الصورة من نيويورك ريفيو أوف بوكس |
تشير الأخبار الأخيرة التي تأتينا من الحدود الأوكرانية الروسية إلى أننا نعيش بالفعل على شفا حرب. بالتالي، ما الذي علينا، نحن الناس العاديين، أن نفعله حين ينفجر الجنون العالمي؟
ربما ينبغي أن يكون رد فعلنا الفوري أن نواجه تلك الأخبار الكئيبة بمجموعة من الأخبار الأكثر كارثية. أوضحت التقارير العلمية الأخيرة أن نظامنا الغذائي العالمي معتل: وفقًا لـ 130 أكاديمية وطنية علمية في أنحاء العالم، فمليارات الناس إما لا يحصلون على التغذية الكافية أو مصابين بالسمنة، وأن إنتاجنا الغذائي يتجه بالكوكب نحو كارثة مناخية. ولكي نحصل جميعًا على غذاء صحي متوافق مع البيئة فنحن بحاجة إلى تغيير راديكالي في النظام.
ولكن ليس النظام الغذائي العالمي وحده هو المعطوب. كما عرفنا من التقارير البيئية الغزيرة الأخيرة، فالتشخيص العلمي لمأزقنا بسيط وواضح: إذا لم نُقَلِّص انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 45 في المائة في خلال الإثني عشر عامًا التالية، ستغرق المدن الساحلية وسيتناقص الطعام، إلخ. ومجددًا إذا أردنا فعل ذلك نحن بحاجة إلى تغيير اجتماعي راديكالي سريع، سيؤثر بعمق على كل مجالات الحياة. إذن كيف نحقق ذلك؟
بخلاف التخلص السريع من الوقود المشبع بالكربون، هناك طريقة أكثر تأثيرًا مطروحة للبحث، وهي إدارة الإشعاع الشمسي، أي التوزيع الهائل والمستمر للهباء في الغلاف الجوي ليعكس ضوء الشمس ويمتصه وهكذا يتم تبريد الكوكب. ولكن إدارة الإشعاع الشمسي مسألة خطيرة للغاية، كما شرحت كيت آرونوف في مقال حديث في مجلة «إن ذيس تايمز». إذ يمكن أن يُقَلِّص من المحاصيل الزراعية، ويمكن أن يُغَيِّر من طبيعة الدورة المائية بشكل لا يُمَكِّننا من استعادتها، ناهيك عن ذكر العديد من «المجهولات الأخرى» - لا نستطيع حتى أن نتخيل كيف يعمل التوازن الهش على أرضنا، وبأي طرق غير متوقعة يمكن أن تدمرها تلك الهندسة البيئية. بالإضافة إلى ذلك من السهل إن نخمن لِم تحتفي العديد من الشركات بإدارة الإشعاع الشمسي، لأنه بخلاف التغيير الاجتماعي المؤلم، تتيح الفكرة منظورًا لحل تكنولوجي محدد لمشكلتنا الأكبر. نحن في مأزق بالفعل، إذا لم نفعل شيئًا ستحل علينا اللعنة، وأي شيء نفعله يتضمن مخاطر مميتة... من سيتخذ القرارات هنا؟ من حتى المؤهل لاتخاذها؟
الظواهر التي تماثل الاحتباس الحراري تجعلنا، مع كلية نشاطنا النظري والعملي، واعين أننا عند مستوى أساسي محدد مجرد كائنات حية أخرى على كوكب الأرض، يعتمد عيشنا على معايير طبيعية محددة نتعامل معها تلقائيًا وكأنها حق لنا. الدرس الذي يُعَلِّمه لنا الاحتباس الحراري هو أن حرية البشر تكون ممكنة فحسب على خلفية معايير طبيعية مستقرة للحياة على الأرض (الحرارة، تكوين الهواء، الماء الكافي، الطاقة المتاحة، إلخ). يمكن للبشر «أن يفعلوا ما يحلو لهم» وذلك فحسب إن ظلوا هامشيين بما يكفي لدرجة ألا يزعجوا معايير الحياة على الأرض بالفعل.
حدود حريتنا التي تصبح ملموسة بالاحتباس الاحراري هي الناتج المتناقض للنمو الأُسِّي لحريتنا وسيادتنا: نحن الآن في غاية القوة حتى أننا نستطيع نزع الاستقرار عن أكثر المعايير الجيولوجية أساسية في الحياة على الأرض. هكذا تصبح الطبيعة «حرفيًا» مجالًا اجتماعيًا-تاريخيًا، ولكن ليس بالمعنى الماركسي المتسامي (محتوى «الطبيعة»، أو ما نعتبره «الطبيعة» هو محدد دومًا بشكل مضاعف عن طريق الظروف التاريخية التي تهيكل أفق فهمنا للطبيعة)، إنما تصبح مجالًا اجتماعيًا-تاريخيًا بمعنى أكثر راديكالية وحَرْفية، ليست الطبيعة فحسب خلفية مستقرة للنشاط الإنساني، ولكن عناصرها شديدة الأساسية تتأثر بفعل هذا النشاط. الطريقة التي سنطور بها اقتصادنا في العقود القادمة لن تؤثر فقط على مستقبلنا، بل على مستقبل الحياة بأكملها على الأرض. بدأت المئات من الحيوانات الآن في الاختفاء، الجليد القطبي ينصهر. والتناقض هو أنه لا توجد عودة بسيطة لنقطة التوازن السابقة. وفقًا لكل الاحتمالات، تكيفت الحياة على الأرض بالفعل على نشاطنا لدرجة أننا إذا توقفنا جميعًا فجأة عن الإنتاج والاستهلاك سيؤدي هذا أيضًا إلى كارثة.
باختصار، منظور الهندسة البيئية يشير إلى أننا غارسين حتى رُكبنا في«الأنثروبوسين» (عصر الإنسان)، وهو عهد جديد في الحياة على كوكبنا، لم نعد نستطيع فيه كبشر الاعتماد على الأرض كمستودع جاهز لامتصاص عواقب نشاطنا المنتج. لم تعد الأرض خلفية لا يمكن اختراقها أو أفق لنشاطنا المنتج. وبدلًا من ذلك تبدو كموضوع متناه آخر يمكن بإهمالنا له أن ندمره أو نحوله حتى يكون من المستحيل العيش فيه. هنا يقع تناقض الأنثروبوسين: تصبح البشرية واعية بحدودها الذاتية ككائنات فقط حين تكون في غاية القوة التي تخوِّل لها التأثير على توازن الحياة كلها على الأرض. كانت البشرية قادرة على الحلم بالسيطرة على الطبيعة (الأرض) واستغلالها طالما كان تأثيرها على الطبيعة هامشيًا، أي بوجود خلفية طبيعية مستقرة. هكذا يتمثل التناقض في أنه كلما كانت إعادة إنتاج الطبيعة معتمدة على النشاط البشري، كلما انفلتت من سيطرتنا. لا يفوتنا فقط الجانب الخفي من الطبيعة ولكن قبل كل شيء العواقب المستغلقة لنشاطاتنا.
إذن نعم، نحن في فوضى عارمة، لا يوجد حل «ديمقراطي» بسيط هنا. فكرة أن الناس أنفسهم (وليس الحكومات والشركات فحسب) هم الذين يتخذون القرار تبدو فكرة عميقة، ولكنها تطرح سؤالًا هامًا: حتى إذا لم تُشَوِّش مصالح الشركات فهمهم للوضع، ما الذي يؤهلهم للحكم على هذه المسألة الحرجة. ولكن على الأقل ما نستطيع فعله هو أن نوضح الأولويات ونعترف بعبثية ألعاب الحروب السياسية الجغرافية، وذلك حين يكون الكوكب نفسه، الذي نحارب عليه، مهددًا.
منطق صراعات الدول القومية شديد الخطورة لأنه يعارض بشكل مباشر الحاجة الملحة لتأسيس وضع جديد متعلق ببيئتنا، الحاجة لتغيير سياسي اقتصادي راديكالي دعاه بيتر سلوتردايك بـ «ترويض الثقافة الحيوانية الجامحة». حتى الآن، تُهَذِّب كل ثقافة أعضائها وتعلمهم وتضمن لهم السلام المدني خلف مظهر سلطة الدولة، ولكن العلاقات بين الثقافات والدول المختلفة هي دومًا مهددة بظل الحرب الممكنة، فكل حالة سلام ليست سوى هدنة مؤقتة. تصبح ذروة الفعل البطولي لأخلاقيات الدولة هي الاستعداد للتضحية بحياة المرء من أجل الدولة القومية، وهذا يعني أن العلاقات البربرية الجامحة بين الدول تساهم في الأساس الأخلاقي بداخل الدولة. أليست كوريا الشمالية اليوم، بسعيها الحثيث للحصول على الأسلحة النووية والصواريخ لضرب أهداف بعيدة، هي المثال المطلق لمنطق السيادة غير المشروطة للدولة القومية؟
ولكن في اللحظة التي نقبل فيها تمامًا حقيقة أننا نعيش على متن الأرض، فالمهمة التي تفرض نفسها بإلحاح هي تحضير الحضارات نفسها، فَرْض تضامن وتعاون عالمي وسط المجتمعات الإنسانية، وهي مهمة صارت أكثر صعوبة بسبب تصاعد العنف «البطولي» الإثني والديني الطائفي، والاستعداد للتضحية بحياة المرء (وحياة العالم) بسبب قضية المرء الخاصة.
يجبرنا العقل على أن نرتكب الخيانة هنا، أن نغدر بقضيتنا، أن نرفض الاشتراك في ألاعيب الحرب الجارية. إذا كنا نهتم فعلًا بمصير الناس الذين يشكلون أمتنا، لا بد أن يكون شعارنا: أمريكا أخيرًا، والصين أخيرًا، وروسيا أخيرًا...
4 Replies to “سلافوي جيجيك: علينا أن نتخلى عن قضية الدولة القومية”
شكرا جزيلا علي الترجمه
انا ممتن كثيرا لما يقدمه هذا الموقع .. شكرا جزيلا
اتمني ان تكون هناك طريقه واضحه لدعم الموقع باي شكل من الاشكال
شكرا جزيلا لك أستاذ محمد
نفكر في أساليب مختلفة للدعم بالفعل، ولكن حتى نصل للأسلوب المناسب يكفينا أن تتابعنا وتشارك المحتوى الذي يعجبك مع أصدقائك على المواقع الاجتماعية
اتشرف وافتخر بمشاركة الموقع والمقالات والترجمات مع الأصدقاء .
نتشرف بك يا صديقي