قِشْر النارنج

قصة لصمد بهرنگي*

ترجمة: محمود أحمد

خاص بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

* صمد بهرنگي (1939-1967) هو كاتب إيراني ومترجم وباحث في الفولكلور. اشتغل بالتدريس في القرى، واشتهر بالكتابة للأطفال، ودعمه لحقوق الطفل في التعليم. مات غرقًا في نهر آرس واتُهم السافاك (المخابرات الإيرانية) بقتله.

***

صمد بهرنگي إلى يمين الصورة، عن sedayemoallem

أجل، لقد كان ذنبي؛ كان ذنبي لأنني اضطررت إلى المكوث في المدينة يوم الجمعة. وربما كان ذنب زوجة القهوجي إذ ألمَّ بها وجع المعدة. ولكن كلا، لا كان ذنبي، ولا ذنب زوجة القهوجي. فالأمر ليس بهذه البساطة؛ ومن الأفضل أن أروي لكم الواقعة منذ بدايتها لتحكموا بأنفسكم ذنب من كان، لعله ما من ذنب في الأمر.

في ظهيرة يوم الخميس كنتُ جالسًا أمام المقهى تحت فيء شجرة التوت، أتناول حساء اللحم، لأتوجه فيما بعد إلى ناصية الشارع، ومن هناك أذهب إلى المدينة بالحافلة. كنت قد علقتُ العمل في المدرسة مؤخرًا، ولا أدري بأي سرعة حمل طاهر كتبه إلى البيت، وأحضر العربة هناك عند الحوض، وراح يسقي الحصان، وكان يُخرج الخبز من جيوبه المنتفخة باستمرار، ويلتهمه. أخذ القهوجي وعاء الحساء من أمامي، وقال لابنه صاحب علي أن يحضر لي شايًا وأرجيلة، وجلس بجانبي قائلًا: «يا سيدي المعلم، كان عندي التماس صغير».

فقلتُ: «اؤمرني، يا نوروش آقا».

أحضر صاحب علي الشاي، وانصرف ليُعمِّر الأرجيلة. فقال القهوجي: «لقد أصيبت أم صاحب علي بوجع المعدة منذ الليل وحتى الآن، ولا تهدأ ولا تستقر؛ وأعطيناها خلاصة الريحان ولم تتحسن، وغلينا الزنجبيل والنعناع، وأسقيناها، ولم تتحسن. وقالت أم منجوق إنها ستُشفى لو غلت قشر النارنج، وشربته. لكن لا يوجد في القرية قشرة نارنج. وكان عندي قطعة منه، ولكني لا أدري لمن أعطيتُها منذ عدة أيام. حسنًا، يا سيدي المعلم، والآن إذ أنتَ عازم على الذهاب إلى المدينة، فسوف أزعجك بأن تجلب لنا قليلًا من قشر النارنج».

أحضر صاحب علي الأرجيلة، ووضعها أمامي، ووقف قائمًا بجواري لينصت إلى كلامنا، وعندما قلت: «على عيني يا نوروش آقا، سأجلب لك بالتأكيد». فرح صاحب علي كما لو كان يرى أمه صحيحة سالمة.

وفي صباح يوم السبت حينما ترجلتُ من الحافلة عند ناصية الشارع، كان معي ثمرة نارنج ضخمة في حقيبتي. فقد قيل قديمًا إن مغلي قشر النارنج مفيد لوجع المعدة؛ لكن لأي من أوجاع المعدة؟

يستغرق الطريق من ناصية الشارع إلى القرية، إن حثثتَ السير، ساعة إلا ربع الساعة. جئت ماشيًا، ووصلت إلى القرية؛ توجهت إلى منزلي أولًا، وأخذت ثمرة النارنج وكتابين ثلاثة كانوا ضروريين للدراسة، وغادرت. وفي الفناء وقف أمامي صاحب البيت، وبعد السلام والتحية، قال: «فليرحمها الله، كلنا راحلون».

آخ!… أصبح صاحب علي يتيمًا. أيها الغلام صاحب علي! الآن مَن سيضع لك الخبز بمنديلك في الصباح لتأخذه وتتناوله في الفصل؟

وكأن ثمرة النارنج قد استحالت في يدي إلى صخرة يثقل حملها.

فسألت: «متى؟»

فأجاب صاحب البيت: «ليل الخميس، كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل. ودفناها بالأمس».

قفلت راجعًا إلى البيت، وأخفيت ثمرة النارنج خلف الكتب. وبعد ذلك، أخرجتها من هناك، ودسستها في فراشي؛ لم أكن أريد عندما يأتي صاحب علي أو القهوجي إلى منزلي أن يلمحا ثمرة النارنج.

أُغلق المقهى يومًا أو يومين، ثم أعيد إلى العمل مجددًا، لكن لم يكن صاحب علي يقظًا ومنتبهًا لعشرة أو عشرين يومًا، وكأنه قد نسي الضحك، ولم يعد يلعب، ودائمًا ما كان منغمسًا بالتفكير. ولم يكن يتكلم معي أصلًا، كما لو أننا متخاصمان منذ سنوات. حتى عندما أرتاد المقهى، كان بالكاد يرد تحيتي.

كان الخجل يعتري القهوجي جراء سلوك صاحب علي البارد حيالي، ويقول لي: «إنه يتعامل مع الناس كلهم هكذا، لا تهتم بالأمر يا سيدي المعلم».

فأقول: «واضح، فالطفل لا يطيق الفراق، ينبغي أن تمر عدة أشهر لينسى رويدًا رويدًا».

منذ أن ماتت أم صاحب علي، حزم القهوجي أمتعته وأغراضه البسيطة، وحملها إلى المقهى، وبات الأب والابن يقضيان نهارهما وليلهما هنالك. وفي بعض الأحيان كنت أعود من المقهى إلى منزلي في منتصف الليل.

انقضت مدة من الوقت، لكن صاحب علي لم يعد إلى سيرته الأولى، وكان سلوكه معي يسوء يومًا بعد يوم، ويصغي قليلًا إلى درسي، ويتعلم قليلًا. وبالطبع كان سلوكه في الخارج ومع الآخرين كسابق عهده، ولكنه لم يكن يبدي لي، أنا فقط، وجهًا حسنًا.

مهما فكرت، لم يصل عقلي إلى غاية، ولم أستطع أن أفهم لماذا يكرهني صاحب علي بعد وفاة والدته، وأحيانًا أقول لنفسي: «عسى صاحب علي يظن أنني المذنب في موت أمه؟» لكن كانت هذه الفكرة حمقاء وتافهة بحيث لا يمكن أصلًا أن تعيرها اهتمامًا.

كنت أحسب في نفسي أن أم صاحب علي قد ماتت بسبب التهاب الزائدة الدودية، وكانت في حاجة إلى إجراء عملية جراحية فورية لتظل على قيد الحياة.

وذات يوم، قابلنا كلمة نارنج في الحصة الدراسية، وسألت الأطفال: «من رأى النارنج؟» فلم يند عن أحد صوت. لكن بدا وكأن حفيد أم منجوق أراد أن يقول شيئًا إلا أنه لم ينبس.

عاودت السؤال: «من يعرف ما هو النارنج؟»

ومجددًا، لم يصدر عن أحد صوت. إلا أن حفيد أم منجوق بدا وكأنه يرغب في أن يقول شيئًا بيد أنه لم يفتح فمه.

قلت: «يا حيدر علي، وكأنك تريد أن تقول شيئًا، ها؟ قل ما تشاء يا حبيبي».

فاتجهت الأعين، الآن، صوب حفيد أم منجوق، ما عدا صاحب علي الذي كان يحدق إلى السبورة مباشرةً، وكأنه مثلًا لا يصغي إلى كلامي. منذ اللحظة التي جاء فيها ذكر النارنج، وصاحب علي جالس يرمق السبورة.

قال حفيد أم منجوق بقليل من الخوف والحذر: «يا سيدي، معي ثمرة نارنج».

لم يكن أحد يتوقع ذلك الكلام من حيدر علي، لذا ضجوا جميعًا بالضحك دفعة واحدة. وخفت البريق في عيني صاحب علي، والتفت، لا إراديًا، إلى حفيد أم منجوق. كان جميع التلاميذ يريدون أن يعرفوا بسرعة شكل النارنج وأوصافه.

قام علي الطويل، أكثر التلاميذ شغبًا في الفصل، وقال: «إنه يكذب يا سيدي، لو كان معه نارنج، فليظهره».

أجلست علي الطويل في مكانه، وقلت: «إنه نفسه يريد أن يظهره».

وعلى الفور أخرج حفيد أم منجوق كتاب العلوم، وراح يقلب صفحاته، ويبحث عن شيء ما، بيد أنه لم يجده، ويقول باستمرار: «الآن سأريكم. لقد وضعته بين صورة القلب وصورة الشرايين».

أخذت الكتاب من حفيد أم منجوق. والآن حدقت الأعين كلها إلى يديَّ، حتى عينا صاحب علي؛ كانوا كلهم يرومون أن يروا مدى طرافة النارنج . وسررت لأني كنت أجذب صاحب علي رويدًا رويدًا نحو المودة والحب، بيد أنني لم أستطع أن أعرف أي أمر قد جعل صاحب علي يلتفت إليَّ. هل كان يريد أن يرى شكل النارنج فقط؟

وجدت صورتي القلب وشرايين الجسم في كتاب حيدر علي، وأريتهم جميعًا تينك الصفحتين. وبالطبع، لم يكن في الأمر ثمرة نارنج، لكن شوهدت بقعة صفراء اللون على كلتا صفحتي الكتاب. ونهض صاحب علي، قبلهم كلهم، وحدَّق في وسط الكتاب، ثم انتظرني لأتكلم.

كانت رائحة النارنج تفوح من بين دفتي الكتاب، وبغتةً تذكرت أنني نسيت حتى هذه اللحظة أن أنظفه.

بعد عدة أيام من وفاة أم صاحب علي، كنت قد أخذت ثمرة النارنج وأعطيتها لأم منجوق، لتبقيها عندها حتى إذا احتاجها شخص آخر، فليأت، ويأخذها منها.

كانت أم منجوق عجوز القرية. ويقول الناس إنها تعرف جميع أنواع الأدوية والعلاجات، وتعمل قابلة أيضًا.

وتعيش أم منجوق مع حفيدها حيدر علي، ولم يعد لها أحد في الدنيا غيره، ولهذا كانت تحبه حبًا جمًا. ولم يكن لحيدر علي أيضًا أحد في الدنيا سوى جدته، وندعوه كلنا في القرية «حفيد أم منجوق»، ونادرًا ما كان يجري ذكر اسمه على الألسنة. وعندما تذكرت أنني أعطيت ثمرة النارنج لأم منجوق، أدركت أن البقعة الصفراء في كتاب حيدر علي تخص قطعة من قشرة ثمرة النارنج ذاتها التي أعطتها أم منجوق لحفيدها، وهو أيضًا وضعها بين صفحات كتابه.

وأنا نفسي عندما كنت أذهب إلى المدرسة، كنت أضع قشر البرتقال والنارنج بين صفحات كتابي ليصير زكي الرائحة.

وعندما وجد حفيد أم منجوق أنه ما من شيء بين دفتي الكتاب، أجهش بالبكاء كما لو كان فقد شيئًا ثمينًا، وقال: «يا سيدي، لقد سُرقت نارنجتي».

رمقت وجوه الأطفال واحدًا واحدًا. أيهم من الممكن أن يكون سرق ثمرة نارنج حيدر علي؟ علي الطويل؟ أم طاهر؟ أم صاحب علي؟ أيهم؟

أسكتُّ حفيد أم منجوق، وقلت: «والآن، لا تبكِ، فسأرى ماذا فعلتَ بها. ربما أضعتها».

رد حفيد أم منجوق: «لا يا سيدي، لقد ألقيت عليها نظرة في الصباح، وكانت في مكانها، ولم أعد إلى البيت في الظهيرة أيضًا».

كان يصدق القول، فأم طاهر قد أصيبت بألم في بطنها منذ الليلة الماضية، وكانت تريد أن تضع حملها، وكانت أم منجوق عندها أيضًا، واضطر حيدر علي إلى أن يمكث في المدرسة وقت الظهر.

قلت: «يا أولاد، من يعرف شيئًا عن ثمرة نارنج حيدر علي، فليقل بنفسه. ويجب ألا يكذب بعضنا على بعض، فنحن أصدقاء، وقد قلنا إننا نكذب على عدونا، وعلى من لا نثق فيه".

كان لصاحب علي عينان وأذنان، واقترض عينين وأذنين أخريين، وراح يدقق النظر، ويرهف السمع.

عدت أقول: «حسنًا، أفي النهاية لم يتضح من سرق ثمرة النارنج؟»

لم يند عن أحد صوت لوهلة، ثم رفع علي الطويل يده، وقال: «يا سيدي، أنا أخذتها، لكنها ليست معي الآن؟»

قلت: «وماذا فعلتَ بها؟»

فأجاب علي الطويل: «يا سيدي، لقد أعطيتها لقهرمان ليُعطِّر كتابه، لكنه يقول الآن إنها ليست معي، وقد أعدتها».

نهض قهرمان من مكانه، وقال: «إن أردتَّ الحقيقة يا سيدي، فنصفها معي».

فقلت: «والنصف الآخر؟»

فأجاب قهرمان: «يا سيدي، لقد أعطيت نصفها الآخر لطاهر».

أخرج قهرمان قطعة صغيرة من قشر النارنج من وسط كتاب الرياضيات، ووضعها أمام مكتبي؛ كانت قشرة النارنج قد تيبست مثل الخزف. انصرفت جميع الأنظار عن وجه طاهر، والتفتت إلى مكتبي؛ إذ كانوا يرومون كلهم أن يأخذوها، ويتفحصوها بأنظارهم، ويتشمموها. وضعت كراسة الحساب على قشرة النارنج، والتفتُ نحو طاهر. فاضطر طاهر إلى أن يقوم قائلَا: «يا سيدي، أنا معي نصف نصفها، وأعطيت الباقي لدلال أوغلي».

وأخرج طاهر أيضًا قطعة صغيرة من قشرة النارنج من وسط كتاب العلوم، وأعطاني إياها. وهكذا كانت قشرة النارنج قد انشطرت خمس أو ست مرات، ووصلت إلى آخر شخص قطعة صغيرة للغاية بحجم نصف عقلة أصبع.

ومع ظهور كل قطعة من قشرة النارنج، أخذ حفيد أم منجوق يعود إلى سيرته الأولى. لكن صاحب علي كان يمعن النظر متفحصًا قطع قشرة النارنج دون أن يتكلم أو يضحك، وينتظر نهاية الأمر.

وعندما تجمعت القطع كافة، أخذتها كلها في يدي لأرى ماذا عليَّ أن أفعل. كنت أريد، قبل كل شيء، أن أقول للأطفال إن هذه ليست ثمرة النارنج ذاتها، وإنما قطعة من قشرتها قد تيبست، بيد أن صاحب علي لم يتح لي الفرصة، فاندفع من مكانه على حين غرة، ولكم يدي بغضب وحنق بحيث تناثرت قطع قشرة النارنج في الهواء، وسقطت كل منها في ناحية ما.

راح بعضهم يبحثون عنها تحت المقاعد، إلا أنهم برزوا جميعًا مع صوتي، وجلسوا في هدوء وصمت؛ كانوا قد تصوروا أنني غضبت ومن الممكن أن أضرب أحدهم. وجلس صاحب علي في مكانه، وأجهش بالبكاء؛ بكاء أوشك أن يُبكي الجميع.

وفي المساء، مكثت في المقهى إلى أن غادر جميع الزبائن، وبقيت أنا وصاحب المقهى وصاحب علي.

كنت متأكدًا من أنني عثرت على طرف الخيط، وبوسعي، بقليل من التدقيق، أن أفهم كل شيء، وقصدي أن سبب عبوس صاحب علي في وجهي وغضبه مني، كان يرجع بالتأكيد إلى مسألة النارنج بطريقة ما، لكن كيف؟ لم أعلم هذا بعد.

كان صاحب علي جالسًا على الأريكة، وقد انكفأ على الكتاب كما لو أنه يذاكر الدرس، وينجز واجباته المنزلية، إلا أنني انتبهت جيدًا إلى أنه كان في انتظار كلامي. وعندما خلا المقهى، قلت: «كيف حالك يا صاحب علي؟» فلم يرد صاحب علي، وقال صاحب المقهى: «يا بنيَّ، إن السيد المعلم يحدثك». فرفع صاحب علي رأسه قليلًا، وقال: «إني بخير».

قلت: «يا صاحب علي، إذا شئتَ، حين أذهب إلى المدينة هذه المرة فسأشتري ثمرة نارنج وأحضرها لك، ها؟»

قلت هذا لأستدرج صاحب علي في الحديث، وكان غرضي شيئًا آخر. وكان القهوجي يريد أن يتكلم مجددًا، فطلبت منه ألا يتدخل في أمرنا. ولم يتفوه صاحب علي بكلمة، فقلت ثانيةً: «ألا تريد النارنج يا صاحب علي؟»

فانفجر صاحب علي فجأة مثل القذيفة، وقال: «إن كنتَ صادق القول، فلِمَ لم تحضر ثمرة النارنج عندما كانت أمي تحتضر؟ لو كنتَ أحضرت النارنج، لظلت أمي على قيد الحياة».

أفرغ صاحب علي غيظ قلبه، وأجهش بالبكاء. ولم يكن نوروش آقا يدري ماذا يفعل؛ أيهدئ ابنه، أم يعتذر إليَّ، ويمنع الدمع الذي ملأ عيني من الانهمار.

والآن كان من الضروري أن أقنع صاحب علي بطريقة ما بأن قشرة النارنج لا تستطيع أن تحول دون موت أمه، إلا أن هذا الأمر، كان في غاية المشقة.