حوار مع ريجيس دوبريه* عن مايو 1968

حوار ألكسندر ديفيكيو

عن جريدة لوفيجارو – 1 مايو 2018

* ريجيس دوبريه (ولد 1940) مفكر وصحفي وسياسي فرنسي.

ترجمة: أحمد حسان

ضمن ملف «أصداء مايو»

خاص بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

Portrait de Régis Debray, ici posant à son domicile parisien, à l'occasion d'un entretien avec Le Figaro, sur la sortie de son noveau livre "Allons aux faits, Croyances historiques, réalités religieuses", coédition Gallimard et France Culture.

في تاريخ الذكرى العاشرة* لمايو 68، كنت قد أعلنت أن مايو 68 كان «مهد البورجوازية الجديدة». هل كانت 68 بداية النهاية؟

لما كنتُ عالقًا في مكانٍ آخر، لا أستطيع للأسف أن أكون شاهدًا على ما كانته لحظة الإخاء الرائعة تلك. لا يمكنني أن أتوقف سوى عند النتيجة. وهي تؤكد كلمة فاليري: «الناس يدخلون الى المستقبل مُتقَهقِرين». في هذه الحالة، كأننا قد ذهبنا إلى كاليفورنيا مرورًا ببكين. تقدّمٌ جيد للأفراد، تقهقرٌ هائل للمجموع. كأن قتلَ الآباء قد أفسح المجال لازدهار «الفلوس»، وكلّ واحدٍ لنفسه. هذا ما سمحت لنفسي بالإشارة إليه عام 1978، في عملٍ صغير لم يكن له أي صدى. أعلنتُ دون أن أمزح إلاّ نصف مزاح، أن كوهن ـ بنديت سيتحول إلى أحد الأعيان المرجعيين في أوروبا فائقة الليبرالية. ليس في هذا إدانة، وأنا أناقش بصلابة لمعرفة ما إذا كنا قد ربحنا من التغيير أم لا ــ لكن لما كانت السجالات الإيديولوجية تزعجني بعمق، فإنني أفضّل الامتناع.

هل هذا إخفاق جيل؟

ربما. إخفاق جيلٍ بعينه، أو عدة أجيال، وريثٍ للأنوار، متعلمٍ ضمن اللاتينية ـ الإغريقية، مقتنعٍ بأنه استطاع ومضى للتأثير في الأحداث من أجل ممارسة العقل النقدي، في اتحادٍ مع الحركة العمالية. لقد غيَّر مصنعُ الرأي [العام] مهمته، ورفضت الصناعات الثقيلة للصورة ـ الصوت هذا الطموحَ التربوي العتيق. سيتدبر كلُّ واحدٍ أمره كما يستطيع، لكنني أتخلى عن كل طموحٍ للنفوذ. محصورين بين الاقتصاد ـ الكلّي والصورة ـ الكلية، اللذين يشكلان زوجًا، لم يعد الناسُ من نوعي يستطيعون عمل شيءٍ، سوى دوائر الدخان. قَطَع العملُ العام الجسورَ مع الفكر. وبَدَلَ المتواصلين: ثمة مُستطلعو آراء، ومُنشّطون، وممثّلون، ومصوّرون، وفوتوغرافيون، وspin doctors1... حطَّت الكتابةُ من قيمة العرَّاف، والمطبعةُ من قيمة الراهبِ الناسخ، والوسيطُ السمعي ـ البصري من قيمة الفيلسوف. تدور العجلة. دوران موظفي الطليعة. لا شيء درامي.

كانت لك حيواتٌ عديدة: مغامر، مثقف ملتزم، مستشار الأمير. لو توجّب عليك ألّا تحتفظ إلّا بواحدة، فأيها ستكون؟

بلا شك تلك التي كنت فيها مُنتفخاً باعتقادٍ خلاصيّ messianique بعض الشيء إلى النهاية. عام 1966 حين أذهب لأحدّد وحدي تمامًا، في شمال بوليفيا، موضعا للرُسُوِّ المستقبلي للتشى [جيفارا] ورجاله. كان لدي يقينٌ بأن مستقبلًا هائلًا سينفتح، مما يمنحني جسارةً لا تُصدَّق. حين يكون لدى المرء صوفيةٌ، يصبح برجماتيًا ويتغلب على الكثير من الصعاب المادية. كان هذا منافيًا للعقل، لكن لحظاتِ الوهم هي لحظاتُ امتلاءٍ، لحظات اندفاع. ومزاوجة الوضوح والفعل، بالغةُ الصعوبة لأن كل فعلٍ بحاجة إلى جنونٍ بالأسطورة mythomanie. حين تنقشعُ الأسطورة، يُفقد المرء في الكثافة، دون أن يكسب في النتيجة. أو ليس دائمًا.

مع التراجع، هل كان الوهم الغنائي للثورة خطأً؟

عفوا، لكنني لا أرى أيَّ شيءٍ مغلوط في فكرة إسقاط أنظمةٍ عسكرية وفكرة إصلاحٍ زراعي. كان الخطأ في اختيار الوسائل، وقد حاولتُ شرح السبب في نقد السلاح La Critique des armes، عام 1974. صميم المشكلة أن الثورة كحركةٍ جذّابةٌ جدًا، لكنها كنظامٍ، لا تُحتَمل في أغلب الأحيان. واللغز الكبير، هو انحراف المسار. كيف لأناسٍ جيّدين جدًا، في صفوف المقاومة، أن ينتهوا بأن يفعلوا أشياءَ بالغة الفظاعة، في القيادة. هل تعرفون أنتم مذاهبَ جيدة التكوين، لا تخرج عن مسارها فور أن تصل إلى السلطة: الليبرالية، الاشتراكية، الصهيونية، القومية؟

خلال أعوام الثمانينات، كنت مستشارًا لفرنسوا ميتران. هل استسلمتَ للوهم الغنائي؟

لماذا الاستسلام؟ لم يكن ذلك إغواءً شريرًا بل رهانًا جيدًا. فكرت أنه لا تزال ثمة فرصةٌ لمصالحة المَلَكي والشَّعبي وإظهار أن الدولة ليست فقط أداةً في خدمة الطبقة المسيطرة، بل يمكن وضعها في خدمة المصلحة العامة ومصلحةِ من هم أكثر احتياجًا. بعد الإخفاق في تشيلي للاشتراكية في إطار الحرية، بدا لي أن فرنسا تُقدِّم شروطًا أفضل لإنجاح هذا المشروع، الصعب كما أعترف، الذي يمكن أن يكون له مدي تاريخي. وبعدها، أدركتُ بسرعة بالغة أن الرهان لن يتحقق. ومن ثم، غادرت.

البعض يقارنون ماكرون بميتران...

هذا منحازٌ. الجيلان لا يقبلان المقارنة. هناك الجيل الذي عرفَ الجيشَ، والمعسكرات، العطش، والخوف، والإخاء، والجيل الذي لم يتلقَّ أبدًا لطماتٍ على وجهه. هناك ذلك الذي توجَّب عليه أن يُخاطر ويُفلِت بجلده في وجه الجستابو وذلك الذي انتقل من المدرسة القومية للإدارة ENA إلى مقر بنكٍ أو بلدية، وفي المنتصف، الدورة الطقسية للقادة الشباب في الولايات المتحدة، ليضمنَ أن يعود في القالب. وبعد قول هذا، لا يمكن لومُ أحدٍ على تاريخ ميلاده. ولا على أنه لم يشعر أبدًا باندفاع القنبلة. ولا على أنه لم يناضل من أجل الحق، في الأساس. كما قال سيمبرونSemprun ، «الحرب انتهت». هذا أمر مُعاش يُخفِّف عمومًا من الغرور.

اليوم تُعد الأسلمة أشدُّ تهديدا لهويتنا من العولمة...

ربما كانت عيوني في جيبي [ربما لم أكن فضوليًا] لكنني لا أرى أن طبقتنا الحاكمة تملأ المساجد، وتتعلم العربية أو تقايض لحيتها ذات الثلاثة أيام بلحية التكفيريين. وعلى أية حال، فالظاهرتان ترتبطان ببعضهما بشدة. إعصار اللاتمايز التكنو ـ اقتصادي يخلقُ في كل مكان نقصاً في الانتماء الثقافي، ومن ثم ثقبًا من الهواء تندفع منه العودة إلى منابع هوياتية فانتازمية بقدر أو بآخر. العولمة السعيدة، هي في حلولها بلقنةٌ عنيفة. أنتم تُغرقون إيران بالكوكا ـ كولا وبعد عشر سنوات تنالون آيات الله. روّادُ التحديث بالقوة يُدفعون إلى الجريمة. الوهم الاقتصادي يُدفع ثمنُه غاليًا. والمثال على ذلك فكرةُ إمكان عمل شعبٍ أوروبيٍ بعملةٍ موحدة وليس بمخيّلة موحدة.

ـــــ

الهوامش

* في ربيع عام 1978، نشر دوبريه عن دار ماسبيرو كراسة صغيرة عن 68 بعنوان: مساهمة متواضعة في الخطابات والاحتفالات الرسمية للذكرى العاشرة. وفي الذكرى الخمسين لمايو عام 2018، أعاد طبعه بعنوان: مايو 68 ثورةٌ مضادة ناجحة. مما يلخص رأيه في الحدث.

1 spin doctor: شخصٌ بارع في العلاقات العامة ينصحُ الأحزابَ السياسية بكيفية تقديم سياساتها وأفعالها. معاونٌ سياسي مسئولٌ عن ضمان أن يفسّر الآخرون حادثةً ما من وجهة نظرٍ معينة.