توزيع الإدراك: إزاي الطيارات بتطير

مقال لشهاب الخشاب

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

***

إدوين هاتشينز عن UCSD

إزاي الطيارات بتطير؟ السؤال ده بيخطر في بالي لما المضيفين والمضيفات في الطيارة بيشرحوا تعليمات الأمان في الحالات الطارئة، وفي اللحظة دي بابقى مدرك تمامًا إن لولا إيمان الواحد بربنا، ما كانش عمره فكّر يركب عبوة صفيحية ضخمة طايرة بقوة دفع صواريخ آلية عشان أروح بين قارة والتانية، وكأن أساطير ألف ليلة وليلة اتحققت على آخر الزمن. بالنسبة لوعيي التقني المحدود، طيران الطيارة عبارة عن معجزة إلهية، وفكرة إن فيه مهندسين وميكانيكيين وطيارين قادرين يخلّوا ملايين البشر يسافروا في سلام وأمان من غير ما يحصل زي ما المضيفين والمضيفات بيحذرونا في بداية الرحلة شيء مدهش.

الناس اللي تقدر تفكّر أبعد من الدهشة عندهم تفسيرين للعوامل اللي بتخلّي الطيارة تطير. فيه ناس تقول لك إن العلم بدأ بالإبرة وانتهى بالصاروخ، وإن الإنسانية اتطورت تدريجيًا عبر اختراعات تكنولوجية بتتجدد كل شوية، وكأن تطور الإنسانية بحالها زي أبديت التليفون، وكأن الطيارة بتطير مجرَّد عشان تكوينها الداخلي ووضعها الفيزيائي. الحتمية التكنولوجية دي بتفترض إن التكنولوجيا، سواء كانت عجلة أو «آي فون» أو طيارة، عبارة عن أشياء مادية بتتطوّر من ذاتها ولذاتها، بعيدًا عن تاريخ التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللي اتوجدت فيها، وكأن العالم بحاله بقى ماكينة شغّالة زي ما قالوا المهندسين بالضبط.

طبعاً التفسير الأول ده مش دقيق، لأن لولا التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وارتباط تطور الطيران بتطور الجيوش الأوروبية النظامية، والاستثمارات الرأسمالية الكبيرة اللي اتصرفت في الطيران الحربي، وتحويل المهارات المكتسبة والأجهزة المصنوعة إلى الطيران المدني أثناء الحرب الباردة، طيارات النهاردة ما كانتش هتطير بنفس الشكل، ولا كان هيكون فيه الكفاءات البشرية اللازمة عشان تطيَّرها. التفسير البديل ده بيفترض إن الإمكانيات التكنولوجية دايمًا مرتبطة بعوامل إنسانية بره سيطرة المهندس والميكانيكي والطيار، وكأن العالم بحاله نتيجة وجدان البشر زي ما قالوا بعض علماء الاجتماع والفلاسفة بالضبط.

طبعاً التفسير التاني ده مش دقيق برضه، لأن المهندس والميكانيكي والطيار لهم دور فعّال عشان الطيارة تعرف تطير، والماكينة نفسها لازم تكون في حالة كويسة وإلا الطيارة هاتقع زي كانز البيبسي في المحيط. الطيار ما يقدرش يطيَّر الطيارة بقدراته الخارقة، ولا الطيارة تقدر تطير زي البساط السحري، ولكن فعل الطيران نتيجة منظومة تقنية بتجمع بين المهندس والميكانيكي والطيار والطيارة، وبتوزع بينهم مهام إدراك العالم اللي حولينها عشان الطيارة تقوم وربنا يكرمها. مبدأ توزيع الإدراك ده (distributed cognition) هو اللي بيخلّي الطيارة تطير حسب كلام عالم الإنسان إدوين هاتشينز (Edwin Hutchins).

في مقال عنوانه «كيف تتذكر مقصورة الطائرة سرعاتها» (How a cockpit remembers its speeds)، هاتشينز وصف بدقة شديدة مجموعة العوامل الفيزيائية والتقنية والبشرية اللازمة عشان الطيارة تعرف تقوم من الأرض. المبدأ البسيط هو إن الطيارة لازم تطير بسرعة معيَّنة عشان الهوا يشيل جناحاتها: لو طارت أبطأ الطيارة هاتقع، ولو طارت أسرع الهيكل بتاعها هيتحطم. الطيار الشاطر هو اللي يقدر يخلِّي الطيارة بين السرعتين دول طول الوقت، خاصةً في المراحل اللي الطيارة بتتسارع أو بتتبطَّأ فيها أثناء الإقلاع والهبوط.

النقطة الأساسية هي إن الطيار نفسه، مهما كانت شطارته وجبروته، ما يقدرش يعرف سرعة الطيارة الإجمالية بالضبط إلا عبر المؤشرات الميكانيكية اللي بتقيس السرعة، وبالتالي ما يقدرش يخلّي الطيارة تطير بمجرد مجهوده الفردي، لأن إحساسه ممكن يخونه ويخلِّيه يوقَّع الطيارة أو يحطمها في الجو إذا تسرَّع أو تباطأ. لذلك هاتشينز قال إن الطيار ما بيطيَّرش الطيارة، وإنما إن الطيارة والطيار، الماكينة والإنسان، جزء من منظومة تقنية واحدة وموحدة بتفكَّر عشان تخلِّي الطيارة تطير. الطيار ما يقدرش يتحكم في مصيره طالما هو في الهوا، لأن إدراكه الفردي والجسدي بالطيران متوزع بين كذا جزء من المنظومة التقنية، بين عقله وتدريبه وزميله في الكابينة ومؤشرات الطيارة وتعليمات مراقبين الحالة الجوية وردود فعل الموتور والأجنحة إلخ.

توزيع الإدراك بين الإنسان ومحيطه التقني واضح في حالة الطيران وفي العمليات التقنية الاجتماعية اللي تشبهها، زي مثلًا سواقة العجل والعربيات والسفن (والسفن تحديدًا كانت الحالة المدروسة في كتاب هاتشينز الأول، «التفكير في البرية»، Cognition in the Wild). مفهوم توزيع الإدراك مش بس مهم لأنه بيوصف بشكل أدق العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا والطبيعة، وإنما كمان عشان بيكسر الأفكار العقلانية عن العقل البشري. هاتشينز بيورِّينا إن عقل الإنسان – سواء كان مهندس أو ميكانيكي أو طيار – مش مقتصر في مجموعة الأفكار اللي جوة جمجمته، وإنما إنه دايمًا ممتد بين الجمجمة والعالم.

مفهوم العقل الممتد (extended mind) ظهر في كتابات فلاسفة كثير من ضمنهم أندي كلارك (Andy Clark) وديڤيد تشالمرز (David Chalmers)، اللي كتبوا مقال مشهور بنفس الاسم. الفكرة بتكسر توقعات العقلانية البحتة، اللي بتعتبر إن عقل الواحد متمركز في دماغه وهو اللي بيخطط وبيدبَّر وبيفكَّر، وبيصنع أدوات وأفكار بيسيطر بها على العالم اللي حواليه. حسب كلارك وتشالمرز، العقل دايمًا محتاج لأكثر من وعي الفرد عشان يشتغل كويس، وبالتحديد، لازم يمتد جوه المحيط التقني والطبيعي اللي الإنسان عايش فيه لأن المحيط ده مش مجرد مادة متجمدة وجاهزة لإن العقل البشري يوظَّفها ويفعَّلها ويسيطر عليها، وإنما دايمًا بالفعل جزء من العقل البشري نفسه.

فمثلًا كلارك وتشالمرز قالوا إن الذاكرة اللي العقل بيعتمد عليها مش دايمًا بتبقى جوه دماغ الواحد، وإنما بقت براها أكثر وأكثر، زي ما أرقام التليفونات اللي كنا بنضطر نفتكرها من دماغنا بقت جوه التليفون نفسه، وزي ما الحاجات اللي المفروض نشتريها من البقال ما بتبقاش دايمًا على بالنا وإنما في لستة صغيرة بنشيلها في جيبنا، وزي ما الطيار بيعتمد على مؤشرات السرعة الميكانيكية عشان يعرف يخلِّي الطيارة تطير. العقل بيمتد بالطريقة دي بين الإنسان ومحيطه، وما نقدرش نحط حاجز واضح بين الوظيفة اللي بيأديها العقل جوه الجمجمة والوظيفة اللي بيأديها براها، لأن الاثنين واحد لما نيجي نفتكر رقم التليفون أو لستة البقالة أو سرعة الطيارة.

أفكار كلارك وتشالمرز وهاتشينز عن امتداد العقل في العالم وتوزيع مهام الإدراك بين الفرد ومحيطه تشبه مفاهيم تانية في تاريخ الفلسفة، من أول أفكار التراث الصوفي عن وحدة الوجود إلى أفكار فينومينولوجيا الإدراك (phenomenology of perception) في القرن العشرين. الفرق الأساسي إن التفكير في امتداد العقل وتوزيعه عنده صدى مباشر في مجموعة من العلوم الدقيقة المعاصرة، مثلًا في دراسة تطور الإنسان وجهازه العصبي، زي في كتابات عالم الآثار لامبروس مالافوريس (Lambros Malafouris) عن تأثير الأشياء المادية في تطور العقل البشري عبر ملايين السنين.

تطور الإنسان ما كانش عمره نتيجة القوات التكنولوجية في حد ذاتها، وكأن الإنسانية مدفوعة إلى الأمام بالإبرة وبالصاروخ، ولا عمرها كانت نتيجة العقل الفردي العبقري بعيدًا عن العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللي نشأ فيها. إذا افترضنا إن العقل جزء من العالم المحيط، وإن إدراك العالم متوزع بين العقل والمحيط من غير ما ينبع من دماغ الناس زي النافورة، نقدر نفهم إن اللي بيخلِّي الطيارات تطير هي منظومة متوازنة بين الطيار والطيارة والهوا، والمنظومة دي دايمًا معرَّضة لأنها تقع وتوقَّع الطيارة معاها لو غاب عنها عنصر من عناصرها. لذلك معجزة الطيران مش مجرد معجزة تقنية أو إلهية، دي معجزة التوازن المستمر بين الإنسان والماكينة والطبيعة.


اقرأ المزيد من فهَّامة شهاب