينما كنا صغارًا كيف كنا نتصفح الكتب المليئة بالصور، ونتظاهر أننا نستطيع القراءة أمام اﻷطفال اﻷكبر سنًا منا، ونبحر في الخيالات حول الصور التي رأيناها هناك؟ فكرت مليًا، من يعلم فربما يمكن لكتابة غريبة غير مفهومة أن تحررنا من جديد، ونختبر تلك اﻷحاسيس الطفولية الغائمة. في التو، بدا لي البحث عن تلك اﻷبجدية الجديدة أكثر أمر عاجل وجب إنجازه. كان عليّ بالفعل أن ابتكر أبجدية تتناسب مع يدي.

لذا بدأت خربشة خطوط تتلوى وتتقوس في هيئة زينات وزخرفات. واستخلصت على مهل من خلال هذه التشابكات الحبرية خطًا يدويًا مكتملًا مع حروف صغيرة وكبيرة وعلامات ترقيم ونبرات. كان خطًا يحوي حلم الكثير من أنواع الخطوط اﻷخرى.

واصلت الرسم، وأنهيت تقريبًا عن غير قصد أول رقاقة من المخطوطة، مكتشفًا في طريقة كتابتي الجديدة عفوية رائعة كان ليقدرها السرياليون.

ذات ساعة أصيل، مر علي جورجيو، صديق من الكُلية، حاملًا معه بضعة أفكار لتمضية الليلة بالخارج، أخبرته وأنا ضائع في أفكاري أني لن استطيع الانضمام إليه لانشغالي في العمل على موسوعة، كانت لحظة استنارة.

يومًا بعد يوم، كنت أنسل داخل حذاء نساخ معتزل في حجرة النسخ في إحدى اﻷديرة مع مجلدات ﻷرسطو وأفلاطون كي تُنسخ على مكتبي. ستدوم هذه الحالة من الحمى قرابة الثلاث سنوات. تعاونت بشكل عارض مع عدد من المهندسين المعماريين لتدبير أحوالي المالية، وبسبب العمل الذي أنجزته لصالحهم، فقد أفسدت الدقة المضنية للرسم التقني وعمق أثر الحبر الهندي رقائق مخطوطتي.

كانت غرفتي المخصصة للنسخ تقع في الدور العلوي من رقم 30 في شارع سانت أندريا ديل فراتي، ليس ببعيد عن ميدان بيازا دي إسبانيا، في عمارة متقادمة بُليت درجاتها البيبيرونية[1] بعد قرون من الاستخدام. كان رواق كنيسة سانت أندريا ديلي فراتي مع أشجار السرو والبرتقال على مرمى حجر. تمركز حوض في المنتصف، وفيه سمكة ذهبية سمينة عديمة الحركة تقريبًا، وتكوين حجري ما مغطى بطحالب وسراخس تنز قطرات من الماء. يقع المنزل الذي عاش فيه بيرنيني[2] في الملتقى بين فيا ديل ميرشيدي وفيا دي بروباجاندا، وعلى مقربة من الباب اﻷمامي، صار على تمثاله الرخامي الرائع أن ينتصب في حضور تحفتين فنيتين ماثلتين لمنافسه اﻷبدي بوروميني[3] على بعد بضعة خطوات.

ربما يبدو أمرًا عصيًا على التصديق اليوم، لكن كانت هذه هى السنوات اﻷخيرة التي ما زالت فيها روما ذات الشُعاب الثلاثية[4] مماثلة للمدينة التي شهدها الرومانتيكيون في جولاتهم الكبرى[5]، وكذلك المنازل التي عاش فيها كيتس وجوته، وتبدو كأنها في انتظار عودتهم. في الصباح يغني صبية المخابز بينما يتمايلون على دراجاتهم مع أقفاص الخبز الطازج الجاهز للتوصيل. كان فراسكاتي هو صنف النبيذ الوحيد الذي يقدم في التراتوريات[6]، بينما ظلت غرفة بابنتون للشاي هى العلامة الفريدة الوحيدة وراء خمس نخلات فائقة الطول. لقد ناضلت تلك المسماة بـ «الحياة العصرية» في سبيل اختراق اﻷزقة والساحات، بينما التهمت مجموعات القطط الضخمة تلك البواقي التي قد يلقيها شخص ما من النافذة في كل وقت وحين. كان دي شيريكو[7] يرسم آخر شموسه الغربية حيث زحفت أشعاتها المتعرجة عبر باب مرسمه الخشبي في بيازا دي اسبانيا، بينما يعود فيلليني في المساء واضعًا يديه في جيوبه نحو منزله في فيا مارجوتا بعد يوم طويل عصيب في شينشيتا[8].

لكن الظلام كان يزحف أيضًا على اﻷركاديا. منذ عام مضى قُتل بازوليني، وتكاثفت السُحب المترسبة لبعض الوقت في الجو الكابيتوليني المُحكم، نذير شؤم للهلاك المحتوم.

كانت غرفتي المخصصة للنسخ ذات شرفة صغيرة على مقربة من صهاريج المياه المصنوعة من اﻷسمنت الليفي، ومن هناك استطعت رؤية أشجار الصنوبر الثَمري في فيلا ميديتشي من بعيد. بينما يحل الغسق، تهبط الحمائم على المتراس المتقشر لتقتات على فتات الخبز الذي أقدمه لهم بسخاء. في المقابل أتلقى أخبار الصباح من خلال الهديل ورفرفة اﻷجنحة التي أفلحت في فهمها، والفضل يعود لتعاليم جدتي الأُمْبْرِيَّة التي تعرف لغتهم[9]. بالنسبة للطعام، كنت أعيش على بيتزا المارجريتا أو الكابريشوزا مع بيض مسلوق، والتي كنت أتناولها في مطعم بيتزا في فيا ديل ليونشينو.

ذات ليلة، وأنا في طريقي إلى المنزل عقب العشاء، لقيت قطة بيضاء تموء وتطوف عبر المتلقى بين فيا كوندوتي وفيا بيلسيانا. بدت كأنها ضالة، لذا اصطحبتها معي إلى المنزل وعشنا سوية حتى أتممت المخطوطة.

كنت أقضي أغلب وقتي أرسم الصفحات المستقبلية من كتابي، جالسًا على طاولة منبسطة على مسند خشبي مع نافذتين أمامها. كانت القطة تستغل ذلك كي تتسلق على أكتافي، وتأوى هناك وهى تخرخر، ثم تغط في النوم، وذيلها متدل على صدري، من جهة اليمين أحيانًا، ومن جهة اليسار أحيانًا أخرى، متحركًا من حين إلى حين وفق ما تحلم به.

تصادف لاحقًا بعد سنوات عديدة أني قرأت قصيدة بوشكين (رسلان ولودميلا). يصف الشاعر في المفتتح قط متعلم يمشي بمحاذاة سلسلة ذهبية متدلية من شجرة بلوط. لو تمهل في سيره نحو اليسار، فسوف يروي حكاية خرافية، وإن تمهل في سيره نحو اليمين، فسوف ينشد أغنية. لاحظت في هذه اﻷبيات الشعرية بعض التشابهات اللافتة للنظر مع قطتي، وتساءلت إذا لم تنقل لي صدفة أغنياتها وحكاياتها الخرافية بينما تقبع دون حراك فوق أكتافي، في تواصل مع غدتي النخامية، ومن الواضح أنها كانت أغنيات وحكايات خرافية ظننت أنها من صميم خيالاتي، فكيف أعلل رسومي الكثيرة في زمن قصير جدًا، رغم أني لاحظت أن كل هذا قد يبدو غريبًا.

وختامًا، وبناء على الخواطر المذكورة أعلاه، وأفكار أخرى سأنحيها جانبًا لاعتبارات شخصية، عليّ الاعتراف أن المؤلف الحقيقي للمخطوطة هي القطة البيضاء وليس أنا، رغم أني أقنعت نفسي على الدوام بكوني المؤلف، بينما أنا بالكاد منفذها اليدوي.

ولدواعي حقوق الملكية، بما أني لم أفلح في تسجيل الاعتراف الحالي قبل اﻵن. أغتنم الفرصة بإذن من ناشري للتعبير عن خالص امتناني إلى قطتي في ذكراها.

لويجي سيرافيني

روما، 3 يوليو 2013، 12:30:00 ظهرًا


[1]  حجارة ذات لون بني أو رمادي، تتكون في اﻷساس من رماد بركاني متماسك.

[2] جان لورينزو بيرنيني (1598-1680): نحات إيطالي، له العديد من اﻷعمال المتواجدة حتى اﻵن في الفاتيكان وروما.

[3] فرانشيسكو بوروميني (1599-1667): مهندس معماري إيطالي، يعد من أبرز اﻷسماء وراء اﻷسلوب الباروكي.

[4] إشارة إلى شبكة الطرق التي تشكلها ثلاثة شوارع مستقيمة في العاصمة اﻹيطالية روما، والتي تحيد بدءًا من بيازا ديل بوبولو وتتشعب مع التوغل جنوبًا، حيث تتخذ شبكة الطرق شكل رمح ثلاثي.

[5]  إشارة إلى رحلة اعتاد القيام بها شباب اﻷوروبيين الأثرياء عبر القارة اﻷوروبية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر.

[6]  شكل من أشكال المطاعم التي تُعرف بها إيطاليا، ذات طابع أقل رسمية من المطاعم التقليدية، وبدون وجود قائمة للطعام، مع الاعتماد على وجبات محلية في اﻷغلب، وتتميز على الدوام بأسعارها المنخفضة.

[7]  جورجيو دي شيريكو (1888-1978): فنان تشكيلي إيطالي، من أبرز فناني الحركة السريالية وحركة الفن الميتافيزيقي.

[8]  من أعرق الاستوديوهات السينمائية في إيطاليا، حتى باتت واحدة من أبرز معالم العاصمة اﻹيطالية روما، تأسست في عام 1937.

[9]  نسبة إلى مقاطعة أمبربا التي تبعد 200 كلم عن العاصمة روما.