كتاب النوم: ضد ثنائيات اليقظة

عن «كتاب النوم» لهيثم الورداني

مقال: كريم محسن

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

***

«في أخوية النوم لا نلتقي الأشياء على خطوط السُّلطة، وإنما نلتقيها في قلب صيرورة المادة الأولى. فيخترقنا فيض جسيماتها الأولية، وتسري فينا نبضة قديمة قدم الكون».

النوم بالنسبة لي، بوابة عبور لليوم الآخر، حلقة وصل بين الأيام، دفعة حيوية للجسد المنهك حتى يستعيد نشاطه مرة أخرى. تلك التصورات المختزلة عن النوم، جعلتني أعتبره نشاطًا آليًا، لا ينطق بالمعنى، فعملت على تهميشه وتقليص عدد ساعاته، جلدته على ظهره حتى يفسح مجالًا لليوم القادم بأسرع طريقة.

وكوني شخصًا لا يتذكر أحلامه، ويجري لاهثًا وراء الغد، محملًا بأمل لا نهائي أحيانًا، ورغبة في الفرار من أمس ونسيانه أحيانًا أخرى، كنتُ أرضًا خصبة لتلك التصورات. لكن كيف يمكن لكتاب أن يقلب كل تصوراتي عن النوم ويجعلها تقف على قدميها بدًلا من رأسها؟ هذا ما فعله «كتاب النوم» لهيثم الورداني.

يقتحم الورداني حصن النوم، يفككه وينزع تصوراتنا التقليدية عنه، يؤكد لنا حقيقة أن الكتب الجيدة هي كتب صادمة بالضرورة، وأن الفن الأصيل ثوري بطبيعته، لا تعني الثورة هنا عمليات الحشد في الميادين ضد النظام، لكنها تعني عمليات النزع والخلق المستمرة.

في كتاب النوم، نتحرك مع الورداني داخل عالم متعدد وسائل، بلا وجوه وشخصيات نقطع خطوات لا تعرف اتجاه محدد، نتأمل عالمًا طالما اعتبرناه مجرد ضد لليقظة. نتخلص من استلاب اليقظة لأذهاننا وأجسادنا، ونسقط سقوطًا حرًا في دنيا اللعب والهذيان والرغبة.

ضد الثنائيات

«النوم لا يحدث داخلنا أو خارجنا، وإنما يحدث عندما يختلط كل شيء».

يعمل النوم على تحرير نفسه من الثنائيات الخانقة التي تصوغها اليقظة، تحاول اليقظة أن تضع الحياة دائمًا تحت مشرط التصنيفات والفصل، ترفض كل ما هو مجهول ومبهم وتعمل جاهدة على تعريفه ووضعه تحت مسمى، فيصبح هناك داخل وخارج، حلم وواقع، حقيقة وكذب، والكثير من الثنائيات المتضادة التي لا تنتهي. لكن مع النوم، يختلط الداخل بالخارج والواقع بالحلم، تذوب الحدود وتتحلل التصنيفات، ينفتح المجال للهذيان والرغبات حتى تتدفق وتسيل، رغبات لا تعرف كبت الواقع وحواجزه. تتحرر الذات من مخبأها الداخلي وكهفها الضيق المفروض عليها من اليقظة و«تختلط غرفة أسرارها بغرفة آلامها، وغرفة ملاذها بغرفة مجونها».

ينتمي النائم بطبيعته إلى المجهول، يجري دائمًا على خط هروبه الخاص، هروب من الحقيقة والتعريف والوضوح.

من هو النائم؟

«لكن الفارق بين المستيقظ والنائم، هو أن المستيقظ يميل إلى الحفاظ على جسده الاجتماعي وتأكيد حدوده، أما النائم فينحو إلى تحوير ذلك الجسد وتعكير نقائه بفتحه على جسد آخر».

مع النوم نعود مرة أخرى للدوران في دائرة، ونستبدل الحركة اللاهثة للأمام بحركة تناسب تكرار النوم وإيقاعه، وعند ذلك تتلاشى أفكارنا عن ترتيب الأشياء وتنظيمها، يتوقف بحثنا عن أسباب وعلاقات.

يكرر الورداني لفظة «الهذيان» على مدار الكتاب، باعتبارها لغة النوم. يشوِّش الهذيان على وضوح اليقظة ولغة السلطة المنظمة. في النوم لا أهمية لترتيب كلامنا ووضعه في تسلسل وجمل منمقة حتى يؤدي إلى معنى، تنتهي أسطورة المعنى ويهذي كل شئ حولنا، حتى حركاتنا -أثناء الحلم- تصبح هاذية لا تكترث للجاذبية وقوانين الطبيعة، نطير ونمشي عرايا، نقفز من السماء للأرض، نموت ونحيا، نمرض ونشفى، نصبح كبارًا في السن وأطفالا تحبو.

يخلصنا النوم من رغبتنا الدائمة في التملك، يدربنا على الفقد المستمر، لا توجد ملكية خاصة هنا، نصبح «جماعة صغيرة مفتوحة دائمًا، لا مركز لها تدور حوله»، نتخلص حتى من ذاتنا وفرديتنا، كل شيء مشاع ومشترك بين الجميع، لا نعرف حتى هل نحن في حلمنا الخاص أم في حلم الآخر؟

وداعًا للشخصية

«النوم والطفولة والجنون هي جميعها حالات تشكل مصدر خطر بسبب تمردها على منطق القانون وعلى القاعدة التي يقوم عليها وهي مبدأ الشخصية».

مع النوم نتخلص من شخصيتنا، نفلت من القانون ومن كوننا مواطنين نُسأل ونُعاقب ونخضع لمنطق الحقوق والواجبات، نهرب من الدولة في غياهب الأحلام. تمرد من نوع مختلف، تمرد لا يواجه السلطة لكنه يفككها تمامًا.

يتساوى النائم مع المجنون والطفل، كلاهما حالات استثناء لا تخضع للقوانين، يصبحون بالنسبة للدولة في خانة الغرباء، لا يمكن تصنيفهم، لكنهم يحملون إمكانات تهدد الجميع وتضج مضجعهم، فالغريب هو عدو المجتمع الأول، مرفوض وملعون طالما لا يمكن تصنيفه، طالما لم يصبح واضحًا بالشكل الكافي ولا يمتلكون عنه الكثير من المعلومات.

أثناء النوم، ننعم براحة الاختفاء، نصبح بلا وجوه، لا يمكن التعرف علينا ولا يمكننا معرفة أنفسنا، نتحرر من قيود المراقبة، يتوقف من بالخارج عن مراقبتنا، ونتوقف نحن -النائمين- عن مراقبة أنفسنا.

الفنان والنوم

على غلاف الكتاب لوحة للفنان الكرواتي ملادن ستيلينوفيتش بعنوان «الفنان أثناء العمل» (1978)، تُظهر فتاة نائمة وشعرها منسدل على الوسادة، توحي اللوحة بنوع من الاستسلام التام للمجهول، يجعل ابتسامة هادئة ترتسم على شفتيك. يطغى على اللوحة اللون الرمادي بمختلف درجاته، إحالة لعالم النوم، أرض الـ «ما بين»، أرض الوسط بين الوجود والعدم، بين الحقيقة والخيال.

في أكثر من موضع في الكتاب، يوضح الورداني أن العمل الإبداعي والنوم ينتميان إلى نفس الجزيرة النائية، جزيرة تنفصل عن الواقع رغم انتمائها له، جزيرة بعيدة رغم قربها. يعمل الاثنان -الفن والنوم- على إلغاء الحدود وخلق حالة من السيولة تناسب طبيعتهما، لذلك لا فارق بين عالم النائم وعالم الفنان، كلاهما يحلم بالمستحيل، ويخلق عالمه الخاص.

يتكون الكتاب من مجموعة من النصوص، لا تعتمد على ترتيب معين أو نسق ما، يغلب على عدد قليل منها طابع القصة القصيرة، والباقي لا يمكن تصنيفه في شكل أدبي معين. يفلت الكتاب هو أيضًا من سلطة التصنيف، ويقيم في أرضه النائية، أرض الأحلام والنوم، من خلال لغة شاعرية منمقة، تسحرك وتأخذك معها إلى عالم النوم وأنت مازلت على أريكتك في عالم الواقع.