الرواية والتاريخ

شهادة للكاتب والروائي عادل عصمت

ألقيت الشهادة في الملتقى الدولي للرواية العربية بالقاهرة، 2015.

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

***

طلبت مني مجلة «أمكنة» في خريف عام 2001 أن أكتب مقالًا مطولًا عن قريتي. ابتعدت لأول مرة عن الكتابة القصصية بالمعنى الذي كنت أعرفه. تعثرت في البداية، لكن بمرور الوقت اكتشفت طريقي، عندما لاح لي أنه يمكن أن أجسد ما عشته في بلدتي منقولًا على التفاصيل. كانت أيامًا مبهجة تلك الأيام التي كتبت فيها كتاب «قرية منسية» وضمنته كتابي «ناس وأماكن» الذي أصدرته هيئة قصور الثقافة عام 2010 في سلسلة هوية المكان. أحببت تجربة كتابة «قرية منسية»، لأنها قادتني لاكتشاف معنى آخر للكتابة وربما ساعدتني في تفهم فكرة «الذات» و«المكان». عرفت أن ما لا يعتد به في تقاليد الكتابة السائدة، قد يكون هو الكتابة التي أبحث عنها، وساعدتني في التحرر من شبكة من الأفكار -حول الكتابة- كانت تعوق حركتي.

في هذا الكتاب الذي يقع بين السرد ورصد الانطباعات الشخصية عن الأماكن، رحت أحكي تاريخًا شخصيًا للقرية، تاريخًا يخص انطباعاتي، ويعتمد على استبطان الخبرة، ووصفها دون أي اعتبار للأفكار العامة والمتوارثة. تلك الانطباعات السائلة التي تزخر بالكثير من المعاني والمعلومات التي نحملها وننظر إليها على أنها مجرد أطياف وليست معارف حقيقية؛ بتجسيدها كانت تتحول إلى شيء حي، أكثر حياة من القرى التي قرأت عنها، أو هكذا خُيَّل إليَّ.

كان الأمر يخص اكتشاف بلدتي في التفاصيل الصغيرة الهامشية، مثل القناطر، والبيوت والنور والفراغ. كنت أكتشف أفكاري التي لم أكن أعرفها قبل الكتابة. هذا العالم الذي بُعث حيًّا، كان غريبًا عليَّ رغم أنني كنت أحمله بين جوانحي طول الوقت، ربما هي تلك المعارف المنسية التي كان يحاول سقراط استخراجها من الناس، في الأسواق، وصاغ منها أفلاطون نظرية في المعرفة تقوم على أن البشر يعرفون كل شيء وهو مطمور في وجدانهم، ربما حبي لتلك الفكرة الغيبية هو الذي ألقى بهجة على عملي أثناء اكتماله. كان الأمر يخص أنني أتعرف على نفسي وعلى مكاني كوحدة واحدة، دون تمييز بين الذات والموضوع. المنطقة الضبابية التي تقع على حافة الذات والموضوع معًا، ساعدتني على تبصر ما عشته من مناخ ترسب في وجداني دون علمي.

واصلت عملي في السنوات التالية مع مجلة أمكنة وكتبت مقالات عن طنطا: عن المولد والمقاهي القديمة، ودور السينما، كنت أتعرف أيضا على تلك المدينة التي أحملها في وجداني وعشت فيها أغلب عمرى، كنت أتعرف على الروح السرية التي تسللت إلى وعيي، على الأماكن التي تحمل أطياف البشر، وعلى البشر الذين يحملون أطياف المكان. لقد تعلمت الكثير عن الذات والتاريخ والكتابة، في تلك الرحلة التي استمرت أكثر من عشر سنوات.

أدركت أن الذات هي الانطباعات السائلة عن المكان وتبدل الزمن، هي تلك الثروة من الانطباعات الشخصية عن حياتنا، فلا يمكن تخيل شعور بدون مكان، حتى عندما يفكر المرء في اللون الأزرق، لا يستطيع أن يعثر عليه في ذهنه إلا محمولًا على السماء أو البحر أو حتى ورقة قص ولصق زرقاء، لا بد أن يُرَكَّب اللون على محمول لكي يمكن إدراكه، ولقد تعلمت أن الحب أيضًا ليس أمرًا مجردًا، بل هو مشاعر وانطباعات تخص بشرًا وأماكن وأزمنة، لقد تفتتت الذات ولم تعد ذلك التصور العلوي المجرد عن فرادة البشر، رغم أنها موجودة فعلًا داخل المشاعر الفريدة بالمكان والزمان. واقتربت فكرة السيرة الذاتية من التاريخ الشخصي، وأدركت أننا متورطون في التاريخ، وأن أي محاولة للخلاص من التاريخ تبوء بالفشل، فسيرتنا الشخصية محملة بنثار من الأحداث العامة لا يمكن الخلاص منه. ربما هو قدرنا في البلاد المستعمَرة أن يطاردنا التاريخ ويدخل سيرنا الشخصية، فلا أحد يمكنه أن يخلع سيرته الخاصة من سيرة مكانه وسيرة وطنه، فالحروب والأزمات الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية: المدارس والشوارع والصيحات الحديثة في الملابس والأغاني وقصات الشعر هي تاريخ للزمن والمكان وجزء من تكويننا العقلي والشعوري، هي سمات لسيرتنا الخاصة.

المكان مضفور في انطباعاتنا الحميمة، والأساطير التي تحكى –وتحدث حولنا- طول الوقت تترسب في الوعي، وهناك لا يمكن فصل العام عن الخاص، وتتبدى سيرتنا الشخصية على أنها التاريخ كما يظهر في وعينا بصورة خاصة وفريدة، وأثناء الكتابة تصبح المهمة أن نحرر تلك الفرادة من العمومية، والتوصل إلى ذلك الحس الشخصي الذي بإمكانه أن يلقى ضوءًا جديدًا على الحدث العام. هنا يظهر التاريخ بصورته الحقيقية كأنه تاريخ خاص. يتحرر من كونه أحداثًا عامة ويظهر كأنه تصورات شخص وحيد، وهو الأمر الذي تهمله البحوث التي تَدَّعي الموضوعية.

يتعرف التاريخ على نفسه في الوعي الشخصي، لأنه في الحقيقة لا يوجد إلا الأفراد، إلا وعيهم الشخصي -بعد تنقيته من التحيزات الأيدولوجية والأفكار الشائعة، والتصورات التي تغرسها السلطة في الأذهان- الذي يمنح الأحداث التاريخية معناها وروحها. فالحروب لا تجد معناها إلا عبر فرد، إلا عبر «أم» فقدت ابنها في الحرب، إلا عبر الرعب الذي يعاينه جندي أمام انفجار قنبلة أو طيران رأس زميل له، الرعب الذي لا يمكن فهمه عندما تنتهي إحدى المعارك وينظر الجندي بتعجب إلى زميله الذي كان يتحدث معه من لحظات فيجده وقد تناثر أشلاء، ولم يعد كائنًا، لا يمكن له أن يتحدث أو يبتسم أو يسرد ذكريات عن داره أو رغبته في الزواج من جارته. في هذا الرعب والوحدة التي يعايش فيها المرء فكرة التحديق في الهاوية، تجد حوادث التاريخ شكلها ومعناها، وهو أمر لا يخص الحروب ولا الأحداث الكبيرة، بل يخص أشد أمورنا خصوصية؛ تلك الدهشة من الميلاد، وتلك اللوعة والاستغراب أمام الموت، تلك المشاعر التي لا تُفسر للحب والحنين إلى بيوت طفولتنا، رائحة الأصباح ونحن في طريقنا إلى المدارس الابتدائية، هنا يظهر المعنى الغائب للحوادث التي تدخل ذلك السجل الذي نطلق عليه التاريخ، وهنا تكون مهمة فن الرواية هي استعادة ما لم تحتوِه تلك السجلات، ما لم تهتم به باعتباره لا يخص فخامة التاريخ، تحاول الرواية استعادة ما ضاع، تحاول أن تعيد إلى الوجه الملامح التي طمسها التاريخ.

التاريخ الشخصي الذي يتم العمل من أجل تخليصه من التصورات العامة، والتحيزات الشخصية، والوصول عبره إلى جوهر اللحظة الماضية، يعاد تركيبه في الرواية التي تمنحنا أدوات، نحاول بها تجسيد الخبرة التي أهدرتها الأيدولوجيا، ولم تهتم بها باعتبارها أحداثًا ليست مهمة: «تفاصيل».

تحاول الرواية إعادة الاعتبار لهذه التفاصيل. اكتشاف جوهرها الذي منحته لها إبداعية حياة البشر، وكذلك اكتشاف كيف استطاع الناس عبر هذه التفاصيل أن يتحملوا الحياة. ومن أجل ذلك تستعين الرواية بزاوية الرؤية، ونبرة الحكي، وغيرها من التقنيات التي ورثتها من أساتذة هذا الفن، في محاولة لتطويع تلك التقنيات، ليتمكن الروائي من تشكيل وخلق تلك الخبرة المهدرة، كي تستعيد بعض حيوية الحياة التي كانتها، وتكون صالحة لأن تدخل دائرة الفن الوفي لأصله الأسطوري، الذى يخلص تلك الأحداث من زمنيتها ويضعها حيث توجد الأساطير في ذلك المكان الذي لا يستطيع أن ينفذ إليه التاريخ.


اقرأ المزيد: عادل عصمت: رسالة إلى آنطون تشيخوف