حديث شخصي عن بدر الديب

مقال للكتاب والروائي عادل عصمت

نُشر في مجلة «كلمة» عام 2008

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه

***

«هذه القصص جارحة كما يكون الصدق جارحًا. سيدي، لقد عشت في الكذب دهرًا طويلًا وآن أن تحطم طبقاته المتراكمة التي تحميك من خشونة الحقيقة، فإن كنت قد سئمت الكذب واشتقت إلى عذاب الحقيقة فهذا هو المطهر، وأنا زعيم لك بأن روحك سوف تنزف من أول سطر في هذه القصص، وانك لن تستطيع أن تدعها حتى تنتهي من قراءتها، وانها ستظل تعيش في ذهنك –كما عاشت- في ذهني قلقًا دائمًا بعد أن تفرغ من قراءتها.. ليست هذه سادية ولا مازوكية، فقط: درس في الشجاعة».

كانت تلك كلمات «شكري عياد» التي توقفت عندها، على ظهر غلاف كتاب «حديث شخصي» لبدر الديب في ظهيرة يوم جمعة، في صالة معتمة من صالات نادي طنطا التي كان يقام بها معرض للكتاب، في بداية التسعينيات من القرن الماضي. أعدت قراءة الكلمات الحادة الواثقة: من هذا الشخص المكشوف عنه الحجاب الذي يدعي أنني عشت في الكذب دهرًا طويلًا؟ من هذا الذي يدعي معرفتي أكثر مما أعرف نفسي؟ ويغويني بقراءة هذا الكتاب بحدة ويقين ومعرفة أن ما بين دفتيه هو درس في الشجاعة؟

في ظلمة البداية عندما كنت أحاول الكتابة، وأنسخ على منوال قصص كتاب الستينيات، كانت النتيجة رديئة بامتياز، وفي ظل هذه الحيرة والوحدة، وجدت مثل تلك الكلمات وهذا الصوت الذي يتحدث بهذه المعرفة الكلية، ويعد بأمر ليس شكليًا؛ لا يقول هذه قصة شيقة أو غيره من تلك الأمور التي تروج لسلع، في الغالب، لا تفي بما تعد به، بل يتحدث عن الروح، عن الحياة أكثر مما يتحدث عن خلقها في صورة الأدب، في هذه اللحظة، ربما الصدفة هي التي دفعتني أجرب قراءة الكتاب.

كانت تجربة لا تنسي، وكان «شكري عياد» صادقًا. لقد قادني هذا الكتاب إلى نوع من الاستنارة، لقد أضاء لي أمرًا، كنت غافيًا عنه حتى ذلك الوقت. أذكر ذلك اليوم الذي انتهيت فيه من قراءة الكتاب. كنت قد قضيت وقتًا طويلًا في «قهوتي» في ميدان الساعة في طنطا، وخرجت في غبشة المغرب أشعر بأن الكتاب قد أعطاني مفتاحًا سريَا للكتابة. في الميدان، في طريقي إلى البيت، كان كل شيء حولي قد بُعِث وصحى من غفوته، كل شخص ممن رأيت وجهه في ذلك المساء كان يمكن أن يكون شخصية روائية، من يركبون أتوبيسات المدينة التي تقف أمام سينما أمير، والبنات والأمهات اللاتي يدخلن «عمر أفندي» لشراء بقايا «جهاز» العروس، والنساء والرجال والأطفال أمام قسم أول طنطا في انتظار الإفراج عن أولادهم المحبوسين في التخشيبة. أدركت في ذلك اليوم أنني لو أعطيتهم أقلامًا وتركتهم يبحثون عن قلق قلوبهم، عن ذكرياتهم البعيدة، أمانيهم التي لم تتحقق، أفراحهم، وأسفارهم الأولي، الآلام التي تطن في أرواحهم سيستطيعون أن يقتربوا –بطريقة بدر الديب- من التجربة الداخلية الفريدة لكل منهم. لقد استطعت في هذا المساء أن أرى أن هؤلاء بشر وليسوا أشباحًا، ألا تستطيع أي واحدة من تلك النساء الجالسات أمام «القسم» أن تكتب مثلما كتبت «سميحة عبدالعظيم» بطلة قصة «ترتيب الغرف»؟

لقد كشفت لي تلك الكتابة زيف فكرة أن لغة الشخصية لا بد أن تطابق تعليمها. شخص غير متعلم لا يصح أن يتكلم بطريقة المتعلمين. قد يكون هذا صحيحًا في مجال الاتصال اليومي، لكن في الأدب، الذي مادته التجربة الداخلية للبشر، فالألم الذي قد يشعر به فلاح لا يختلف كثيرًا –في مادته- عن الألم الذي يشعر به شخص حاصل على شهادة علمية. ألم الحب أو الموت أو الوحدة أو الغربة، جماع التجربة الداخلية للبشر تستدعي تخطي اللغة اليومية وابتكار لغة أخرى تصلح للتعبير عن الحياة الباطنية للإنسان.

إن «ترتيب الغرف» درس بليغ في هذه الفكرة. هذه «الخيَّاطة» تتحدث بلغة فكرية دقيقة وهبها لها المؤلف، لأنه لا مجال للتعبير عن الآلام الكبرى بغير لغة تسمو للإحاطة بتعقيد هذه التجارب، ورغم أن المرء طول الوقت (وهو يقرأ هذه القصة)، يقول لنفسه: «لا يمكن لخياطة أن تتكلم بهذه الطريقة» غير أن «بدر الديب» لا يعبأ بك، بالزيف الذي تظنه حقائق، حتى تتعلم في النهاية أن الأدب ليس كلام الشخصية بل تجربتها. فهذه تجربة «سميحة عبد العظيم» وليس كلامها، والأدب في النهاية هو «تقنية»، «أداة اصطناعية» للوصول إلى شيء من حقائق الحياة. فلا داعي للزيف، إذا كنت أنت من يكتب وليس تاجر البطاطس أو عامل الفرن، ليس من الضروري نقل لغته التي تختلف في أغراضها عن أغراض كتابة تجربته، فالمعروف أنك الراوي الذي يتحدث، حتى لو استعرت صوته حتى تساعد نفسك وتساعده في أن يكشف عن أعماق روحه. لا داعي للزيف لأن النزول إلى لغة الشخصية لن يساعد في الكشف عنها ولا يساعدها في التعرف على نفسها. هذه دروس لا تُنسى تمنحها للمرء قراءة كتب بدر الديب.

بعد عدة أشهر بدأت كتابة روايتي الأول، وطيف من الحرية التي منحتها لي قراءة «حديث شخصي» يسرى في أفكاري. لقد عرفت في البداية أن عليَّ أن أتوقف عن «النسخ»، وأن «أكتب» ولكي أعثر على كتابة حقيقية عليَّ أن أكون قادرًا على أن أنظر في «السريرة» وأحاول أن أسرد ما أرى. وبتأمل أسلوب «بدر الديب» أدركت أن الأسلوب هو «الذات»، وأنه بلا «ذات» ولا أسلوب. الأسلوب لا يمكن صناعته، إنه شيء طبيعي ينمو مثلما تنمو الذات، وأنه مرتبط بالمعرفة، كلما تعرفت على ذاتك أكثر زاد أسلوبك وضوحًا وإشراقًا، إنه طريقة في التعبير لا تستطيع صناعتها وإن فعلت فسيظل حاملًا رنين الحليات ولمعان الزخارف، لكنه سيكون خاليًا من الروح، إنه طريقة يجب اكتشافها وتطويرها.

عندما أنهيت كتابي الأول كنت أشعر بامتنان لبدر الديب، لقد ساعدني أن أتبصر؛ أين يمكن أن أضع خطوتي الأولي لأكتشف طريقي، ساعدني أن أفهم أن الكتابة أداة للمعرفة مثل القراءة أو الدراسة، إنها ليست وسيلة لقول ما تعرف بل لاكتشاف ما لا تعرف، وسيلة للكشف والتعرف، وعرفني أن الكتابة قد لا تكون سردًا فحسب بل تأملًا في السرد أيضًا. في المكالمة التليفونية الوحيدة بيني وبينه والتي كان يحدثني فيها عن رواية «هاجس موت» وينصحني بأن أقرأ في الأديان الشرقية، كنت مرتبكًا، فقد بدا لي أنه شخص صنعته بخيالي أكثر منه شخص حقيقي يتحدث معي، حتى أن نبرة صوته اختفت من ذهني ما إن وضعت سماعة التليفون. في تلك المكالمة دعاني لزيارته في بيته. لم أستطع أن ألبي الدعوة، ولمت نفسي بشدة لأنني فرطت في لقاء طالما تمنيته. بعد رحيله أدركت ما في الخسائر من مزايا، على الأقل فإن من تحبهم لا يموتون.


اقرأ المزيد لعادل عصمت: الرواية والتاريخ