الاحتياج

 مقال لشهاب الخشاب

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

***

مومباي، الهند، عن gfmag

ليه الأغنياء بيعايروا الفُقَرا؟ روح قول للناس المرتاحة إن المدينة فيها فقر فادح. وإن الفقرا مش لاقيين ياكلوا. وإن المترو بقى بـ 10 و14 جنيه رايح جاي للي ساكن في طرف المدينة. وإن محدِّش قادر يدفع تَمَن المدارس والعلاج. وإن المرتبات واليوميات ما بتقضِّيش بأي شكل من الأشكال. روح قول لهم واستقبل الإجابات الجاهزة. «دول شمَّامين كُلَّة بيصرفوا فلوسهم في المخدرات بدل ما يحوِّشوا». «دول كسالى نايمين في الضل بدل ما يجروا ورا أكل عيشهم». «ده السايس اللي واقف تحت بيتي بيعمل 2000 جنيه في اليوم». «تقول عليهم إزاي فقرا وهُمَّا ماسكين تليفونات بشاشة وعندهم تلاجات في بيوتهم؟» إجابات سريعة زي الوجبات السريعة، طالعة سخنة من المايكرويف عشان تملا كرش المرتاح.

الإجابات دي نوع من التبرير السهل للفقر. نوع من تحميل مسؤولية الفقر على الفقرا نفسهم. كأن الفقرا هُمَّا بس اللي شمَّامين، وهُمَّا بس اللي كسلانين، وهُمَّا بس اللي بيكسبوا فلوس من الهوا، وهُمَّا بس اللي عايزين بعض رفاهيات الحياة الحديثة. المُعايرة دي بتصوَّر الفقير كأنه لازم يكون ضعيف، كأن ما عندوش وقت للسياسة أو التفكير، كأنه «محتاج». محتاج الغني يدي له عشان يعيش، محتاج مساعدة لله عشان يكمِّل حياته. نمط الفقير هنا هو الشحَّات، اللي بيعيش في انتظار الجنيه اللي بيجي من رضا وكرم الباشا. التصور النمطي ده تصور أخلاقي، باعتبار إن الباشا باشا عشان أخلاقه العالية (وحتى سيادته ممكن يتكرَّم بصدقة للشحًّات الجربان)، وإن الشحَّات شحَّات عشان عمل حاجة غلط في حياته (سواء كان بياخد مخدرات أو كسول أو نصاب إلخ إلخ…)

يعني التبرير الأخلاقي أو السلوكي للفقر مرتبط بمفهوم ضمني عن الاحتياج. اللي محتاج مساعدة هو الوحيد اللي يستحق المساعدة، وكل الفقرا اللي ماسكين فلوس أو تليفونات في إيدهم مش فقرا بجد. الاحتياج هنا عبارة عن احتياج بالمنطق «الوظيفي». يعني احتياج للحاجة اللي هتسد الرغبة أو الغريزة المادية البحتة اللي الفقير محتاج لها، باعتبار إن وظيفة الحاجة إنها تسد الاحتياج. في الرؤية دي، الفقير الحقيقي هو اللي محتاج ياكل ومش لاقي ياكل، باعتبار إن الأكل غريزة طبيعية لازم تتشبَّع عشان الإنسان يعيش. الفقير الحقيقي هو اللي محتاج يلبس ومش لاقي يلبس، باعتبار إن اللبس من احتياجات أي إنسان عشان يعيش. غير كده، الفقير بيدَّعي الفقر، وأي حاجة عنده بعيد عن الأكل والشرب واللبس عبارة عن رفاهية.

المفهوم الوظيفي للاحتياج قديم في العلوم الإنسانية. ابن خلدون كان متبنيه في «المقدمة». ولويس هنري مورجان (Lewis Henry Morgan) تبناه في كتاباته (العنصرية) عن تطور الجنس البشري في القرن الـ 19. وبرونيسلاف مالينوفسكي (Bronislaw Malinowski) تبناه في كتاباته (العنصرية برضه) عن التكوين الوظيفي للمجتمعات البدائية في القرن الـ 20. مع الاختلافات الجذرية بين نظرياتهم عن المجتمع، المفكرين دول كانوا شايفين إن الإنسان كائن عنده احتياجات طبيعية أساسية، ولازم يشبَّع الاحتياجات دي عشان يكمِّل حياته. الإنسان ما يقدرش يركّز في تفاصيل زي العمران والحضارة والصناعة والفن إلا إذا كان شبعان.

الرؤية الوظيفية للاحتياج تبدو منطقية، وإنما جواها نقطتين ضعف جوهرية. أولًا، الرؤية دي بتحاول تقدِّم تعريف موضوعي للاحتياج، في حين إن الاحتياج مفهوم اجتماعي بامتياز. الرؤية الوظيفية بتتصرف وكأننا نقدر نحدد بالفعل احتياجات أي إنسان في أي مكان وفي أي زمان، وكأننا نقدر نحسب العدد المثالي للأكل والشرب واللبس والسكن اللي الإنسان الواحد محتاجه عشان يعيش. في المنظمات الدولية زي الأمم المتحدة والبنك الدولي مثلًا، التفكير ده بيحوِّل الاحتياج لمؤشرات بتحسب أرقام زي الحد الأدنى للفقر أو الحد الأدنى للجوع. رغم ادعاء المنظمات بإن المؤشرات دي موضوعية، مفيش مؤشرات موضوعية بالفعل. عمر ما المنظمات هتعرف كل واحد فينا محتاج إيه حسب ظروفه الجسدية والمادية والاجتماعية الخاصة. كل اللي المنظمات تقدر تعمله إنها تنتج مؤشرات «متوسطة». المؤشرات دي بتتعامل مع البني آدمين بالآلة الحاسبة، وبتقيس المسافة بين الإنسان المثالي «المتوسط» وكل واحد فينا – رجل أو ست، مواطن أو خواجة، غني أو فقير، إلخ إلخ.

الاحتياج لا يمكن يكون شيء مجرَّد. الاحتياج بيتغيَّر حسب الزمن والمكان، حسب جسم البني آدم والشعب اللي عايش معاه، حسب موقعه جوه المجتمع والطبقات الاجتماعية. الاحتياج عبارة عن ظاهرة معنوية قبل ما تكون ظاهرة طبيعية إذا تبعنا كلام الفيلسوف جان بودريار (Jean Baudrillard). فمثلًا جزء كبير من احتياجات الإنسان الغني مالهاش علاقة بالغريزة الطبيعية، ولو إنه ما يقدرش يتخيَّل حياته من غير السيولة المالية والعربية الفخمة والنت السريع والشغالة والدادا. إذا فكَّرنا في احتياجات الإنسان الغني بالطريقة دي، إيه اللي يخلِّينا نتصور إن احتياجات الإنسان الفقير مختلفة؟ إشمعنى بنفترض إن الفقير لازم تكون احتياجاته غرائزية، وطبيعية، وبدائية، بينما الغني هو اللي له حق يحتاج حاجات إضافية؟

السؤال ده بيوضَّح نقطة الضعف التانية في التصور الوظيفي: الشخص اللي بيقرر مين محتاج إيه دايمًا حد غير الإنسان اللي بيعبَّر عن احتياجاته. سواء كان عالم الإنسان أو الموظف اللي شغَّال في منظمة دولية، الشخص اللي بيقرر إن الفقير محتاج الكم الفلاني من الفلوس عشان يطلع فوق خط الفقر أو الكم العلاني من الأكل والشرب عشان ما يبقاش جعان هو في الآخر خبير مرتاح وبعيد عن الوضع المعيشي اليومي اللي الناس عايشاه. الخبير ده بيحدد احتياجات الناس بناءً على عوامل هو شايفها علمية وموضوعية، بس ما بيهتمش يسأل الناس إيه اللي هُمَّا محتاجينه في تقديرهم، ولا يحلل إشمعنى لازم نعتبر الاحتياجات اللي هو شايفها طبيعية وأساسية هي بالفعل الطبيعي والأساس.

التصورات السائدة عن الفقر بتبقى في الغالب تصورات الطبقات السائدة، سواء كانت الناس اللي بتحكم، أو الناس اللي بتمتلك أراضي وشركات، أو الناس اللي بتدير الأملاك دي. ربط الفقر بالاحتياج الوظيفي عند الطبقات دي مش مرتبط بالعلاقات المادية والاجتماعية اللي بتحكم الفقر. الفقير ممكن يكون عنده احتياجات زي الغني، بس قدرته المادية والاجتماعية على تحقيق الاحتياجات دي مختلفة تمامًا. الاختلاف مالوش علاقة بإن الفقرا بيتعاطوا مخدرات أو بيكسلوا أو بيدوَّروا على الربح السهل حسب الأساطير الشائعة. لازم نوضَّح (بخجل وكسوف) إن الغالبية العظمى من الفقرا بيشتغلوا وبيجتهدوا وبيعافروا في شغلانات كتيرة ومرهقة لمدة ساعات طويلة كل يوم. ولازم كمان يوضَّح إن الصفات السلبية اللي مرتبطة بالفقرا موجودة بنفس الشكل وألعن في طبقات الأثرياء.

الفرق إن رغم مجهودهم اليومي، الفقرا ما يقدروش يعيشوا أبعد من اليوم بيومه. في المقابل، الناس الغنية ممكن تشرب مخدرات وتكسل تشتغل وتجري وراء القرش السريع، وبرضه يعيشوا حياتهم بالطول وبالعرض وبلا خوف من الضيقة والزنقة. الفرق إن العلاقات المادية والاجتماعية اللي حوالين الفقير ما تقدرش تأمِّنه زي العلاقات المادية والاجتماعية اللي بتسند الغني. في الظروف دي، الغني بيعاير الفقير عشان يخلِّي الفرق بين المحتاج والمستغني يبدو طبيعي تمامًا. إذا اللي محتاج ما احتاجش للي مستغني، يبقى هو مش محتاج بجد. ترجمة الكلام ده إن اللي مستغني ممكن يحتاج اللي هو عايزه براحته، بس اللي محتاج لازم يحتاج للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم عشان المستغني ما يزعلش منه (أو ما يزعَّلوش).

التعميم الأخلاقي بخصوص أسباب الفقر مالوش معنى إلا في إطار العنف الطبقي السائد. من ناحية التعميم بيعفي المرتاح صاحب الأخلاق العالية عن مسؤوليته تجاه اللي مش مرتاح، لأنه ما بقاش مرتاح بسبب غلطاته وأخلاقه الواطية. ومن ناحية تانية، التعميم بيأكد إن المرتاح هو الوحيد اللي يقدر يحدد احتياجاته بنفسه، لأن اللي مش مرتاح مالوش حق يحتاج أي حاجة غير الأساسيات. بالتالي الأغنياء بيعايروا الفقراء مش عشان عندهم حق (أكيد)، ولا عشان هم بني آدمين مش أسويا (وارد)، وإنما عشان عندهم تصورات طبقية عن طبيعة الاحتياجات البشرية.