اقتباسات من رواية «الباب الأزرق» لأندريا برينك

ترجمة: أحمد شافعي

إصدار: الكتب خان

الاقتباسات من اختيار: ياسمين أكرم

***

طوال حياتي وأنا أشعر بذلك الدافع الرهيب إلى أن يكون لي حيز يخصني أنا فقط ولا يمكن لأي شخص اختراقه أو غزوه، وأخشى أنه حتى في حياتي مع ليديا كنت أعيش طوال الوقت مستشعرًا حاجة ماسة إلى أن أستبقي شيئًا لنفسي لا أشركها فيه أبدًا، لا أعني مطلقًا أنني رغبت في أي لحظة في خيانتها، أو في الدخول في أي أمرٍ دنيء، سواء كان شعورًا سريًا أو معاملة مالية مريبة، ولكنني كنت بحاجة إلى حيز، ماديّ أو معنويّ، يكون لي وحدي، لا تصل إليه بقية العالم، ربما ذلك كان من توابع النشأة في أسرة كبيرة كأسرتي التي كانت الخصوصية فيها تبدو من جملة الترف؛ فما أكثر ما كنت أسحب البطانية حتى عنقي وأتشبث فيها موقنًا بأن شخصًا، قد يكون أخًا لي أو أختًا أو أحد أبوي أو حتى شخصًا غريبًا، سوف يدخل، بمجرد أن أروح في النوم، فيكشف عني البطانية لأتعرى أمام عينيه الشرهتين.


«هيا نرى من سيصل إليَّ أولًا»، أقول داعيًا كليهما إلى التسابق أمامي وهما يتصايحان في ابتهاج قبل أن أتبعهما.

كل شيء جاهز في الحمام الواقع في نهاية ممر جانبي منحنٍ: ماء في الحوض، ومنشفتان كبيرتان بيضاوتان ناعمتان، وحينما أصل يكون الطفلان شبه عريانين. وفي لمح البصر يكونان في الماء وجسماهما الصغيران الناعمان زلقان كأنهما فقمتان صغيرتان. بقعة ماء كبيرة تناثرت على الأرض بركًا صغيرة. أحذرهما: «حاسبا».

تقول إيميلي آمرة «هيا يا بابا».

ويستحثني تومي «هيا هيا».

أحتاط فأنشف الأرضية قبل أن أبدأ في خلع ثيابي. حتى أصابعي ترتعش من فرط الحرج، ولكنهما فيما يبدو لا يلاحظان أي شيء استثنائي، وبعد لحظات أنزلق معهما. من حسن الحظ أن في الماء لعبًا من كل شكل ولون فلا أجد مشقة في تغطية نفسي. ولكنني حرصًا على أن أنتهي بسرعة وأخرج بسرعة وأرتدي ثيابي بسرعة قبل أن تظهر أمهما، أبدأ في القيام بخطوات استحمام روتينية، ثم أسرع بأداء مهمة تحميمهما على عجل، وهي مهمة ليست بالهينة نهائيًا، إذ هما لا يكفان عن التملص والطرطشة كأنهما سمكتان.

وحتى بعد خروجي وارتدائي يظلان يعملان على لفت نظري إليهما. فتومي مثلًا عنده جروح وكدمات وهمية على ركبتيه وأصابع قدميه ويريد أن يريني إياها، ثم ينبغي تقبيلها جميعًا قبل أن يتعطف ويتركني. وإيميلي تنجح في بل شعرها الطويل وتصر على أن يتم تجفيفه قبل أن تعود إلى لعبها بالبطة الصفراء وباربي المفككة تقريبًا.


بسرعة تقترح سارة: «طيب، احكِ لنا أنت حكاية الأسرِّة».

وقبل أن تُقاطع إميلي، ينطلق هو بشيء من الغطرسة والعفرتة قائلًا:

«كان الرجل الصغير الأحمر ينام في السرير الأحمر الصغير، والرجل الأصفر الصغير في السرير الأصفر الصغير، والرجل الأزرق الصغير في السرير الأزرق الصغير».

ومن هنا تنتقل الحكاية إلى إيميلي فتمضي معها القصة في مسارها، وهي تتضح لي ببطء من أيام طفولتي، إذ يُقيم الرجال الصغار الثلاثة مركبًا ويسحبونه إلى البحر، ويصل دلفين ليأخذهم إلى الشاطيء الآخر، وهناك يزورون المرأة الصغيرة البرتقالية، والمرأة الصغيرة الخضراء، والمرأة الصغيرة القرمزية، في البيت الصغير الأسود، ثم يرجع الدلفين ليعيدهم إلى البيت، ولكن الدنيا مظلمة وهم متعبون بعد يومهم الطويل، فيدخل كل منهم سرير الآخر، ولا يتمكنون جميعًا من النوم. الرجل الصغير الأحمر في السرير الصغير الأصفر، والأصفر في السرير الأزرق، والأزرق في السرير الأحمر.

إلى أن يُفكر أحدهم في إضاءة المصباح فينتبهون إلى الغلطة، ويعود كل واحدٍ منهم إلى سريره، وينامون جميعًا نومًا سعيدًا حتى مطلع الفجر.

«ممتاز»، تقولها سارة وهي تنهض بسرعة، فتحكم الغطاء حول الصغيرين، وتقبلهما، وتقول في سعادة: "والآن، ناما أنتما أيضًا كل واحد في سريره الصغير، وبعد العشاء أنا وبابا سوف نذهب إلى سريرنا، وبعد ذلك نعيش جميعًا في سعادة لا تنتهي".


أقول لنفسي ما أبسط الأمر. ولكن إلى متى يمكنني احتماله؟ لقد ألزمت نفسي للتو تجاه امرأة لم تقع عيناي عليها من قبل. امرأة جميلة جدًا، عاطفية جدًا، يدها في هذه اللحظة بالتحديد تحتوي يدي. وربما، بمجرد أن أصحو في الصباح، لا أراها مرة أخرى.


تسأله سارة وهي تضمه بين ذراعيها وتشده إليها: «أصابك برد يا حبيبي؟»، تترك أنفه لطخة رطبة على خدها.

يومئ تومي رأسه بقوة، ثم يبتسم على الفور ابتسامة عريضة، «لكن عارفة، الهواء أيضًا أصابه البرد، سمعته طول الليل وهو يستنشق مخاطه».

«الليلة سوف نعطيه منديلًا كبيرًا ليتمخط على راحته، أوكي؟»

تسخر منه إيميلي قائلة بأنفٍ متجعد، إن «الهواء لا يحتاج إلى بطانية أيها الأبله، عنده السحاب».


ألوِّح لها من باب المطبخ قائلًا بعفوية: «باي باي يا حبيبتي».

وعلى حين غرة، تتوقف وتلتفت، قائلة:

«باي باي يا حبيبي»، ثم تفتح باب السيارة للطفلين فيندفعان داخلين كالإعصار، وهما يتصايحان.

مندهشًا، أسأل: «وما الذي يجعلني حبيبك؟».

تعود سارة إليَّ، تمد يديها فتضعهما على كتفي، وبجدية غير منتظرة تقول برقة بالغة: «أنك تجعلني ممكنة».


على سبيل الاحتياط أعود إلى الباب الأمامي الذي بدأ عنده بالأمس كل شيء. تتردد يدي قليلًا على مقبضه، ثم تديره. أشعر بضيق في صدري. ينفتح الباب. له من الخارج نفس الزرقة العميقة التي سبق لي أن طليته بها، يبدو تمامًا كما كان يبدو لي على مدار سنين. نفس قطعة الطلاء الصغيرة المقشورة، نفس الخدشين المتوازيين قرب ثقب المفتاح. لم أزل أذكر البهجة التي اعترتني وأنا أقوم بطلائه. إحساسي بإعلان استقلالي. بابي. مكاني. ملكي، ملكي وحدي. أفعل فيه كل الذي أريده وحدي، من دون أي شخص، حتى زوجتي نفسها، وأنا أعرف أين أنا، وما الذي أريده. أتذكر لا أزال كيف هاجمت ذلك المسطح (المطلي في الأصل بالبني العادي الكئيب، ذلك البني المُعتاد في المصالح الحكومية في ذلك الوقت)، مُغطيًا إياه بضربات من الفرشاة عشوائية وجامحة في جميع الاتجاهات. أتذكر كيف أنني تخيلت غرائب الوجوه والأشكال والحيوانات والبشر؛ إذ تطل من الأعماق الزرقاء الداكنة البحرية، فتظهر وتختفي وتتغير وتتنقل. كلها ملكي أنا. وكل ذلك قبل أن تقتفي ليديا أثري إلى هنا وتستعمر المكان.


لم يكن رجوعًا كاملًا إلى حضن العائلة أيضًا: فما كنت لأرتاح إليهم ولا هم ليرتاحوا إليَّ مرة أخرى. صحيح أنهم سامحوني على «انحرافاتي»، ولكن مجرد احتياجي إلى السماح خلق بيني وبينهم حجابًا خفيًا.


رضيت بما هو متوقع من الزواج. وبات حلم اعتزال التدريس والتفرغ للرسم طوال الوقت حلمًا مؤجلًا، وليس ذلك لأنني بت أظن - مثلما ظنت ليديا وأبواها - أنه قرار تافه رومانتيكي، بل لأنني بت أشعر بالاحتياج إلى أن أكون المانح، لا الهارب. ولأنني أيضًا ما كان يمكن لي أن أشعر بالحرية من جديد. كنت قد خطوت خطوة، ولكنها لم تكن كبيرة بالدرجة الكافية. لم أصل مطلقًا إلى «الجانب الآخر»، إلى الذي كان يمكن أن يكون. كأنما الرقص على السلم هو أقصى ما يمكن أن أرجوه. ولكنه كان أفضل من لا شيء، أم ماذا؟


أتذكر كيف أنها كلمتني مرة عن حبها للأراجيح وهي صغيرة. كيف أنها كانت تريد أن ترتفع وترتفع ثم تصيح فجأة على أبيها ليأتي فيمسكها، ثم يفلتها، بعنف، بجنون، بطيش، بثقة مطلقة في أنه سيصل في الوقت المناسب بالضبط ليلتقطها من الهواء ويحتويها بقوة في حضنه، ورائحة العشب عندما يقعان عليه معًا وهما يضحكان، موقنين أن الدنيا جميلة وأن من حسن حظهما أنهما موجودان فيها. وكيف أنها في السنوات التالية بدأت ترى ذلك في كوابيسها، حيث يصل أبوها متأخرًا، أو لا يصل على الإطلاق. وبدأت تتآكل ثقة السنين الأولى وإيمانها، ويتبددان تمامًا. ومنذ ذلك الحين بدأت تشعر بالحاجة، بل وبالحاجة الملحة، إلى العثور على أشكال أخرى من الأمان. في عملها، فيَّ أنا، في الأصدقاء. أصابها ما يُشبه البارانويا من المجهول. وقليلًا قليلًا تحولت حرية سنوات عمرها الأولى ونشوتها، وجموحها إلى رعب من الأشياء التي كانت تمثل قيمة حياتها الحقيقية من قبل.