اقتباسات من رواية «بريد الليل» لهدى بركات

إصدار: دار الآداب

الاقتباسات من اختيار: إسلام بركات

***

«لقد تعلمت كثيرًا منذ غابت المحطة ورائي. عبأت رأسي الذي قالت أمي إنه ذكي، بنهم كبير وباستمرار ومثابرة، حتى صار تجميع المعلومات عن أي شيء، وفي كل المجالات، حاجة إلى ملء فراغات غامضة كالتي للبوليميا، أو كاﻹدمان، ناسيًا الدافع واﻷسباب والهدف. إذن، فلأنتفع من هذا الخزان، فلأدهش سامعي وأثنه عن الكلام؛ أو فلأدهش النساء، أدهشكِ أنتِ، فلا أترك ذهنك حرًا لحظة واحدة خوفًا عليك من التفكر. فأنا لا أريد، ولا يهمني أن أعرف عنك أكثر مما عرفت من الوهلة اﻷولى، في اللحظة اﻷولى التي رأيتك فيها. ولا أسكت لأني لا أريد أن أترك لك نافذة مفتوحة على الحميمية، فالحميمية ورطة. والكلام بالصوت المنخفض بين رأسين متقاربين، من نوع اﻻعترافات لكسر العزلة وإبعاد الوحشة عن قلوب كائنات حساسة لا تحتمل الوحدة إلخ...، ورطة بالمعنى اﻷولي للكلمة، أي: الهوة الغامضة العميقة في اﻷرض، بحسب معجم المعاني. تصوري!»


«في قريتي التي محاها انهيار السد، لم يكن هناك نساء تُحِبّ أو تُحَب. كان هناك كائنات بلا جنس، أو أنّي في عمري ذاك كنت فيما قبل الجنس. كنت في الخجل من جوعي الدائم، منشغلًا بمواراته، أنساه في انصرافي إلى الدرس. والأولاد، في البيت أو في الشارع، بالعشرات دومًا حولي، كأسراب الذباب، وأحيانًا كأسراب الدبابير المؤذية، وفي أحسن حال كالصراصير الطيَّارة. لا مكان للهرب، ولا مكان لصناعة أدوات الذكورة أو الأنوثة، أو كماليات من هذا النوع».


«هكذا يلعب جمالك ضدك أحيانًا؛ يثير فيَّ غرائز التيوس، فأقدِّم قرنيَّ، أدق أظلافي في الأرض وأنفخ في التراب. أن أغار عليك لا يعني أنِّي مغرم بك. إنها مسألة بين الذكور؛ تنافس على حجم الخصيتين، بمعزل عن موقع الأنثى الواقفة في المساحة المشتركة لأي من الذكرين. هذه في جيناتي، ولا أريد في معركتي مع العالم أجمع، أن أحارب جيناتي أيضًا… لماذا أنا في معركة مع العالم أجمع؟ لا أدري، اسألي العالم. ربما لإحساسي بأني في معركة ولا أملك أي سلاح. وكلما خرجت عدت مليئًا بالكدمات. لست مسالمًا، لكني لم أجد مصدرًا يسلمني سلاحًا. والأدهى أني ضعيف البنية ولا أجرؤ على ضرب أحد. إذن، أنا ضعيف وجبان. ويرتد غضبي عليَّ مضاعفًا».


«حين ضربتك أول مرة، وأسرعت إلى احتضاني، عرفت أن خلاصي منك سيكون أصعب مما توقعت. قلت لك في اليوم التالي، معتذرًا، إني لا أعرف ماذا تريدين مني، فأجبت دامعة بأنك لا تريدين شيئًا البتة. البتة؟ ولو؟! لا شيء البتة؟ لماذا تبدين، إذن، كمن يحمل وعاء فارغًا يدور به من حولي وأنا أجهل ما عساي أملأه به».


«صحيح، أنا دائمًا هكذا، أتأرجح بسهولة بين خيالي الخصب، أعني أوهامي، والواقع. أخلط كثيرًا بين ما هو وهم وما هو حقيقة، لكن ذلك لا يقلقني. إنه في الحقيقة يسليني كثيرًا. كأن أرى في نومي حلمًا وأستغرق في تفاصيله طوال النهار التالي، وربما أكثر. وقد يعود إليَّ في المنام صديق مات منذ مدة، ويؤنسني وجوده معي لأيام، من دون أن أخلط بين حياته وموته، أي من دون أنسى أنه مات. يؤنسني وجوده على الرغم من معرفتي أنه لا يتوافق مع الحزن أو مشاعر الحداد.. كأنه يأتي لزيارتي لأنه اشتاق إليَّ، أو أنا اشتقت إليه، يأتي متخلصًا من عذاباتي الماضية. تلك التي كانت تصور لي المراحل المتعاقبة لتحلل جسده في القبر من انتفاخ وبيوض ديدان وأشياء كهذه».


«قد تجد ذلك غريبًا، لكني، صراحة، لم أعد أتسلى إلا حين أكون وحدي. حتى حين أخرج من بيتي أنتقي موسيقى أحبها ﻷبقى قليلًا في البيت وحدي. وﻷني حين أعود سأسمع الموسيقى وأنا ما زلت في الخارج، وأنا أدير المفتاح في قفل الباب، وأقول في نفسي إنها هي نفسها الموسيقى، موسيقاي، وإن أحدًا لم يدخل في غيابي ويحرك الهواء. وإني إذن، كنت وحدي في الداخل ولم أضجر. شيئًا فشيئَا، ويومًا بعد يوم، صارت الوحدة بذخًا كاملًا؛ مُلكًا عظيمًا. الوحدة في هواء لا يتنفس فيه أحد سواي، حتى إنِّي صرت أتكهرب، كأن أفعى قد لسعتني، أكاد أصرخ ألمًا وغضبًا إذا ما لمسني أو دقر بي أو بأغراضي أحد دون قصد، في الشارع أو الباص أو المصعد. إذا تعثر شخص وهو يقع، مثلًا، وتمسك بذراعي. أعرف أنه سلوك مجانين. أتنفس عميقًا. أبتسم وأقبل اﻻعتذار برحابة صدر، بينما أحاول أن أخفي تعرقي وتسارع نبضي، وربما بسبب شحوبي أيضًا. لا بد من أن كثيرين غيري يعانون من اﻻقتراب من أجساد اﻵخرين أو ملامستهم، لكنهم، مثلي، يتصرفون بكل تهذيب، ولا تبين عليهم علائم الكراهية. كثيرون، مثلي، ينظرون في المطعم إلى آثار اﻷصابع على الصحون النظيفة أو على الكؤوس، لا ﻷنهم مولعون بالنظافة، بل للتأكد من خلو المائدة من آثار الناس…»


«لو كنت هنا لتفرجت معي على هذا العصفور، الذي يتنطط تحت في الشارع الفارغ تحت المطر، كأنه لا يبتل به. عصفور صغير بلا سرب يقلده أو يتعاطى معه. عصفور وحيد رائق المزاج في مدينة كبيرة لا يرى منها شيئًا. ربما بسبب تقدمه في العمر لم يعد في حاجة إلى أحد، هو أيضًا، مع أن العصفور لا يبدو لنا أبدًا كبيرًا في العمر، أو عجوزًا. العصفور هو دائمًا صغير ولا يهرم. غريب. لا أحد يعرف لماذا يستحيل أن نفكر في أن العصفور يهرم، ثم يحمله العجز إلى الموت ميتة طبيعية ككل المخلوقات التي تنفد أعمارها. ربما لأننا لم نر في حياتنا عصفورًا هرمًا، أو يفعل ما نفعله علامة على كبرنا؛ حين نكف مثلًا عن محو اﻷسماء أو العناوين وأرقام الهواتف على صفحات مفكراتنا مع أنها لأصحاب ماتوا. لن نمحوها لتوسيع المساحة البيضاء، إذ نترك اﻷسماء والعناوين الجديدة على قصاصات وأوراق صغيرة متفرقة، لا ننقلها إلى المفكرة ولا نخشى أن تضيع، أعني لا يهمنا أن تضيع…»


«أمي الحبيبة، أنا تغيرت كثيرًا. تغيرت عن اﻻبن الذي كنت تعرفينه، أنا مريض اﻵن؛ مريض في جسمي ومريض في روحي. ولم يعد من أمل في الشفاء. كل ما أحلم به هو الهرب كي لا أموت في السجن. أحلم بالهرب لأموت في العراء؛ ﻷنوس كالشمعة وأنطفئ في الفلاة، في صحراء الله الواسعة. بعدها يستلم الشيطان روحي؛ روحي المريضة، وليفعل بها ما يشاء…»


«الحياة أم الفقر؟ أشعر بأن الله خلق بعض البشر بلا لزوم. مخلوقات لا فائدة من عيشهم المضني ولا حاجة لأحد إليهم. هكذا، كما خلق الذباب المؤذي، والذي ينقل الأمراض ويبيض على الجثث. له في ذلك حكمة، بلا شك. ذباب، صراصير وحشرات، مثل رجل الرسالة المؤذي والكريه.. ومثلي أيضًا.

كسرتني الخدمة، صرت خادمة لكل شيء وﻷي شخص... لو كان هناك نشيد لخُدَّام اﻷرض لحفظته ولم أتوقف عن ترداده. واﻵخرون، الذين خلقنا الله لخدمتهم، يستمتعون بقضم فاكهة الحياة بأسنان قوية. لا نحسدهم. لا أمل لنا في أن نشبههم. لكن الواحد منا لا يستطيع رد لعابه حين تسيل العصارة على ذقونهم... نحن، حين تنصفنا الحياة، نصير خدامًا مطيعين، ونشكر الله على أننا نليق بخدمتهم».


«أبي، شاهدت اليوم فيلمًا وثائقيًا عن شعب كان يعيش في منطقة نائية في روسيا القيصرية، على حدود سيبريا. كان خالقهم وربهم طائر الغراب، ويسمونه (كوترا). الغريب في إلههم أنهم كانوا يتعاملون معه كواحد منهم. لا تكريم ولا إجلال أو عبادة. كانوا يلومونه ويسخرون من خليقته الناقصة. يقولون إنه غبي، إذ كان يمكن للكون أن يكون أجمل، وللعيش أن يكون أسهل، وللحياة أن تكون أقل قسوة. وعلى الرغم من ذلك، فإنهم كانوا يعتبرونه ربهم وخالقهم، ربما لأنه قريب منهم ويشبههم ويمكنهم انتقاده، فلا هو ينتقم ولا هو يحاسب أو يقاصص. حين وصل إليهم رجال القيصر، الكوزاك، على أحصنتهم المرعبة لضمهم إلى أحضان الكنيسة اﻷورثوذكسية، قتلوا وأحرقوا وهدّوا، واستعملوا الفتيات والنساء مكان اﻷبقار وحيوانات الجر - إذ لم تكن موجودة في البلاد - واستعبدوا من تبقى و... بنوا كنيسة الله تحت رحمة القيصر العظيمة.

أبي، هل القيصر هو من يمثل إرادة الرب على اﻷرض؟ أم تراه طير الغراب؟ هل حدث أن اخترنا يومًا؟ »


«ماذا نعرف عن بشر عاشوا حروبًا أهلية؟ عنفًا ودمارًا وخسارات وخيبات؟ وخوفًا مريعًا، بلا شك؟ كيف يتحولون، وما الذي يتغير فيهم ويقسو؟ في المربع اﻷخير من الحياة، ذلك الذي يغدو الموت فيه قريبًا ومحتملًا بشدة، لا يعود القلب سوى مضخة للاستعمال المفيد. دم ساخن يدفق بقوة في اﻷعضاء من أجل الهرب؛ لا من أجل أي شيء آخر سوى الهرب».