المجيء الثاني

مقال لفرانكو (بيفو) براردي*

عن E-flux مارس-يونيو 2017

ترجمة: أحمد حسَّان

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

* فرانكو بيراردي هو كاتبٌ وناشط وسائط اتصال، كتابه الأخير هوFuturability: The Age of Impotence and the Horizon of Possibility. نشرته فرسو (2017). هو الآن منخرط في إنتاج فيلم عنوانه Comunismo Futuro (من إخراج أندريا جروبليرو)، مكرس للذكرى المئوية للثورة السوفيتية.

***

بيفو، عن the influencers

المجيء الثاني لماذا؟

أجلس في إحدى الحانات

في الشارع الثاني ـ والخمسين

مرتابًا وخائفًا

بينما تلفِظُ أنفاسَها الآمالُ الماكرة

لعِقدٍ وضيعٍ مخادعٍ:

موجاتُ الغضب والخوف

تنتشرُ فوق الأراضي المضيئة

والمظلمة للأرض،

وِسوَاسًا لحيواتنا الخاصة؛

ورائحةُ الموت التي لا يجدُرُ ذكرُها

تنتهكُ ليلَ سبتمبر.

ــ و. ه. أودِن، «سبتمبر 1939»

يمكن النظرُ إلى مؤتمر فرساي، عام 1919، باعتبارهِ اللحظةَ التي اكتمل فيها تشكيلُ المشهد السياسي للحداثةكمشهدٍ ـ عالمي.

في نفس العام، كتب ويليام بتلر ييتس William Butler Yeats ــ مُحيلًا إلى سياق نهاية العالم [الأﭘوكاليبس] لما بعد الحرب ــ قصيدة «المجيء الثاني»، حول انهيار النظام الاجتماعي وتحلُّل الحضارة.

«الأشياءُ تتداعَى؛ المركزُ لا يمكنه الصمود؛/ الفوضى العارمةُ مُطلَقةُ العنانِ على العالم».

في الأعوام التي أعقبَت الدمارَ الهائل للحرب العالمية الأولى، يتحدث ييتس عن الفوضى الكونية chaos المؤلمة التي «أعتَمَها الدمُّ» والمطلقةِ العنان على العالم، ويرى علامةً على المجيء الثاني ليسوع المسيح.

أنا أقرأ ييتس من وجهة نظر اليوم، 2017، وأود أن أفسِّر كلماتِه بطريقة غير ـ لاهوتية، بعد مائة عامٍ من بداية الثورة الروسية، التي استهدفت إزالةَ الحرب والاستغلال من تاريخ العالم لكن نتجَ عنها خلقُ نظامِ اضطهادٍ شموليٍ بائس.

المجيءُ الثاني للشيوعية سيحدث على أرضياتٍ لا علاقةَ لها بالقوةِ اللينينية والإجبارِ البلشفي، لا علاقةَ لها بالدكتاتورية السياسية. المجيءُ الثاني للشيوعية سيحدث كتأثيرٍ للصدمةِ التي أوقعَتها الرأسماليةُ (والاستخدامُ الرأسمالي للتكنولوجيا) بالعقل الإنساني. فالمنافسة الاقتصادية والتراكم الحُواذِي قد أثارا العنفَ، والإحباطَ، والحرب. الشيوعيةُ تعني أن نُخلِّص أنفسَنا من خُرافة المِلْكية وخرافة العمل المأجور. إعادةُ توزيعِ الثروةِ وتحريرُ الزمنِ الاجتماعي من ابتزازِ العملِ المأجور: ليس ثمة مفتاحٌ آخر للمستقبل.

ما حدث عام 2016 (البركسيت، فوزُ ترامب، انتشارُ النزعة القومية في أوروبا، انتشارُ الحروب الأهلية حول العالم) يُعرِّضُ للخطر خريطةَ ـ العالمِ الذهنية الموروثةِ من العصر الحديث. يؤكد هذا مقالٌ بعنوان «صوب إعادة اصطفافٍ كوكبية» بقلم زبيجنيو بريـﭼينسكي ZbigniewBrzezinski، نُشر في ذي أمريكان إنتريست The American Interestعدد يونيو 2016.حتى وفاته في مايو من هذا العام، كان بريـﭼينسكي مثقفًا بارزًا في السياسة الخارجية ظل طيلة عقودٍ ممثلًا مرجعيًا للمؤسسة الأمريكية. وطبقا لبريـﭼينسكي، فإن داعش هي مجرد البداية لحربٍ إرهابية كوكبية ستَسِم القرنَ الراهن. يقول بريـﭼينسكي إن على الغربيين إدراكُ أنه بعد خمسمائة عامٍ من السلب والنهب، والمذابح، والإذلال، بدأت شعوبُ العالم المستَعمَرة في الانتقام، بشنِّ حروبٍ دينيةٍ وقومية في كل مكان. وباستطاعة مضطَهَدي العالم الانتقامُ الآن بسبب سهولة التوصل إلى الأسلحة القاتلة والمدمرة على نطاقٍ واسع. بعد قرونٍ من النهب والإذلال، يقوم الضحايا بالردِّ. وعلى الجانب الآخر، يَنشُد العمالُ البيض الغربيون، الذين أفقرهم العدوانُ المالي للأعوام الثلاثين الأخيرة، الانتقامَ الاجتماعي ويشنُّون حربًا عرقيةً كوكبية. من وجهة نظرٍ أممية، فهذا هو السيناريو الأسوأ ــ روشتةٌ مكتملةٌ لهزيمة الجنس البشري.

انتصارُ دونالد ترامب هو الثمن الذي تُرحِّب الطبقةُ العاملة البيضاء بدفعِه كي تنتقم من اليسار النيوليبرالي. فأحيانا يُقرِّرُ المُهانون التماهي مع مُهِينُهم الأكبر. وقد اختار عمالُ الولايات المتحدة البيضُ المهانون ترامب لأنه هو من يُهينُ النخبةَ النيوليبرالية التي تُهينُهم. يفكرون: إنه رجلُنا لأنه أفضلُ من يعرف كيف يُهين أولئك الذين خدعونا.

ما لا يمكن تجنّبه وما لا يمكن التنبؤ به

في الكرة الزجاجية لقرننا، من السهل أن نرى ازديادًا في الحرب والاستغلال. لكن لا ينبغي أن ننسى أبدًا أن ما لا يمكن تجنُّبه the unavoidable لا يقعُ عادةً، لأن ما يسودُ في التاريخ هو ما لا يمكن التنبُّؤ بهthe unpredictable .

مهمَّتُنا الأولى كمثقفين هي أن نصِفَ ما لا يمكن تجنبه. يجب أن ننظُرَ في عيون الوحش مباشرةً. لكن علينا في نفس الوقت أن نتذكر أن الحدثَ، الذي يُغيِّر اللُّعبةَ ويفتح منظورًا جديدًا وإمكاناتٍ جديدة، لا يمكن التنبؤُ به. كلما زاد تعقيدُ نسقٍ ما، كلما قلت قدرتُنا على التنبؤ بالتأثيراتِ الواسعة النطاق لميلٍ ثقافيٍ هامشي أو لاكتشافٍ تقنيٍ مجهول.

من هنا، وبصرفِ النظرِ عن شعورنا باليأس، يجب ألاّ نكفَّ عن ممارسة فن التفكير وفن التخيُّل الفلسفي. أعرفُ أنه في عصر الاتصال والسرعة، يتمُ نبذُ الفكر باعتباره عادةً قديمة. يبدو الفكرُ تزيينيًا وغير مؤثِّرٍ. لكن هذا جزءٌ مما لا يمكن تجنّبه.

يجب ألاّ نكُفَّ عن التفكير لأن ما لا يمكن توقُّعه ربما احتاج سريعًا إلى التفكير فيه، وهذا هو عملنا، مهمتنا: التفكيرُ في أزمنة صدمةِ نهاية العالم.

لذا لا يجبُ أن نتوقَّفَ عن ترديد كلمة الأممية.

تعرفون ما هي الأممية.

حين كتب لينين أن «الرأسمالية تجلبُ الحربَ مثلما تجلبُ السحبُ العاصفةَ»، كان يعرف أن الحربَ العالمية الأولى لا يمكن تجنُّبها، وكان يعرف أن عدمَ إمكانِ تجنُّبها هذا لا يمكن تخريبه إلا بواسطة ما لا يمكن التنبُّؤ به: ثورةٍ عمالية. عام 1914، بينما كان الاشتراكيون الفرنسيون والألمان يصوِّتون لصالح قروضِ الحرب، مُستسلِمين لبلاغة النزعة الوطنية وقابلينَ للحرب القومية، قال لينين لا للحرب. لم أكن أبدًا لينينيًا، لكن لا يمكنني إنكارُ أن لينين كان على صوابٍ، في مؤتمر تسيمّرفالد Zimmerwald عام 1915.

واليومَ بالمِثل، رغم عدم إمكانية تجنُّب الحرب، لا بد أن نقولَ لا للحرب. لا بد أن نُنظِّم عمليات الفرار والمقاطعة؛ لا بد أن نجهِّز لإسقاط النظام الذي ولَّد الحرب. الأمميةُ ليست قيمةً أخلاقية ولا إيديولوجيا، بل الفهمُ المادي لحقيقةٍ بسيطة: أن عمالَ العالم يتقاسمون مصلحةً مشتركة، هي أن ينالوا قدرًا أكبر مما ينتجون، وأن يعملوا أقل.

حين يكون العمالُ مُتَّحدين في نزاعٍ اجتماعي، يمكنهم الفوز. أما حين تتملّكهم مشاعر قومية، حين تنتشر الجبهاتُ القومية، فإن الحرب تنتشر ويخسر العمال كل شيء ــ سواء كانوا ألمانًا أم فرنسيين، أمريكيينَ أم روس. والنزعة القومية الصاعدة لعصرنا هي تأثيرٌ للهزيمة التي عانتها الطبقة العاملة؛ فخيانة اليسار النيوليبرالي قد جرَّدت الطبقةَ العاملة من كل الدفاعات السياسية. اليسارُ النيوليبرالي يتحمل المسؤولية عن هزيمة العمال، وعن إفقار المجتمع، وعن الإذلال الذي يُحوِّل الناسَ الآن ضد القيم التقدمية. يكره العمالُ اليسارَ (وذلك عن حق)، لأنه يتماهى مع العدوان المالي والامتثالية النيوليبرالية الكوزموبوليتانية.

يحاول توني بلير Tony Blair العودةَ الآن. كتب رسالة إلى الشعب البريطاني قائلًا إن البركسيت كان خطأً، ويجب إصلاحُ الخطأ. سيعود ليساعد بريطانيا في تحسين سلوكها. وإذا كان عليَّ أن أختار بين نايـﭼل فاراچ Nigel Farage وبين توني بلير، فلن أختار فاراچ، لكن لن أختار توني بلير كذلك. إذ أن بلير واليسار البليري قد دمرا كل ثقةٍ في الديموقراطية.

احتفال البراءة

الأشياء تتداعى، المركزُ لا يمكنه الصمود؛

الفوضى العارمة مُطلقةُ العنانِ على العالم،

المدّ الذي أعتَمَه الدمُ مُطلقُ العنان، وفي كل مكان

يغرقُ احتفالُ البراءة؛

الأفضلُ يُعوِزُهم كلُّ اقتناع، بينما الأسوأ

مُفعَمُونَ بكثافةٍ مشبوبة.

ــ و. ب. ييتس، «المجيء الثاني»

البيت الذي يقول «يغرق احتفالُ البراءة» يجعلني أفكّر فيما يحدث كلَّ يوم في البحر المتوسط، حيث يغرق أناسٌ أبرياء نتيجة حروبٍ يُغذِّيها الغرب. هذا تداعٍ حرٌ، بالطبع ــ فلم يكن ييتس ليستطيع تخيُّل المأساة التي تُثيرها الحربُ والهجرة في المتوسط ـ الأوروبي في عصرنا ما بعد الحداثي.

ينكر الوعيُ الأوروبي معنى ما يحدث. ففي كل مكانٍ عبر ساحل المتوسط، يجري بناءُ معسكراتِ اعتقالٍ بأموال الاتحاد الأوروبي. في تركيا، وفي ليبيا، وفي مصر، في تلك البلدان التي يقودها قتلةٌ فاشيون مثل السيسي وإردوغان، يجري اعتقالُ المهاجرين، وتعذيبهم، واستعبادهم، وقتلهم في معسكرات الاعتقال تلك التي لا يريدُ الأوروبيون استضافتها على أراضيهم. يجري تشييد أوشفيتزAuschwitz على طول ساحل البحر المتوسط.

في أعوام الأربعينات، لم تعرِف غالبيةُ الأوروبيين ولم تكن تستطيعُ أن تعرِفَ شيئا عن أوشفيتز. والآن نعرفُ. الآن يعرفُ الجميعُ في أوروبا أن معسكرات الاعتقال قد عادت. ويفضّل الأوروبيون أن يجعلوا الرعبَ خارجيًا، أن يدفعوا لجلاَّدين بعيدين عن عيون الأطفال الأوروبيين. يجرى جعلُ النازية خارجيةً.

تطلق قصيدةُ ييتس عنانَ تداعياتٍ كثيرة ذات معنى ولو أنها اعتباطية: هذا ما يفعله الشعر. الاعتباطية ذات المعنى هي الهِبة التي يُقدِّمها الشعرُ لعقولنا. الصدفة serendipity في سيرورة صنع ـ المعنى. الالتباسُ الشعري هو الحالة النابضة vibrational التي تؤدي إلى الاكتشاف المفهومى، إلى تخيُّل أراضٍ أخرى ممكنةٍ لا يمكننا رؤيتها الآن. ما يحدث في المتوسط ـ الأوروبي لن يمكن التغلب عليه على أسسٍ سياسية. فالقرارُ السياسي عاجزٌ. وما نحتاجه هو إعادة تفعيلِ التقمص الوجداني الإنساني، الذي يتجاوز السياسة. إنه قبلَ ـ سياسي، أو بعدَ ـ سياسي، أو ميتا ـ سياسي ــ لا أدري. إذا كان غالبية الأوروبيين غير قادرين على الشعور بالتقمص الوجداني للآلاف الذين غرقوا في المتوسط في الأعوام الأخيرة، فإنهم مرضى مرضًا خطيرًا. وهم مرضى بسبب الإفقارِ الطويل الأمد الذي أحدثته الرأسماليةُ المالية في حيواتهم. في هذه الأوضاع من اللامبالاة والاكتئاب والخوف، لا يمكن للعقل السياسي للحكومات أن يقرِّر. ولن تتوقف موجةُ الهجرة واليأس عن الارتطام بشواطيء قلعتنا ـ القارّية الملعونة.

الحدُّ

«الأفضل يعوزهم كل اقتناع/بينما الأسوأ مفعمون بكثافةٍ مشبوبة».

الأفضل؟ من هم الأفضل الذين يكتب عنهم ييتس؟ أفكر في أناسٍ من قبيل فيتوريو أرِّيجونى Vittorio Arrigoni وريتشل كوري Rachel Corrie،[1] اللذين قتلهما أناسٌ مرعوبون كانا يحاولان مساعدتهم. كانا جزءًا من طائفة البدو الثقافيين الذي يريدون أن «يظلّوا بشرًا». هؤلاء البدو الثقافيون، الذين يتجمَّعون أحيانا في كتلٍ مختلطةٍ مباغتة تسمَّى «حركات»، ليسوا مؤمنين، ولا يتظاهرون بالانتماء إلى أي حقيقة. إنهم متشكّكون ومتهكِّمون؛ لا يعبأون بالمذاهب الجامدة، ولا المعتقدات، ولا التحيُّزات، ومن ثم ينظرون إلى الواقع بنظرةٍ متهكّمة ومتسامحة.

يقول فتجنشتينWittgenstein إن حدودَ عالمنا هي حدودُ لغتنا. والشعر هو المنطوق الذي يتغلَّب على تلك الحدود. يحدثُ الشعر حين تطرح اللغةُ للتساؤل حدودَ اللغة. يحدثُ الشعر حين يتم تجاوزُ هذه الحدود بفيضٍ من المعنى، معنى تعجز اللغةُ المحدودة عن التعبير عنه. الثراء المفترضُ للمعرفة الاجتماعية وللتكنولوجيا تحدُّه وتشوِّهُه الحاويةُ السميوطيقية للرأسمالية المالية. التمويل هو أداة تحويلٍ سميوطيقية للنشاط الإنساني، يحوِّل الثراءَ إلى بؤسٍ، وتفاوتٍ، وتراكمٍ مجرَّد. هذا هو الحدُّ الذي نعجزُ عن تجاوزه. إنه حدٌّ سميوطيقي في المقام الأول.

نحن لا نرى الإمكانيةَ المنقوشةَ في التكوين الراهن للعمل، والمعرفة، والتكنولوجيا، لأننا محدودون بحدود لغتنا، بحدود خرافتنا superstition: خرافةِ العمل المأجور. رؤيتنا للمُمكن محدودةٌ بالإدراكِ المسبق بأن المرءَ إذا أراد البقاءَ على قيد الحياة، عليه أن يعمل ثماني ساعاتٍ يوميًا. هذا هو الحد الذي يجب أن ننتصر عليه، والشِعرُ هو المكان الذي يجري فيه البحث من أجل هذا الانتصار.

في حوارٍ عام 2014 في مجلة كومبيوتر وورلد Computer World، قال لاري بيچLarry Page [2] أن جوجل لديها بالفعل أجهزةٌ ذكية يمكنها أن تحلَّ محلّ 50 بالمائة من الوظائف الراهنة. يمكن لـ 50 بالمائة من الوظائف الراهنة أن تختفي غدًا إذا طبَّق وادي السيليكون ابتكاراته الحالية. هذا يتضمن أن العمل لثماني ساعاتٍ يوميًا لا معنى له.

نحن معتادون على الإنصاتِ إلى خطاب الأقوياء، القائمِ على فكرة أن كل شخص يجب أن يعمل، وأن التشغيلَ الكامل سيتمُ ضمانُه يومًا ما. هذا هو الخطابُ المنافق لكل المرشحين في كل الانتخابات في العالم: يعِدون بالوظائف. لكن هذا مستحيلٌ، لأن العمل لم يعد ضروريًا. هذه هي الحقيقةُ البسيطة التي ليست السلطةُ مستعدةً لقولها ولسنا قادرين على رؤيتها.

من المفترض أن يعتقد الناسُ أنهم لن يبقوا على قيد الحياة ولن يتمكنوا من تنشئة أطفالهم إلّا إذا كانت لديهم وظيفة، إلّا إذا بدَّدوا حياتهم ليكسبوا مرتبًا. لكن حين يعلم الناسُ أن عملهم لم يعد مطلوبًا، أن المهاجرين أو الروبوتات قد تأخذ وظائفهم، فإن الهلع يتملّكهم. يصبحون عنيفين وكارهين للأجانب. يصوِّتون لفاشيٍ يعدُ بأن الأمة ستصبحُ من القوة بحيث أن من ينتمون إلى الأمة سيتمتعون بامتيازِ أن يكونوا عبيدًا مأجورين طيلة حيواتهم. أولئك الذين صوَّتوا لترامب كانوا يفكرون: «مكسيكيٌ ما أو روبوتٌ ما سيسرق وظيفتي».

المشكلة أن وظيفتَكَ بلا جدوى. لم يعد ثمة احتياجٌ لوقتكَ بنفس الطريقة التي كانت خلال العصر الصناعي. لكننا عاجزون عن رؤية هذه الحقيقة البسيطة، لأننا عاجزون عن المضيِّ إلى ما وراء حدودِ لغتنا. ولا بد بصورةٍ عاجلة من تطوير تقسيمٍ جديدٍ لزمن العمل. الغرضُ ليس الدفاعَ عن التركيب القائم للعمل، بل تخليصُ إمكانية تركيبٍ جديد، تحريرُ الذهن العام، تحريرُ قوة العلم، والتكنولوجيا، والفن من حدود لغتنا، من حدود خرافة العمل.

التهكم وحدود لغتنا

يقول ييتس «الأفضل يعوزهم كل اقتناع». فكِّر في البابا الألماني الأسبق، جوزيف راتسينجرJoseph Ratzinger ــ البابا بنديكت السادس عشر ــ الذي جاء إلى روما واعدًا بالتأسيس النهائي للحقيقة. كان راتسينجر مثقفًا ومؤيدًا للحقيقة المطلقة. ومنح صعودُه إلى العرش الكاثوليكَ اليمينيين الجسارةَ. قال «الرب واحدٌ، والحقيقة واحدةٌ». وفي خطبته الأشهر، التي ألقاها في ريجينسبورج، ببافاريا، شجب راتسينجر الفيلسوفُ النزعةَ النسبية، التي اعتبرها وباء الحداثة.

أنا عموما لستُ مُغرَمًا بناني موريتي Nanni Moretti، لكن يروقني Habemus Papam، الفيلم الذي أخرجه عام 2011. إنه فيلمٌ عن هشاشة الكائناتِ البشرية ــ وبالذات، عن هشاشة كائنٍ بشري يُنتخَب بابا. في الفيلم، يُنتخبُ الكاردينال ملفيل Melville بابا (لعب دوره ميشيل بيكوليMichel Piccoli). وحين يُتوقَّعُ منه أن يلقي خطابه العام الأول أمام حشدٍ ضخمٍ مجتمعٍ في ساحة القديس بطرس، يدركُ أنه ليس لديه ما يقوله. فجأة، يجرفهُ واقعُ العالمِ، فيُغمغِم: «لا أستطيعُ الكلام». بعدها يذهب إلى مُحلِّلٍ نفسي (يلعب دوره ناني موريتي نفسه). البابا مكتئبٌ لأنه رأى الحقيقة التي كان يحاولُ إخفاءَها: أنهُ ما من حقيقةٍ في العالم.

وفي فبراير عام 2013، قرر جوزيف راتسينجر أن يقتفي خطوات ميشيل بيكولي. أصبح راتسينجر أول بابا يستقيلُ خلال خمسةِ قرون.

اليومَ تصبحُ العلاقةُ بين الواقع وبين الخيال أكثرَ تعقيدًا مما كان يمكن أن يتخيل جان بودريار Jean Baudrillard على الإطلاق. فالبابا الواقعي يقلِّد الممثلَ الذي يجسّدُ شخصيةَ البابا، ويقبل الحقيقةَ المظلمة لكونه ليس قويًا بما يكفي للتمسُّك بمسؤولية قولِ الحقيقة لأنه يشعرُ بأن الحقيقةَ تُراوِغه.

بديهيٌ، إن هذا هو مجردُ تفسيري لاستقالة راتسينجر، التي كانت فعلًا من أفعال الشجاعة الذهنية والتواضع الأخلاقي. كيف يمكن للمرء أن يفهم قرارَ بابا، اختاره الربُ من خلال توسُّط الروحِ القدس، بأن يستقيل؟ أعتقدُ أن التفسيرَ الوحيد الممكن هو أن بنديكت شعر بالاكتئاب، وتحدث بإخلاصٍ مع الرب، وكشف بتواضعٍ عن قيامته الحميمة.

الاكتئاب لا يتعلَّقُ بالذنب، كما أنه ليس حدًا للعقل المفكر. إنه انفصامُ التفكير عن الرغبة.

ثم انتُخب ماريو برجوجليو Mario Bergoglio بابا، ليصبح أول بابا باسم فرنسيس في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. ذهب إلى النافذة المطلَّةِ على ساحة القديس بطرس وقال: «بوناسيرا Buonasera. أنا الرجلُ القادمُ من نهاية العالم». كان يعني الأرجنتين، وهو بلدٌ يعيثُ فيه فسادًا وحشُ الرأسمالية المالية. ومنذ تلك اللحظة، لمعت القيامةُ من خلال أفعال برجوجليو، لأنه رجل يتجاسرُ على مواجهة النهاية. من نهاية العالم، أخذ فرنسيس يفتح دربًا جديدًا في اللاهوت.

بعد انتخابة بقليلٍ، أجرى حوارًا مع مجلة Civiltàcattolica تشيفيلتا كاتوليكا. وفي الحوار، يتأمل في الفضائل اللاهوتية الثلاث: الإيمان، والأمل، والمحبة. تفسيري لملاحظات برجوجليو أن المشكلةَ الرئيسية للمسيحيين اليوم ليست الإيمان. ولا الحقيقة. فثمة ما هو أشدُّ إلحاحًا: يجب أن تكون بؤرةُ اهتمام المسيحيين اليوم هي المحبة، الرحمة، الوجود الحي ليسوع. بكلمات برجوجليو، يجب التفكيرُ في الكنيسة على أنها مستشفى حربي.

أحيانا يُسمّى «التعاطف». وأحيانا يُسمّى «التضامن». ويتحدث دولوز وجواتاري، في مقدمة كتاب ما الفلسفة؟، عن «الصداقة». ما الصداقة؟ إنها القدرةُ على خلق عالمٍ مشترك، عالم من المنطوقات والتوقعات التهكمية. الصداقة هي إمكان خلق دربٍ مشتركٍ في مسار الزمن. وكما يقول الزاباتيستا، مستشهدين بالشاعر أنطونيو ماتشادو Antonio Machado، «أيها السائرُ ما من طريقٍ، الطريقُ يصنعُه السيرُ». نصنعُ الطريقَ بالسير. ليس ثمة حقيقة، ليس ثمة معنى، لكن يمكننا خلقُ جسرٍ يعبر هاويةَ عدم وجودِ حقيقة. «الأفضل يعوزهم كل اقتناع» تعني أن الأفضل لديهم التهكمُ، اللغةُ غير التوكيدية التي تستهدف الدَوْزَنةَ مع مستوياتٍ عديدة للمعنى. كذلك تتضمن الابتسامةُ المتهكمة التقمُّصَ الوجداني، القدرة على مشاركة تقلقل precariousness الحياةِ دون ثِقَل. حين ينفصل التهكم عن التقمص الوجداني، حين يفقد خفة ومتعة التقلقل، فإنه يتحول إلى كلبيةٍ. حين ينفصل التهكمُ عن التقمص الوجداني والتضامن، تقع الروحُ في قبضة الاكتئاب.

بالنسبة للسميولوجيين، فإن الكلبية والتهكم مرتبطان، لأنهما يشتركان في الافتراض المسبق بأن الحقيقة لا وجود لها. لكننا يجب أن نمضي إلى ما وراء السميولوجيا: يختلف المفهومان لأن الشخص المتهكم هو شخصٌ لا يؤمن لكنه يشعر عن طريق التقمُّص الوجداني بالأرضية المشتركة للفهم. الشخص الكلبيُ هو شخصٌ فَقَد الاتصالَ بالمتعة وينحني للسلطة لأن السلطة هي ملاذه الوحيد. الشخص الكلبي ينحني لسلطة الواقع، بينما الشخص المتهكم يعرف أن الواقع هو إسقاطٌ للعقل، لعقولٍ كثيرةٍ متضافرة.

حين أدرك الفلاسفةُ أن الربَّ قد مات وليس ثمة أساسٌ ميتافيزيقي لتفسيراتنا، نشأت مواقفٌ أخلاقية مختلفة. أحد المواقف كان قائمًا على العدوانية والفرض العنيف لإرادة القوة WillezurMacht: ما من حقيقةٍ في العالم، لكنني أقوى منك، وقوتي هي مصدرُ سلطتي التي تؤسِّسُ الحقيقة. وكان الموقف الآخر هو التهكم: الصداقةُ والتقاسم المساواتي يمكن أن يبنيا جسرًا من المعنى عبر اللاوجودِ الذي لا يُسبرُ غورُهُ للمعنى.

البيوريثم Biorhythm [الإيقاع الحيوي] والخوارزمة Algorithm

يمكن للاكتئاب أن يتطور بطرقٍ مختلفة: وإذا نظرت إلى الواقع الراهن لأمريكا، لرأيت أن التطور السائد للاكتئاب هو دونالد ترامب.

«الأسوأ مُفعمون بكثافةٍ مشبوبة»، كما يقول ييتس. الإيمانُ بالانتماء والهوية هو الأرضيةُ الزائفة للكثافة المشبوبة. يتضمن الانتماءُ أرضيةً أنطولوجيةً أو تاريخية للتجانس conformity بين الأفراد. لذا يتضمن الانتماءُ العنفَ والخضوع. إذا أردتَ الانتماء، عليك أن تقبلَ قواعد التجانس. والهوية هي محصِّلة هذه السيرورة للتجانس والإخضاع. والكثافة المشبوبةُ هي أساسُ الهوية التي يتوقُ إليها المُهانون. لكن الهوية يجب حمايتها ضد الوجودِ، ضد التحوُّل، ضد الصيرورة، ضد المتعة، لأن المتعة هي نزعُ ـ هويةٍ. الهوية هي مشابهةٌ simulation للانتماء يتمُّ توكيدُها من خلال العنفٍ ضد الآخر.

«مؤكدٌ أن المجيءَ الثاني قريبٌ/ … صورةٌ هائلةٌ من روح العالم SpiritusMundi/ تُزيِغُ بصري».

عام 1919، توقّع ييتس المجيءَ الثاني ليسوع المسيح. ورغم ذلك، في العقد التالي، لم يجيء ثانيةً. بل جاء هتلر.

من هنا لابد أن نسأل: ماذا سيحدث الآن؟

سأحاولُ إعادةَ تأطير الوضع الراهن من وجهة نظر الإيقاع. وبالأخص، أودُّ قول شيءٍ عن الخوارزمة والبيوريثم. [الإيقاع الحيوي].

الإيقاعُ هو فَرْدَنة singularization الزمن. الإيقاع هو مسح scanning الزمن في تناغمٍ مع التنفُّس الكوني. الإيقاع هو النبضُ الذي يستهدِفُ مُناغمةَ تفرّد التنفس مع الكاوس[الفوضى الكونية]chaos المحيط. والشعر هو الخطأ الذي يقودُ إلى قاراتٍ جديدة من المعنى.

رغم أن نظرية البيوريثم [الإيقاع الحيوي] التي طورها فيلهلم فليس Wilhelm Fliess عند نهاية القرن التاسع عشر تُعدُّ بوجهٍ عام علميةً ـ زائفة، فإنني مهتٌّم بتضميناتها الاستعارية. الكيان العضوي يتكون من مادةٍ نابضة، وتدخل نبضاتُ الكيانِ العضوي في علاقةٍ إيقاعية مع نبضاتِ الكيانات العضوية الأخرى المحيطة. واقتران الكيانات العضوية الواعية والحساسة هو علاقةٌ نابضة: فالكيانات العضوية الفردية تسعى إلى إيقاعٍ مشترك، إلى أرضيةٍ وجدانية مشتركة للتفاهم، وهذا السعيُ هو نوعٌ من التذبذب يُنتِجُ تناغمًا syntony ممكنًا (أو مستحيلًا).

وضمن الدائرة الاقترانية للبيوريثم، تكون سيرورةُ إكسابِ الدلالةِ والتفسير سيرورةً نبضية. وحين تخترق سيرورةَ إكساب الدلالة آلآتٌ ربطية، تتم إعادةُ تشكيلها reformatted. فتتبدّل بطريقةٍ تتضمن اختزالًا: اختزالًا إلى المنطق الصرفي syntactic للخوارزمة.

تأتي كلمة «خوارزمة [ألجوريثم]» من اسم الرياضي العربي الخوارزمي (بمعنى أن موطنه خوارزم)، الذي أدخل عملُه الرياضياِت المعقَّدة إلى الغرب. ورغم ذلك، فإنني أفضل اشتقاقًا مختلفًا ومعنىً مختلفًا. «ألجوريثم» بالنسبة لي ترتبط بالكلمة الإغريقية algos، وتعني الألم. وفضلًا عن ذلك، تحيلُ الكلمةُ الإنجليزية «algid» إلى البرودة، بدنيًا وعاطفيًا. ومن ثم أقترحُ أن ترتبط «ألجوريثم» بالبرودة والألم. هذا الألم ينتجُ عن تقليص الكيان العضوي، عن تيبُّس وسيطِ النُطقِ النابض، وعن اختزال متَّصل الخبرةِ إلى إملاءات عملية الحساب. حين تتوسَّطُ التسلسلَ الاجتماعي آلآتٌ رابطة، يمر التوسُّط البشري بسيرورة إعادة تشكيل reformatting.

لا أحد يعرفُ حقًا ما هو التوسُّط البشري، أو ماذا يفعلُ البشر حين يقال إنهم يؤدُّون كوسطاء. في وجه كل تحليلٍ، يظل التوسطُ البشري نوعًا من اللغز. وإذا كنا لا نعرف بالضبط كيف يعمل التوسط البشري، فكيف يمكننا التأكد من أن السيرورات التي يتركُ من خلالها غيرُ ـ البشر تأثيرهم مختلفةً نوعيًا؟ أية تجميعةٍ assemblage تدينُ بقدرتها التوسطية لحيوية التجسدات المادية التي تشكلها. ثمة شيءٌ من قبيل هذا التوسط التجميعي يُسمَّى شي shi في التقاليد الصينية. يساعد شي على إضاءة شيءٍ عادةً ما يصعبُ التقاطُه في الخطاب: هو بالتحديد نوعُ الإمكانِ الذي ينبعُ لا من المبادرة البشريةِ بل بدلًا من ذلك من نفسِ تنسيقِ الأشياء. شي هو الأسلوبُ، نزوعُ الطاقة، المسارُ، أو الروحُ الحيويélan  الكامن في ترتيبٍ نوعيٍ للأشياء. وبكونها في الأصل كلمةً تُستخدم في الاستراتيجيا العسكرية، ظهرت شي في وصفِ جنرالٍ جيد لا بد أن يكون قادرًا على أن يقرأ ثم أن يمتطي الـ شي الخاص بتشكٌّلٍ من الأمزجة، والرياح، والميول التاريخية، والأسلحة: شي تُطلَقُ على القوةِ الدينامية المنبثقة من تَشَكُّلٍ فضائي ـ زمني وليس من أي عنصرٍ مُعيَّن داخله... شي أيّ تجميعةٍ هو شيءٌ نابض.

حين تدخلُ الخوارزمية مجالَ التسلسل الاجتماعي، تمر أنماطُ التفاعل بسيرورةِ إعادة تشكيل، ويتخلل المنطقُ الخوارزميُ ويُخضِعُ التسلسلَ النابض. يكسُر إقحامُ الخوارزمة في السيرورة السميوطيقية [الدلالية] مُتّصَلَ إضفاءِ الدلالة والحياة. في المجال الارتباطي، يُختزلُ التفسير إلى الإدراك الصرفي لحالاتٍ متحفظة. تتيبَّس العلامةُ النبضية، إلى حدِّ فقدان القدرة على فك شفرة وتفسير الالتباسِ والتهكم. عندها يجري تفسير الاختلاف طبقا لقواعد التكرار، ويتم إلغاءُ عدم ـ التحدُّدِ الذي يجعل سوء الفهم (أو الفهم ـ المفرط) الشعري ممكنًا. وبينما تتم إعادة تشكيل المجال السميولوجي [مجال العلامات] طبقا للخوارزمة، يجري خنق الطبيعة النبضية للبيوثيرم. يتم نفيُ التنفس من التبادل السميوطيقي، ويتجمَّد الشعر ــ الخطأُ الذي يقودُ إلى اكتشاف قاراتٍ جديدة للمعنى، الإفراطُ الذي يحتوي تخيلاتٍ جديدة وإمكانات جديدة. وهذا ما سمّاه جواتاري انقباضًا كاوسميًا chaosmic.[3]

ورطة الجشتالت Gestalt والكاوس Chaose

في لغةٍ غير فلسفية، فإن ما أتحدثُ عنه هنا هو عجزُنا الراهن. فنشاطنا الإدراكي أسيرٌ داخل الصرف الارتباطي، والذهن العام، الذي فصله الجسمُ الاجتماعي، يتوسَّع ويُنتج طبقًا للمنطق المنقوش في الخوارزمة. يقعُ تعاونُ الملايين من العمال الإدراكيين عبر العالم في أحبولةِ الشكل الخوارزمي للرأسمالية: المعرفة والتكنولوجيا يوجّههُما ويحتويهُما النموذج المعياري paradigm السائد، الذي هو الجشتالتGestalt .

أيُّ جشتالت ليس مجرد شكل؛ إنه شكلٌ يولِّد أشكالًا طبقًا للجشتالت ذاته. فأي جشتالتٍ بعينِه يمنحُنا إمكانية رؤية هيئةٍ معينةٍ في التدفُّق المحيطِ للدوافع البصرية. لكن لنفس السبب، يمنعنا هذا الجشتالت من رؤية شيءٍ آخر في نفسِ تدفُّقِ الدوافع البصرية. الجشتالت مُيَسِّرٌ للرؤية، وفي نفس الوقت مُعيقٌ للرؤية (وللإدراك الحسي عمومًا). يمكن وصفُ مشكلتنا السياسية على أساس جشتالتٍ للوقوع في أحبولةٍ ولفك الأحبولة. كيف يمكن للإيقاع الحيوي [البيوريثم] أن يُخلِّصَ نفسَه من أحبولة الخوارزمة و يُعيدَ في نهاية المطاف برمجةَ الخوارزمة ذاتها؟

في «من الكاوس وإلى الذهن»، الفصل الأخير من كتاب دولوز وجواتاري ما الفلسفة؟ يتحدثان عن بلوغ الشيخوخة. وبلوغُ الشيخوخة يعني جوهريًا أن يغزو الكاوسُ المرءَ: يعجز الذهنُ المسِنُّ عن تطوير الكاوس المحيط.

بسرعةٍ مُفرِطة، بسرعةٍ مُفرِطة ــ دائرةُ المعلوماتِ حول ذهني تمضي أسرع من إمكانية التطوير الوجداني والنقدي.

الشيخوخة هي سمةٌ مُحدِّدةٌ لعصرنا. الناس يعيشون أطولَ ويُنجِبونَ أقل (باستثناء بعض البلدان الإسلامية والإفريقية). والتراجعُ الديموغرافي للجنس الأبيض هو توضيحٌ للموجةِ المتنامية من نزعة التفوقِ المتناميةِ كردِّ فِعل، والتي هي أولًا وقبل كل شيء نزعةُ تفوقٍ عاجزة. وقد كسب ترامب بسبب هذا الشعور.

جاء أوباما إلى الصدارة مُعلِنًا، «نعم نستطيع». لكن سنوات أوباما كانت تتميزُ بالعجز. هذا العجزُ غَذَّى الإحباطَ والسُخط، مُتعهِّدًا الفاشية بالرعاية في نهاية المطاف. فهل ثمة مخرجٌ من هذا السخط العاجز؟ كيف يمكننا لأمُ جُرحِ الصدمة وتجاوزُ تأثيرات ما بعد ـ الصدمة للقيامة [الأبوكاليبس] الحالية؟

يجب أن نحوِّل بؤرة اهتمامنا النظري من مجال السياسة إلى مجال مطواعية المخ neuroplasticity العصبية.[4] يجب أن نخلق منصاتٍ تقنية لإتاحة إعادة ترتيبٍ عصبية للذهن العام.

وأنا أسمي هذا المنظورُ المجيءَ الثاني للشيوعية.


[1] فيتوريو أريجوني: (1975 – 2011) صحفي، وكاتب، وناشط، وداعية سلام إيطالي عمل مع حركة التضامن الدولية مع الفلسطينيين في غزة من 2008 حتى موته. ريتشل كوري):1979 – 2003) ناشطة أمريكية عملت مع حركة التضامن الدولية مع الفلسطينيين في غزة.

[2] لاري بيج: (1973) عالم كمبيوتر وخبير إنترنت، شارك سيرجي برين في تأسيس جوجل.

[3] Chaosmic: من chaosmosis التي تعني عند جواتاري انبثاق التناغم من الكاوس.

[4] المطواعية العصبية، أو المخية: هي السيرورة التي تتعدل خلالها العقد والمسارات العصبية في المخ كتأثيرٍ لتحولات بيئية، أو سلوكية، أو عصبية. وخلال هذه التغيرات تتشكل، أو يعاد تنظيم، ارتباطات عصبية خصوصًا كاستجابة للتعلم أو الخبرة، أو نتيجةً لإصابة. هي قدرة المخ على التغير باستمرار خلال كل حياة المرء.