حساسية اللمس: الفصل الثامن من كتاب «حول النسج» لآني ألبرز

ترجمة: حسين الحاج

مراجعة: نوارة بلال

تُرجم هذا الفصل في إطار ورشة (حلقة نسج الحكي وقص النسيج) التي أقامها مركز الصورة المعاصرة في ربيع 2018. اهتمت الورشة بالحكي والحرف النسيجية كالحياكة والخياطة والنسج، وهدفت إلى البحث في تاريخ الحكي الأنثوي والروايات الشعبية الجندرية، وسير «الآخر» الذاتية، والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لعمل النساء في مجالات الفنون والحرف.

آني آلبرز (1899-1994) فنانة نسيج أمريكية من أصل ألماني، ساهمت في تضييق المسافة بين الحِرَف التقليدية والفن. تعلمت في مدرسة باوهاوس الفنية الألمانية، وحاضرت في المدرسة نفسها بعد تخرجها. ويعتبر كتاب «حول النسج»، الذي نُشر عام 1965، من أبرز نصوصها.

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

يبدو أن هناك تلازمًا بين التقدم في جهة والتأخر في جهة أخرى؛ فنحن على سبيل المثال، تقدمنا عمومًا فيما يخص اللفظ الشفاهي، فانتشرت عادة القراءة والكتابة اليوم بصورة هائلة، لكننا بالتأكيد أصبحنا بلداء الحس في إدراكنا عن طريق حاسة اللمس بصورة متزايدة.

ولا عجب في انحطاط مَلَكة غير مستخدمة بدرجة كبيرة في إيقاعنا اليومي المتعجل والمتثاقل، حيث أن موادنا أصبحت تأتي إلينا مُقَطَّعة ومسحوقة ومُبَدَّرة ومخلوطة ومُشَرَّحة، فلا يتبقى لنا في نهاية هذه السلسلة من عمليات تحويل الخامة إلى منتج سوى أن نُحَمِّص الخبز، ولا حاجة لنا إلى أن نضع أيدينا في العجينة، ولا حاجة لنا ولا حتى فرصة صغيرة في تَحَسُّس الخامات كي نختبر قوامها وكثافتها وخفتها ونعومتها، وأيضًا لا حاجة لنا في أن نصنع أدواتنا ونُشَكِّل قدورنا ونشحذ سكاكيننا. فإذا لم نكن منتجين متخصصين، فإن اتصالنا بالخامات يندر بالمقارنة باتصالنا بالمنتج النهائي. فنحن ننزع الغلاف السلوفاني كي نجد: اللحم المقدد أو شفرة الحلاقة أو الجوارب النايلون. لقد وَفَّرَت الصناعة الحديثة كدحًا وكدًا لانهائيًا، لكن على الجانب اﻵخر، منعتنا من المساهمة في تشكيل الخامات وتركت حاسة اللمس لدينا خاملة ومعها كل تلك الملكات التشكيلية التي تحفزها، فنحن نلمس اﻷشياء كي نتحقق بأنفسنا من الواقع، ونلمس اﻷشياء التي نحبها، واﻷشياء التي نشكلها، ﻷن الخبرات الحسية جوهرية، فإذا قلصنا مداها، كما نفعل عندما نقلص الحاجة إلى تشكيل اﻷشياء بأنفسنا، فسوف نصبح غير متزنين. وإننا نميل اليوم إلى اﻹفراط في شحن المادة الرمادية في جهازنا العصبي بالكلمات والصور، أي بمادة منقولة بالفعل في مادة رئيسية غير مُشكَّلة، ونعجز عن تقديم مُحَفِّز يمكن أن يداعب دافعنا الإبداعي، مثل الخامة غير المُشَكَّلَة التي ما زالت «على صورتها اﻷصلية».

تُعتبَر الخامات الصلبة وكذلك اﻷلوان والكلمات والنبرات والحجم والمساحة والحركة موادًا خامًا، وهنا ما زال يجب أن نضيف إليهم ما يجعل حاسة اللمس لدينا تستجيب؛ صفة ملمس الخامة وقوامها وطبيعتها. وحقيقة أننا نفتقد المصطلحات المُعَبِّرة عن خبرات اللمس ذات دلالة مهمة، حيث أننا قليلًا ما استخدمنا وسيط حاسة اللمس منذ زمن بعيد. وعادة ما تستعمل كلمة (Matiére) كي تعني الملمس الظاهر من الخامة، مثل الحَبّ، إذا ما كان خشنًا أم ناعمًا، باهتً أم لامعً.أ. إلخ، وأي صفات ظاهرة يمكن ملاحظتها من خلال اللمس ولا يُقصَد بها اﻹضاءة أو العتمة. لكن لا يبدو أن هناك كلمة عامة تصف رؤية اللمس لمثل تلك الخصائص من الخامة مرتبطة بطبيعتها الداخلية، مثل الليونة أو الهشاشة أو اﻹسنفجية أو المسامية... إلخ.

يمثل ملمس الخامة، أي (matiére)، باﻷساس صفة ظاهرة، يعني أنه صفة جمالية ومن ثم هو وسيط للفنان، بينما صفة الطبيعة الداخلية هي قبل كل شيء مسألة وظيفية ومن ثم يهتم بها العالم والمهندس. يُشَكِّل ملمس الخامة وطبيعتها في بعض اﻷحيان المكونات الرئيسية للعمل؛ نذكر منها أعمال النسيج على سبيل المثال، أو على مقياس آخر، في أعمال العمارة. ما يوازي هذا التقاطع بين الخصائص الخارجية والداخلية في العمل هو التقاطع بين الاهتمام الفني والعلمي والتقني من جانب النسَّاج أو المعماري، وهكذا يتراوح عملهما بين الفن والعلم الصناعي.  

تحتاج الطبيعة المرتبطة بالوظيفة إلى فكرنا كي تشكلها أو تفك شفرتها من ناحية تحليلية، لكن ملمس الخامة (Matiére) على الجانب اﻵخر، ليس بذي وظيفة أو نفع بصورة أساسية، ومن هذا المنظور، يصبح، مثل اللون، لا يمكن اختباره ذهنيًا، لكن يمكن التعاطي معه حسيًا مثل اللون، بصورة غير تحليلية نسبيًا. يتطلب ملمس الخامة التمتع به وتقديره بلا أي سبب آخر أكثر من عرضه المُحَفِّز (للعب بالملمس)، لكن الاستجابة إليه تتطلب أيضًا حساسية، مثلما نستجيب إلى اللون. ومثلما تستطيع العين المدربة والعقل المتلقي أن يكتشفا المعنى في لغة الألوان، فملمس الخامة يتطلب ذلك باﻹضافة إلى حساسية دقيقة للتعبير الحسي كي يكتشف المعنى فيه. وهكذا تتلخص مهمة اليوم في تدريب تلك الحساسية من أجل أن نستعيد مَلَكَة كانت لدينا بصورة طبيعية. فإذا أردنا أن نركز إذن على هذا الجانب من عملنا، أي اللمس، فمن اﻷفضل أن نضع قناع العيون وأن ننحي ما يمكن أن يشتتنا، أي اعتبارات اللون والطبيعة الداخلية. وسنحاول أن نتقرب من الخامة بفكرة واحدة في أذهاننا: أن نكتشف صفة ملمسها الموروثة أو (تلك التي ربما نقدر على التسليم بها بصورة مباشرة من خلال العمل عليها) أو بصورة غير مباشرة من خلال التأثير عليها عن طريق مقارنتها بالخامات المجاورة على سبيل المثال.

سننظر حولنا ونلتقط بعضًا من الطحالب أو قطعة من اللحاء أو الورق، أو تلك السيقان من الزهور أو تلك النشارة من الخشب أو المعدن. ثم سنجمعها ونقطعها ونبشرها ونخلطها وأخيرًا ربما نلصقها كي نصنع نظامًا معينًا. سنجعل قطعة ناعمة من الورق تبدو متليفة بعد خدش سطحها أو تمزيقها أو ثنيها أو تخريمها. أو سنحاول أن نصل إلى مظهر الصوف المنفوش باستخدام الحبوب المكسوة الريش. ما نفعله يمكن أن يكون ممتعًا كالرسم على سبيل المثال، ويمكن للنتيجة أن تصبح لهوًا نشطًا بمساحات من المظاهر المختلفة أيضًا مثل الرسم، حيث أننا نعيد هنا إحياء حاسة اللمس لدينا ولسنا نتعامل مع النسج الحقيقي.

واﻵن، حيث أن اهتمامنا ينصب على نموذج النسيج وليس النموذج الحر للرسام، يجب علينا أن نكون واعين لتلك الظروف التي ستجعل من سطحنا ملمس قماشي. إذا حاولنا أن يكون لنا نظمًا فيهم أفقيًا أو رأسيًا أو أفقيًا رأسيًا، أو مضلعًا متباعدًا، فسوف نصل إلى نتائج تشابه النسيج الفعلي، ﻷن عناصر النسيج اﻷساسية موجودة: الخطوط المستقيمة للاتجاهات ووظيفة المظهر الخارجي. أما اللون، فيتواجد عند هذه النقطة بصفته نتيجة ثانوية وليس نقطة مركزية. وأي تأثير لوني في هذه اللحظة هو عرضي وليس مقصودًا. سنتعلم أن نستخدم الحَبِّي واللامع والناعم والخشن، والصفة البديلة التي تجمع بين الخامة الرفيعة والثقيلة، تلك عناصر من اﻷشكال التي تنتمي إلى الجانب الجمالي من خبرة اللمس، وسنجدها على نفس القدر من اﻷهمية مثل اللون والتقسيمات المساحية.

سيخدم تركيزنا في ذلك الاتجاه غرضين، اﻷول، هو أهمية تنشيط رؤيتنا الخاملة لملمس المادة؛ والثاني، حيازة وسيط مناسب لشرح كيف سيبدو أي تصميم مقترح في خصائصه الحسية التي يصعب عرضها بالرسم أو التصوير، أي المخطط الحسي. يجب علينا تعلم أن نفكر في خصائص الملمس بصفتها وسائط معبرة بشكل كامل مثل الخط واللون وذلك قبل أي تنفيذ فعلي. كما سنصبح واعين بذلك الوسيط كسمة نسيجية مميزة. إذا كان النحات يتعامل بصورة أساسية مع الوزن، والمعماري مع المساحة، والرسام مع اللون، إذن فالنسّاج يتعامل بصورة أساسية مع التأثيرات الحسية. لكن كما قلنا من قبل، تُمَثِّل صفات الطبيعة الداخلية نفس القدر من النسيج مثل تأثيرات الملمس الحسية الخارجية. فطبيعة النسج، مثل اﻷنسجة المختارة للعمل، يمكن أن تأتي بملمس مثير، ﻷن هناك تفاعلًا معقدًا بين اثنين، لذا تصبح المعرفة ببناء النسيج ضرورية لتأثيرات ملمس الخامة مثلما هي لتنظيم النسج بأكمله، ومن ثم تُفهم تجاربنا في تأثيرات الملمس فقط بصفتها تجارب في زيادة وعينا بأنشطة الملمس فحسب حيث أن العمل الفعلي في النسج يهتم فقط جزئيًا بالطبقة الخارجية من الملابس. ومن هنا تمثل الطبيعة الداخلية مع تأثيراتها على الخارج اعتبارات أساسية، لكن على الجانب اﻵخر، يمثل التطريز عملًا على السطح فقط، حيث أنه لا يتطلب أن نفكر في المهمة الهندسية لبناء النسيج. لكن لذلك السبب تحديدًا، تصبح عملية التطريز في خطر أن تفقد نفسها في الزخرفة، حيث يصبح انضباط البناء تقويمًا نافعًا لإغراء الزخرفة المجردة.

تقودنا خبراتنا في حيازة وسائط تمثيلية عبر استخدام صفات ملمس مختلفة إلى استخدام الأوهام التي تنتجها تلك الصفات بيانيًا، ليس من خلال وسائط الجرافيك التمثيلي، أي الخط المعدل. يمكن أن يستخدم الرسم أو الطبع الذي يُظهر التظليل أو التنقيط، والخطوط مجعدة أو مموجة.. إلخ، ومن ثم تحوز مظهرًا بنيويًا ﻹنتاج ملمسً حسيً وهمي، إن لم يكن فعليًا. إن اﻷوهام المنتجة على آلة الكتابة يمكن أن توضح تلك النقطة. فتلك التجارب المتنوعة في التعبير لا يمكن فهمها بصفتها غاية في حد ذاتها، لكن مجرد مُساعِدة لنا في حيازة مصطلحات جديدة في لغة اللمس.


اقرأ المزيد على Boring Books: الدليل في طلب المستحيل