إيه هي الثقافة؟
مقال لشهاب الخشاب
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
***
إيه هي الثقافة الجادة؟ من وأنا نونو صغير بسمع المناقشات الطويلة العريضة بين الأصدقاء المثقفين (بجد) عن حالة الثقافة (الجادة) في مصر. المناقشة دايمًا بتدور في إطار مشاكل الثقافة، وأزمة الثقافة، ومستقبل الثقافة. وكأن الثقافة دي خالتي اللي لازم نناقش ظروفها ومشاكلها في قعدة نميمة مستمرة. وكأن الثقافة لها تعريف واضح وصريح وفيه إجماع حواليه. طبعًا فيه إجماع حوالين إن الثقافة (الجادة) حاجة كويسة، وإن الناس التانيين (دول مش مننا) بتسهتر بيها، يا إما في إنتاج ثقافة هايفة، يا إما في قمع الإنتاج الثقافي الجاد. قمع ديني، قمع ذكوري، قمع بوليسي – المهم إن الثقافة الجادة مش واخدة فرصتها.
طبعاً في النقاشات دي، محدش بياخد باله من إن تعريف «الثقافة الجادة» بيختلف بين الشلة والتانية: بين اللي شايف إن علاء الأسواني هو الثقافة الجادة، أو نجيب محفوظ هو الثقافة الجادة، أو إدوار الخراط هو الثقافة الجادة. أو اللي شايف إن ولا واحد فيهم جاد، أو إن كلهم جادين ومحترمين. المهم مش بس مضمون الثقافة الجادة وإنما الحكم عليها، واختيار الحد الحاسم بين الجاد والهايف؛ بين اللي يستاهل واللي ما يستاهلش. رغم الاختلافات دي، بيفضل سؤال قائم: إيه تعريف «الثقافة» اللي الناس بتقول عليه جاد أو هايف؟ المفروض لو عايزين نعرف إيه هي الثقافة الجادة، لازم نعرف إيه هي الثقافة من أساسه.
في كتاب عنوانه «الثقافة: مراجعة نقدية للمفاهيم والتعريفات»، علماء الإنسان كلايد كلوكهون (Clyde Kluckhohn) وألفريد كروبر (Alfred Kroeber) رصدوا فوق الـ150 تعريف لكلمة «الثقافة» وده كان سنة 1952. يا عالِم ممكن يوصلوا لكام النهارده. وده كان بالانجليزي بس، ما بالك بمعاني المصطلح باللغات التانية. بالتالي إذا قعدنا نرصد كل التعريفات الممكنة والمش ممكنة للثقافة في المقال ده، هناخد في الغالب مساحة الموقع بحاله. لذلك هاركِّز في خمس تعريفات شائعة للمصطلح هنا، عشان نفككه ونمزمز فيه براحتنا.
في التعريف الأول، الثقافة هي الحضارة[1]، هي العمران، هي التطور البشري العظيم العريق اللي خرَّجنا من مرحلة الخيل والليل والبيداء لمرحلة السيف والرمح والقلم. الثقافة بالمعنى ده هي الأسس الحضارية اللي بتسمح ببناء الإنسان، بغض النظر عن الاختلافات بين المجتمعات البشرية وتواريخها. الثقافة واحدة في الإنسانية كلها، وكلنا لازم نمشي في نفس الخط الحضاري عشان نرتقي في الإنسانية.
المفهوم ده للثقافة مرتبط بصعود نماذج فكرية متمركزة في أوروبا وأمريكا، وبتزعم إن العالم الثالث النامي المتخلف لازم يلاحق العالم الأول المتطور المتقدم عشان يبقى كويس وسعيد. بعيدًا عن تاريخ الصراعات الدولية والاستعمار والإمبريالية التوسعية[2]، الثقافة الجادة بالمعيار الحضاري عبارة عن ثقافة مثالية. الثقافة دي مالهاش وجود إلا في دماغ الناس الموهومة بنماذج مثالية عن الحضارة، بعيدًا عن العوامل الموضوعية اللي بتسمح بتحرر الإنسان من الفقر والجهل والطغيان.
في تعريف تاني، الثقافة عبارة عن الصمغ اللي بيضُم المجتمع ببعضه، هي الدم اللي بيروي شرايين المجتمع والروح اللي بتحييه[3]. الثقافة هنا ما بتجمعش الإنسانية بحالها، ولكنها خاصة بكل مجتمع لوحده. في التعريف ده، المجتمع عبارة عن جسم والثقافة عبارة عن عقل. الاتنين لهم بنية موضوعية نقدر نشوفها ونرصدها وندرسها، والاتنين عندهم وظيفة محددة في إعادة إنتاج الحياة البشرية. الرؤية دي للثقافة، زي أي رؤية بنيوية وظيفية، بتشوف إن المجتمع ما وراهوش حاجة إلا إنه يعيد إنتاج نفسه، ويعتني بذاته، وأي دور للثقافة في المجتمع ده مقتصر فقط على إنها تعيِّشه بشكل مستقل ومستقر.
يعني زي التعريف الحضاري، التعريف البنيوي الوظيفي بيحصر الثقافة في نقطة مثالية ومعادية للتاريخ. مثالية أولًا لأنها بتفترض إن المجتمع الواحد له ثقافة واحدة بس، سارية على الشعب بحاله بغض النظر عن الاختلافات والصراعات بين فئات المجتمع. ومعادية للتاريخ ثانيًا لأنها بتعتبر إن الثقافة لازم تعيد إنتاج المجتمع، والإنتاج الثقافي اللي ما بيعملش كده بيبقى مضر للجسم الاجتماعي. في الرؤية دي، أي تغيُّر بيجي يدربِك المجتمع، أي ثورات كبرى، مش ممكن يحصل إلا إذا هدد الثقافة، لأن الثقافة مرتبطة باستمرار الوضع القائم إلى الأبد
في تعريف تالت، الثقافة عبارة عن مجموعة رموز معروفة وواضحة للناس كلها، والناس متمسكة بها، زي ختم النسر والعَلَم والنشيد الوطني. الرموز دي مرتبطة ببعض في شبكة متشبِّكة، لازم نفكها عشان نقدر نفهمها. كلما فهمنا الرموز، كلما فهمنا الثقافة. الثقافة الجادة في الرؤية دي هي الثقافة اللي عندها شبكة رموز قوية ومعقدة، وبتربط الناس ببعضها، والعالِمة الشاطرة هي اللي تقدر تفك الرموز دي عن بعضها وتأوِّلها تأويل صحيح. التعريف الرمزي للثقافة كان شائع في علوم الإنسان في الستينات والسبعينات[4]، ولكن كان قدامه مشاكل زي كل التعريفات السابقة.
اتضح إننا ما نقدرش نحصر الثقافة في العالم الرمزي لأن مش كل الناس تقدر تفهم وتأوِّل الرموز زي بعض. بالتالي ما نقدرش نعتبر إن كل الناس عندها نفس «الثقافة» بالمعنى الرمزي. فمثلًا فيه فرق بين الناس اللي حافظة النشيد الوطني والناس اللي مقتنعة بكلامه والناس اللي مش حافظاه ولا فاهماه. ممكن المثقف الجاد يتعالى ويعتبر إن ده نقص ثقافي، ولكن كذلك فيه بعض الرموز اللي الناس المش مثقفة بتفهمها وتقدر تأوِّلها أكتر من المثقف نفسه. بالتالي ربط الثقافة الجادة بقدرة تأويل الرموز بيحط المحلل قدام تناقض بين فكرة نظرية عن الثقافة وواقعها العملي، بين تفكيك الرموز في المطلق وفي خبرة الناس الفعلية.
في تعريف رابع، الثقافة هي جميع المعلومات والتصورات العلمية والفنية اللي الإنسان لازم يُلِم بيها عشان يتقال عليه «مثقّف». الثقافة بالمعنى ده شيء نخبوي وذاتي في نفس الوقت، نخبوي لأنه مقتصر على معرفة بعض العلوم والفنون، وذاتي لأن الإنسان بيكتسبه حسب قدراته الشخصية. كلما الإنسان اكتسب من الثقافة، كلما بقى مثقف. والثقافة الجادة هي الثقافة اللي المثقف الجاد بيتثقف بيها. طبعًا بعيدًا عن اللف والدوران اللغوي، التعريف ده للثقافة عمره ما بيوضَّح مضمون الثقافة الجادة، ولا بيوضَّح المعايير الموضوعية اللي ممكن تفرَّق بين الثقافة الجادة والثقافة الهزلية. المضمون والمعايير دي بتتغير حسب نوع المثقف اللي الواحد بيكلمه والظرف التاريخي اللي بتتواجد فيه الثقافة دي.
في تعريف خامس (وأخير)، الثقافة عبارة عن أرض من أراضي المعركة السياسية والاقتصادية والتاريخية اللي دايرة بين التشكيلات والطبقات الاجتماعية. الثقافة بالمعنى ده مالهاش تعريف بره الصراع الاجتماعي، لأنها بتتحوِّل طول الوقت حسب مسيرة التاريخ. التعريف ده للثقافة اتطور في كتابات مجموعة منظرين بريطانيين ماركسيين زي ريموند ويليامز (Raymond Williams) وستيوارت هول (Stuart Hall)، اللي خلقوا مجال بحاله اسمه «الدراسات الثقافية» (cultural studies). المجال ده بيعتني بدراسة الثقافة الجادة والثقافة الشعبية، مش عشان فيه فرق موضوعي بين الإتنين، وإنما عشان الفرق بينهم ناتج عن صراع اجتماعي بيحدد الفروق دي.
بالتالي الثقافة اللي الواحد ممكن يعتبرها راقية في زمننا غير الثقافة الراقية في زمن آخر، لأن الصراع على تحديد المفردات دي مرتبط بتغيرات المجتمع عامةً. فمثلًا أغاني عبد الحليم حافظ كانت بتُعتبر شعبية وسهلة في زمنه، وخاصةً بالمقارنة بقامات زي أم كلثوم وعبد الوهاب، ولكن دلوقتي أغاني عبد الحليم بقت تمثِّل «الزمن الجميل» والثقافة الراقية اللي الناس العالية بتحتفي بها. التغيُر في النظرة إلى عبد الحليم بيكشف إن مضمون الثقافة الجادة - أو بشكل أدق، الفرق بين الجاد واللي مش جاد في الثقافة – بيتغير مع مرور الزمن وحسب طبيعة الصراع الاجتماعي والسياسي. في الرؤية دي، الفرق القاطع بين الثقافة والسياسة والاقتصاد مش فرق طبيعي وبديهي، وإنما هو نتيجة صراع تاريخي أدَّى للتفرقات دي
يعني ببساطة ما نقدرش نحدد تعريف قاطع للـ«ثقافة الجادة»، أولًا لأن مفيش تعريف موضوعي واحد ووحيد للثقافة في العموم، وثانيًا لأن تعريف الثقافة الجادة بيختلف بين الناس وبعض، بين الأزمنة وبعض، بين فئات المجتمع وبعض. فكرة إن كل الثقافات الجادة جواها جوهر ثقافي خالد فكرة سلطوية في أساسها، لأنها بتمسح أثر التعريفات التانية للثقافة عشان تسيطر وتنتصر، وبتفترض إنها الثقافة الجادة الوحيدة بشكل متجمِّد في الزمن وفي المكان. السيطرة دي مش مجرَّد فكرية، وإنما بتتم كمان بشكل منهجي ومؤسسي: في المدارس وفي الجامعات وفي الإعلام وفي وزارة الثقافة إلخ… المؤسسات دي بتفرَّق بشكل حاد بين «الجاد» و«الهايف» بدون ما تفكَّر في الظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي اللي سمح بوجود التفرقة دي.
بالتالي مفيش حاجة اسمها «ثقافة جادة» في المطلق، واللي بيدَّعي إنه «مثقف جاد» ما يقدرش يبقى مثقف بجد إذا ما فكرَّش بجدوى في معنى الثقافة.
[1] راجع كتابات لوسيان فيڤر (Lucien Febvre) ونوربير إلياس (Norbert Elias).
التوسعية من التوسع والإمبريالية من الأمبرة. [2]
[3] راجع كتابات إيميل دوركهايم (Émile Durkheim) وبرونيسلاڤ مالينوڤسكي (Bronislaw Malinowski) مثلًا.
[4] راجع كتابات ڤيكتور ترنر (Victor Turner) وكليفورد جيرتز (Clifford Geertz) وشيري أورتنر (Sherry Ortner) مثلًا.