الفصل الأخير من تاريخ العالم

جورجيو أجامبن

ترجمه عن الإنجليزية: سامح سمير

عن كتاب Nudities 

ترجمه للإنجليزية ديفيد كيشيك David Kishik وستيفان بيداتيلا Stefan Pedatella

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

جورجيو أجامبن، عن egs.edu

في الدمية، أو في الرب.
(مسرح العرائس، هاينريش فون كلايست)

الطرق التي نجهل بها الأشياء لا تقل أهمية (إن لم تزد ربما) عن الطرق التي نعرفها بها. وفي حين أنه ثمة طرق للجهل بالأشياء (مثل الغفلة، أو السهو أو النسيان) تقود إلى الحماقة والقبح. فإن ثمة طرق أخرى (مثل التلقائية وعدم التركيز على الذات كما نجدها في شخصية الشاب لدى فون كلايست[1]، أو «اللامبالاة الفاتنة» لدى الأطفال) لا نمل أبدًا من الإعجاب بكمالها وروعتها. والكبت، من ناحية، هو الاسم الذي يطلقه التحليل النفسي على إحدى طرق الجهل بالأشياء، وهي طريقة كثيرًا ما تؤدي إلى نتائج مشئومة في حياة الشخص الذي يجهل. لكن من ناحية أخرى، فإن المرأة التي يبدو عقلها في غفلة هانئة عن ذلك السر الذي يتناغم جسدها معه كل التناغم، دائمًا ما توصف بالجمال. هناك إذن طرق ناجحة للجهل بالذات. والجمال أحد هذه الطرق. والواقع، أنه من الممكن اعتبار أن الطريقة التي بمقدورنا أن نجهل بها الأشياء هي على وجه الدقة ما تحدد نوعية وطبيعة الأشياء التي بمقدورنا أن نعرفها، وأن ترسيم حدود نطاق اللامعرفة هو شرط –وفي الوقت نفسه، معيار- كل معرفة. وإذا كان هذا صحيحًا، فإن إنشاء «قائمة شاملة» بأنماط وأنواع الجهل لن يقل في فائدته عن التصنيف المنهجي للعلوم الذي تستند إليه عملية نقل المعرفة. ومع ذلك، فإنه في حين ظل البشر، لقرون طويلة، يمعنون الفكر في كيفية الحفاظ على المعرفة، وتطويرها والتحقق من صحتها، فإننا نفتقر بالكامل حتى إلى المبادىء الأساسية لفن الجهل. وفي حين أن الإبستمولوجيا (علم المعرفة) وعلم المناهج يهتمان بفحص الشروط والنماذج القياسية والقوانين الخاصة بالمعرفة وإرسائها، فإنه لا توجد أي وصفة جاهزة لترسيم حدود نطاق اللامعرفة. والواقع، إن ترسيم نطاق اللامعرفة لا يعني ببساطة عدم المعرفة، فالأمر لا يتعلق بنقص أو قصور فحسب. لكن معناه، على العكس، أن يحافظ المرء على العلاقة السليمة بينه وبين الجهل، وأن يسمح لغياب المعرفة بأن يوجه كل إيماءاته ويصحبها، وأن يسمح لصمت عنيد لا يلين بأن يرد بوضوح على كل ما يصدر عنه من كلمات. أو، إذا شئنا أن نستخدم مصطلحات عفا عليها الزمن، يمكننا القول إن أكثر الأشياء حميمية، وأشدها إنعاشًا للروح لا يتخذ صورة العلم أو العقيدة الثابتة بل صورة الهبة الإلهية والشهادة. وبهذا المعنى، فإن فن العيش هو القدرة على الحفاظ على علاقة متناغمة بيننا وبين كل ما يستعصى على المعرفة.

والحال، أنه حتى المعرفة تحافظ، في نهاية المطاف، على علاقة بينها وبين الجهل. بيد أنها تفعل ذلك عن طريق الكبت، أو الافتراضات المسبقة، وهي طريقة تفوق الكبت في فاعليتها ونجاعتها. فالمجهول هو ما تفترضه المعرفة بصورة مسبقة باعتباره أرضًا لم تُكتشف بعد، ينبغي غزوها؛ واللاوعي هو الظلام الذي سوف يسلط عليه الوعي أنواره. وفي كلتا الحالتين، فإن شيئًا ما يتم فصله واستبعاده من أجل أن يتم اجتياحه والسيطرة عليه في وقت لاحق. لكن من ناحية أخرى، فإن العلاقة مع نطاق اللامعرفة تعكف على حراسة هذا النطاق وصونه بحيث يبقى كما هو دون مساس. بيد أن هذا لا يتم عن طريق تقديس الظلام (كما في الباطنية)، أو بتمجيد الأسرار (كما في الشعائر)، ولا حتى بمحاولة ملء هذا النطاق بالخيالات والاستيهامات (كما في التحليل النفسي). فالأمر هنا لا يتعلق بعقيدة سرية أو علم علوي، أو بمعرفة نجهلها. وعلى العكس، فإنه من الجائز أن نطاق اللامعرفة لا يحتوي في الحقيقة على أي شىء غير عادي، وأنه إذا استطاع المرء أن ينفذ ببصره خلاله فإنه لن يلمح –وإن كان هذا غير مؤكد بالمرة- سوى زلاجة[2] قديمة مهجورة، أو قد يلمح –وإن كان بصورة غائمة- تلويحات وإيماءات مشاكسة لفتاة صغيرة تدعونا للعب معها. ربما كان نطاق اللامعرفة لا وجود له على الإطلاق، وما يوجد فقط هي تلك الإيماءات التي تصدر عنه. وكما كان كلايست يعرف تمامًا، فإن العلاقة الوحيدة التي يمكن أن نقيمها مع نطاق اللامعرفة هي أن نرقص معه.


اقرأ المزيد: السحر والسعادة – جورجيو أجامبن


 [1]  بيرنت
هاينريش فيلهلم فون كلايست Heinrich von Kleist (1777-1811)، كاتب مسرحي وقاص
وشاعر وناشر ألماني.

[2]  إشارة إلى زلاجة كين
الطفل في فيلم «المواطن كين».