الإلهاء والمدينة

مقال لشهاب الخشاب

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة
بمقاله دون إذن منه.

***

قصر سينما ببلجيكا - عن cinema treasures

إزاي بندرك العالم اللي حوالينا؟ من خمس سنين رحت أزور طفل اسمه حسن لما كان لسه عنده سنة أو سنتين بالكثير، وكنا قاعدين في الصالون قدام التلفزيون. حسن ما كانش مركّز معايا رغم كل محاولاتي للفت انتباهه، وكان عمَّال ينقل عيونه الزرقا بين إيده ومصاصته و«بات مان» والزرافة والعربية الفضائية اللي كانت جاهزة تطير من الشباك. عيون حسن ما كانتش بتثبت على أي شيء، بس ما كانتش بتسرح في المطلق برضه، لأن رغبته في نقل نظره بين الأشياء كانت أقوى من إبهاره اللحظي بالأشياء دي. زي أي طفل رضيع، حسن كان مستمتع بكل لحظة اكتشاف لحواسه، وفعلًا بيحب يسمع ويبص ويحس باللي حواليه، وطبعًا بيحط كل اللي يلاقيه تحت إيده في بقه وكأنه لازم ياكل العالم قبل ما يدركه.

حسن كان طفل صغير صحيح، وإنما عيونه وإيديه وحركاته بتعبّر عن نزعة أوسع بكثير في مجتمعاتنا الرأسمالية، وهي النزعة تجاه «الإلهاء» (distraction). عادةً بنعتبر إن الإلهاء حاجة وحشة ومضرة بتخلينا نصرف نظرنا عن الأشياء المهمة والجادة في حياتنا، وبالتالي بنتعامل مع لحظات الإلهاء وكأنها مالهاش قيمة أو أهمية. عكس التصور الشائع، الفيلسوف والمنظر الألماني سيجفريد كراكاور (Siegfried Kracauer) كان شايف إن الإلهاء ظاهرة رأسمالية بامتياز، ونَظَّر في المفهوم ده بطريقة مختلفة عن المعتاد.

في مقال عنوانه «عبادة الإلهاء» (The Cult of Distraction)، كراكاور وصف إزاي قاعات السينما في برلين في عشرينات وثلاثينات القرن الـ 20 بقت عبارة عن معابد مفتوحة لتسلية عمال المصانع اللي كانت عمّالة تنتشر بسرعة شديدة في ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. المعابد دي ما كانتش بتحشد جماهير من العمال لمجرد إنها بتعرض أفلام هلس وإن الأفلام من الوسائل القليلة للتسلية في المدينة الصناعية، وإنما كمان لأن السينمات نفسها كانت فضاء حسي جذَّاب للعين وللودن وللجسم في المدينة دي، بين طرازها المعماري المميز والملاهي اللي كانت بتشتغل جنب السينمات والأوركسترات اللي كانت بتجذب انتباه العمال بعد أسبوع شغلهم المميت.

الواحد ممكن يحس بنفس إحساس الإلهاء ده في القاهرة النهارده، لما يروح يتفرج على فيلم في وسط البلد بالليل، طبعًا مع الفرق التاريخي بين برلين في العشرينات والقاهرة المعاصرة. لحظة الإلهاء في الحالتين ما بتبدأش عند العرض السينمائي، وإنما من أول ما الواحد يبدأ يتمشى في الشارع وسط أضواء الفاترينات وعواميد النور والعربيات قبل العرض، وكل شوية يلاقي بيَّاع يعرض عليه بارفان أو بدلة أو بنطلون جينز، والناس رايحة جاية بين الكافيهات والشركات والمكتبات وكأنهم كومبارس في عمل سينمائي ضخم. جوه السينما، الفيلم نفسه مش شرط يكون أكثر شيء داعي للإلهاء، وإنما ممكن تكون الدوشة والزحمة عند باب القاعة، وطوابير الفشار والحمام، والهزار والزيطة بين الشباب والشابات اللي بيتصوَّروا سيلفيهات، وتفاعلات الجمهور الهلاس المهياص مع العرض. ولما الواحد يخرج من السينما، بيلاقي نفسه في وسط نفس الإلهاء العام اللي شغَّال في وسط البلد بعيدًا عن العرض السينمائي اللي الواحد حَضَره.

الناقد الفرنسي رولان بارت (Roland Barthes) كتب عن إحساس المُشاهد بعد خروجه من العرض السينمائي في مقاله عن «الخروج من السينما»، ولكن تفسيره للحظة الخروج دي بيختلف بشكل كاشف عن تفسير كراكاور. بارت بيعتبر إن المُشاهد جوه عالم الفيلم وبيخرج منه لعالم برة قاعة السينما، وكأن العالم الخارجي ده عبارة عن امتداد مباشر لتجربة القاعة، وكأن الإلهاء عبارة عن نتيجة مباشرة لحالة المشاهدة السينمائية. كراكاور شايف بالعكس إن السينما بأفلامها ومزيكتها وفشارها وكراسيها وأبوابها جزء من العالم المادي، والمُشاهد اللي بيخش وبيخرج من السينما بيتحرك جوه العالم ده، اللي بيطالب منه التشتيت الذهني الدائم بين جميع وسائل التسلية الصناعية والحياة العامة في المدينة الرأسمالية.

فكرة كراكاور عن الإلهاء بتبيِّن إن المدينة في حد ذاتها بتتحول إلى وسيلة للتسلية، وإن الفرجة على الأفلام والممارسات الثقافية الشبيهة مش المصدر الوحيد للإلهاء، لأن المدينة بمبانيها وأصواتها وأضواءها لها دور حسي أساسي في إلهاء الجماهير العريضة. الفيلسوف الألماني ڤالتر بنيامين (Walter Benjamin) طوَّر الفكرة دي في مقاله الشهير عن «العمل الفني في عصر استنساخه التقني». بنيامين قال إن إدراك العالم الرأسمالي بيشترط إن حواسنا تكون دايمًا مستعدة للإلهاء، بمعنى إن العالم ده ما عادش يطلب تركيز بصري أو سمعي أو حسي حاد، وإنما بقى يجبرنا لإننا نستعد للتعامل مع كل الأكشن اللي داير حوالينا عبر نوع من التلقي المشتت حسيًا وذهنيًا. التلقي ده جسدي ومجسَّد لدرجة إن الواحد بيحس إن علاقته بالمدينة الرأسمالية ملموسة ومحسوسة وكأنها على طراطيف الصوابع، ولذلك بنيامين اقترح إن الحاسة الرئيسية اللي بتبيِّن أهمية الإلهاء هي اللمس: اللمس بالجلد، وبالودن، وبالعين، زي ما حسن الرضيع كان بيدرك العالم اللي حواليه بإنه يمرره جواه من بقه.

يعني الإلهاء عند كراكاور وبنيامين بيبيّن نوع من الازدواجية في المفهوم. من ناحية، الإلهاء عبارة عن عادة حسية متجسدة بتحضّر جسم البني آدم لإنه يدرك العالم الرأسمالي بشكل مُشتت. ومن ناحية ثانية، الإلهاء هي التسالي الموضوعية  اللي بتخلينا نصرف نظرنا عن ممارساتنا اليومية في المدينة جوه إطار هايف ومنحرف. الازدواجية دي واضحة في حالة المرواح للسينما، لأن من ناحية كل النقاد متفقين إن اختراع السينما خلق عادات حسية جديدة من أواخر القرن الـ 19، ومن ناحية ثانية إن السينما طرحت شكل جديد لتسلية الجماهير، سواء كانوا العمَّال اللي بيشتغلوا في مصانع بدايات القرن في برلين، أو الشباب والعائلات اللي بيروحوا السينما في وسط البلد في القاهرة النهارده.  

مع الازدواجية في المفهوم، كراكاور وبنيامين ما كانوش شايفين الإلهاء كظاهرة مُضرة للصالح العام، عكس أغلبية المثقفين والمفكرين في وقتهم أو حتى النهارده. نقدر نذكر ضمن المفكرين دول الفيلسوف ثيودور أدورنو (Theodor Adorno)، اللي كان بيعارض التأثير المخدِر للصناعات الثقافية على الجماهير بشدة، وكأن الصناعات دي بتلهي الجماهير بعيد عن مهمتهم التاريخية حسب الماركسية التقليدية، وهي إنهم ينقلبوا على الطبقات الحاكمة عشان يحققوا مجتمع متساوي. كتابات أدورنو متشبّعة بالتعالي على الجماهير المشتتة حسيًا وذهنيًا، ودايمًا بتلمَّح لإن الجماهير مش قادرة تثور ضد الطبقات الحاكمة لأنها مَلهية بأفلام شارلي شابلن أو مارلين ديتريش، زي ما الناس شايفة إن السبكي وأغاني روتانا مثلًا بيفسدوا طموحات الجماهير وبيبعدوهم في عالم افتراضي من الهلس واللهو والعنف.

بنيامين وكراكاور كانوا بُعاد كالعادة عن التفكير الشائع في زمنهم وحتى في زمننا، وما رضيوش يتعالوا على الناس المَلهية في المدينة الرأسمالية لأن محدش يقدر يخرج من الإلهاء بمجرد إرادته وتفكيره الشخصي. بما إن الإلهاء عبارة عن عادة جسدية ومتجسّدة لا يمكن الهروب منها، وبما إن لها سطوة عميقة على البشر جوه المدينة، أي تحرر جماعي لازم يبدأ بالأجساد المشبوكة في عالم من الإلهاء المستمر، والتعالي الثقافي مينفعش في الظروف دي قد ما إننا نحلل الإلهاء ونفهم آلياته. الأطفال اللي عمَّالين يكبروا في المدينة الرأسمالية زي حسن أبو عيون زرقا ما بيتلهوش في العالم اللي حواليهم لمجرد إنهم لسه بيكتشفوا حواسهم، وإنما برضه لأنهم عايشين في عالم من صناعات التسالي الجماهيرية اللي بتطالب منهم بإدراك اللي حواليهم تحت تأثير الإلهاء. في ظروف ما بتقدمش أي اختيارات ثانية لأبناء المدينة، تحرر حسن وتحررنا لازم يمر أولًا بحالة إلهاءنا الدائمة.

اقرأ المزيد من فهَّامة شهاب