الناقد الأمريكي هارولد بلوم يكتب عن جابرييل جارسيا ماركيز
عن كتاب "سلسلة بلوم – الرؤى النقدية الحديثة – جابرييل جارسيا ماركيز" 2007
ترجمة: أمير زكي
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
**
I
ماكوندو، وفقا لكارلوس فوينتس، "تبدأ في التنامي مع ثراء يوكناباتاوفا[i]الكولومبية". فوكنر - الذي يتقاطع معه كافكا - هو الأصل الأدبي لجابرييل جارسيا ماركيز. التأثير الفوكنري منتشر جدا في أوقات يسمع فيها المرء جويس وكونراد؛ أستاذا فوكنر، الذين نسمع صداهما عند جارسيا ماركيز، إلا أن فوكنر غالبا ما يتوسطهم دوما. فوكنر يغزو "خريف البطريرك"، ولكن "مائة عام من العزلة" تمتص فوكنر، كما تفعل مع كل التأثيرات الأخرى، نحو فانتازماجوريا قوية ومكتفية بذاتها جدا حتى أن القارئ لا يتشكك في سيطرة جارسيا ماركيز. ربما، كما أشار رينار آرجاس، أن كاربينتير حل محل فوكنر، وبورخيس حل محل كافكا في "مائة عام من العزلة"، هكذا تروض مخيلة جارسيا ماركيز نفسها بلغتها. ماكوندو، المملكة المتخلية هي فعل وعي هندي وأسباني، بعيد جدا عن أوكسفورد والميسيسيبي وعن المقبرة اليهودية في براج. في عمله التالي، عاد جارسيا ماركيز إلى فوكنر وكافكا، بالتالي "مائة عام من العزلة" معجزة لا يمكن أن تحدث سوى مرة واحدة، حتى لو كانت أقرب لأن تكون نصا مقدسا منها لرواية، كتاب ماكوندو المقدس؛ ملكيادس الساحر، الذي يكتب بالسنسكريتية، ربما يكون قناعًا لبورخيس أكثر منه للكاتب نفسه، إلا أن الحكاء الغجري يربط جارسيا ماركيز أيضا بالحكاء العبري القديم، اليهوي، فهو في الوقت نفسه أعظم الواقعيين وأعظم الفانتازيين، ولكنه فوق كل شيء المنافس الحقيقي الوحيد لهوميروس وتولستوي كحكائين.
انطباعي المبدئي، أثناء إعادة قراءة "مائة عام من العزلة" هو نوع من إجهاد المعركة الاستطيقية، طالما أن كل صفحة مفعمة بحياة كاملة فيما وراء قدرة أي قارئ واحد على امتصاصها. سواء كانت السمة المترابطة لنص هذه الرواية هي في النهاية ميزة أم لا – أنا لست متأكدا - فأنا أشعر أحيانا أنني شخص مدعو لغداء لا يُقَدَّم فيه شيء سوى طبق ضخم من الملبن. إلا إنها ليست سوى قصة، كل شيء فيها - منقول وغير منقول - يحدث في الوقت نفسه، من الخلق إلى الأبوكاليبس، من الميلاد إلى الموت. مضى روبرتو جونزاليز إتشيفاريا بعيدا حتى تكهن بمعنى ما أن القارئ هو الذي يجب أن يموت في نهاية القصة، وربما الثراء الكبير للنص يساعد على تدميرنا. تَصوَّر جويس بدون جدية قارئا مثاليا مصابا بالأرق سيقضي حياته في فهم "يقظة فينيجان". القارئ لا يحتاج لترجمة "مائة عام من العزلة" وهي رواية تستحق شعبيتها طالما لا تحتوي على صعوبات ظاهرة على أي حال. إلا أن هناك بعدا جديدا مضافا للقراء بهذا الكتاب. قارئها المثالي يجب أن يشبه الشخصية المثيرة للتذكر بشكل أكبر؛ كولونيل أوريليانو بوينديا الغاضب المتعالي الذي "بكى في رحم أمه ووُلد وعينيه مفتوحتين". لا توجد جمل بلا قيمة، لا توجد مجرد انتقالات في هذه الرواية، وعليك أن تلاحظ كل شيء في اللحظة التي تقرأها. كل شيء سيتماسك، على الأقل الأسطورة والمجاز إن لم يكن دوما المعنى الأدبي.
في حضور واقع غير عادي، يأخذ الوعي مكان المخيلة؛ تلك البديهية على نمط إمرسون هي بديهية والاس ستيفنز وتستحق الرؤية لـ "ملاحظات نحو سرد راق" و"مساء عادي في نيو هافين"[ii]. ماكوندو هي سرد راق، ولا توجد أمسيات عادية بداخل حدودها. السخرية وحتى التهكم ومعظم الخيال هي أشياء من الصعب أن تكون ممكنة في الولايات المتحدة. كيف يمكن السخرية من رونالد ريجان أو جيري فالويل؟ رواية بينشون "صيحات مزاد 49" تتوقف عن أن تبدو خيالية عندما أزور كاليفورنيا الجنوبية، في عرض يأخذ شكل النموذج. بعض الجوانب في الوجود الأمريكي اللاتيني تتعالى حتى عن ابتكارات جارسيا ماركيز. قيل لي من أناس ثقات، أن دوفالييه الكبير ديكتاتور هاييتي، الشهير ببابا دوك، أمر بإبادة كل الكلاب السوداء عندما اعتقد أن عدوا أساسيا له حَوَّل نفسه إلى كلب أسود. معظم العناصر الرائعة في "مائة عام من العزلة" ستكون رائعة في أي مكان، ولكن الكثير مما يبدو غريبا أمام ناقد من أمريكا الشمالية ربما يكون تمثيلا للواقع.
أكد إمير مونيجال أن عمل جارسيا ماركيز الأساسي كان فريدا وسط روايات أمريكا اللاتينية، كونه مختلفا جذريا عن الإنجازات المتنوعة لخوليو كورتاثار، وكارلوس فويتنس، وليثاما ليما، وماريو بارجاس يوسا، وميجيل آنجل أستورياس، ومانويل بويج، وجيليرمو كابريرا إنفانتي، والعديد من الآخرين. القرابة بين بورخيس وكاربنتيير ملحوظة عن طريق مونيجال إلى جانب آريناس، ولكن يبدو أن نقطة مونيجال الديالكتيكية ترى أن جارسيا ماركيز يعتبر ممثلا فقط بمشاركته لكل زملائه في عدم كونه ممثلا. إلا أنه من الحقيقي لمعظم قراء أمريكا الشمالية الآن أن "مائة عام من العزلة" تُستدعى إلى الذهن أول شيء عندما يفكرون في الرواية الأسبانية في أمريكا. رواية آليجو كاربنتيير "انفجار في كاتدرائية" ربما تكون كتابا أقوى حتى، ولكن بورخيس وحده سيطر على المخيلة الأدبية في أمريكا الشمالية كما فعل جارسيا ماركيز بخياله العظيم. من المحتم أن قدرنا أن نطابق "مائة عام من العزلة" بثقافة كاملة، وكأنها "دون كيخوته" جديدة، هذا الأمر غير الصحيح بالتأكيد. المقارنات ببالزاك وحتى بفوكنر هي أيضا ليست عادلة بالنسبة لجارسيا ماركيز. الابتكار العظيم لبالزاك يصغِّر الرؤية اللاحقة، ولا يوجد شيء حتى في ماكوندو بقدر التعالي السلبي كالسعي المخيف لآل بوندرين في رواية "وأنا أستلقي ميتا" لفوكنر. "مائة عام من العزلة" في قامة أعلى من رواية نابوكوف "اللهب الشاحب" وبينشون "قوس قزح الجاذبية"؛ تلك الفانتازيات المتأخرة، الوارثون الأقوياء للتقاليد الذاوية.
بغض النظر عما يمكن أن تكونه الحدود أو لا تكونه، سرد جارسيا ماركيز الآن يتمتع بوضع مرجعي إلى جانب وظيفة تمثيلية. وضعه الثقافي يستمر في التدعيم، وسيكون من الحمق أن نختلف على ظاهرة كبيرة كتلك. أتمنى أن أتحدث إلى نفسي فقط عن سؤال أي مدى من الجدية يحتاجه القاريء لتلقي الجانب المقدس للكتاب. جملة الرواية الثالثة هي: "العالم حديث جدا حتى أن الأشياء كانت تنقصها الأسماء، ومن أجل الإشارة إليها كان من الضروري الإيماء". والجملة الثالثة من النهاية طويلة وجميلة:
"كانت ماكوندو بالفعل دوامة مخيفة من الغبار والحصى تدور حول غضب البركان الكتابي؛ عندما تجاهل أوريليانو 11 صفحة حتى لا يضيع الوقت مع حقائق كان يعرفها جيدا جدا، بدأ في تفسير لحظة أنه يعيش، تفسيرها كأنه عاشها، يتنبأ لنفسه وهو يفسر الصفحة الأخيرة من المخطوط، وكأنه ينظر إلى مرآة تتحدث".
مدار الزمن بين هذا التكوين والأبوكاليبس هو ستة أجيال، بالتالي خوسيه آركاديو بوينديا، مؤسس العائلة، هو جد آخر أجداد آوريليانو. جد جد دانتي، الصليبي كاساجويدا، يقول لخليفته دانتي أن الشاعر يدرك الحقيقة لأنه يحدق في تلك المرآة التي تستمع لأصوات أفكار الأشياء، الصغير والكبير في الحياة، قبل أن يفكروا فيها. في النهاية يقرأ أوريليانو المخطوط السنسكريتي للغجري، الساحر الشبيه ببورخيس، وينظر إلى المرآة التي تتحدث، تستمع إلى فكره قبل أن يفكر فيه. ولكن هل هو يستمع إلى الحقيقة مثل دانتي؟ هل فلورنسا مثل ماكوندو مدينة المرايا "أو السراب" بالمقارنة بوقائع الجحيم، والمطهر، والفردوس؟ هل "مائة عام من العزلة" هي مجرد مرآة تتكلم؟ أم هي تحتوي بداخلها – بشكل ما - على جحيم ومطهر وفردوس؟
فقط الخبرة والتأملات المنضطبة للعديد من القراء الأقوياء ستساعد على إجابة تلك الأسئلة وصولا إلى أي نتيجة. الأهمية النهائية لـ "مائة عام من العزلة" تظل غير محددة حتى الآن. ما هو واضح لمعاصري الكتاب هو أن جارسيا ماركيز قدم للثقافة المعاصرة، في أمريكا الشمالية وأوربا، بقدر ما قدم لأمريكا اللاتينية، واحد من من تكويناتها المزدوجة للسرديات الضرورية، بدونها لن نفهم بعضنا ولا أنفسنا.
II
المبدأ الاستطيقي في "الحب في زمن الكوليرا" هو نسخة مشذبة قليلا لما يمكن أن يكون شعار "مائة عام من العزلة": "أي شيء يمضي" أو حتى "كل شيء يمضي". أي شيء وكل شيء يمضي إلى خليط؛ فوكنر، كافكا، بورخيس، كاربنتيير، كونراد، جويس. كل من الروايتين كتابين مقدسين: "العزلة" هي عهد قديم، و"الكوليرا" عهد جديد، على الأقل بالنسبة لجارسيا ماركيز وقرائه ونقاده الأكثر إخلاصا. أنا نفسي بدأت أُقَدِّم "الكوليرا" على "العزلة"، ولكن هذا اختيار من لديهم الكثير.
لا يمكنني التكهن بما كان سيفعله فوكنر – أكثر من قَدَّر الكتاب المقدس (فقط كأدب)، وشكسبير وملفيل وكونراد وجويس – مع هذه العملين الأسبانيين البارزين. كان سيدرك أن الاندفاعات الكلامية مشابهة لاندفاعاته، والفردية البطولية كانت ستثيره بالتأكيد. إلا أنه مضى بينما ينتظر اللعنة التي ستحمله، وشخصياته الأعظم – دارل بوندرين، كوينتين كومبسون، سوتبين، جو كريسماي، بوبي – ملعونة فيما وراء اللعنات. على الرغم من أن فوكنر يمكن أن يكون طريفا بشكل عظيم كديكنز، كما هو مشهود بعائلة سنوبز، التي تشكل الآن الحزب الجمهوري التكساني، الذي يقوده توم دي لي سنوبز، بينما اختار وطننا بينيتو بوش[iii]كدوتشي. كان أوسكار وايلد على حق دوما: ليس للحياة اختيار سوى محاكاة الفن.
ربما كان فوكنر سيرفض البهجة الغريبة لجارسيا ماركيز، على الأقل في حالته التراجيدية، ولكنه كان سيقبل الإنسانية النهائية التي أكد كل منهما عليها. التدهور، الخوف المهووس من زنا المحارم، غمر العزلة المبدعة بمحيط المعلومات: تلك موضوعات ومخاوف مشتركة. ما هو بالتالي الاختلاف الذي ينتظرنا، إلى جانب الروح العالية الرائعة عند جارسيا ماركيز، التي تميز الاثنين؟
آمال فوكنر نادرا ما تكون مُقنِعة: شخصياته الأعظم عدمية مثلها مثل شخصيات شكسبير. الشعبية الكبيرة لجارسيا ماركيز حصل عليها بخصوبته، التي تحجب إنذاراته الأبوكاليبسية. مثلما كان شكسبير لفوكنر، كان سيرفانتس ضروريا لجارسيا ماركيز: السلف الحقيقي. سيرفانتس، بحكمته الظلامية، ليس أقل عدمية من شكسبير، ولا أعتقد أنه في النهاية كان مسيحيا أو مؤمنا، بشكل أكبر مما يمكن أن يقال عن فوكنر أو جارسيا ماركيز.
اختلاف جارسيا ماركيز عن الثلاثة أكثر وضوحا في "الكوليرا" عن "العزلة": هو بالطبع لديه إيمان رومانسي كبير بالإيروس، على الرغم من أنه يعلم الحقيقة الفرويدية أن الحب الغزير جدا هو قناع لغريزة الموت. إلا أنني أفضل "الكوليرا" عن "العزلة" في النهاية لأن فلورينتينو آريثا شجاع، كما يتضح من الفقرة الختامية بالرواية:
"دعينا نعود نعود نعود إلى لا دورادا".
ارتعشت فرمينا داثا لأنها أدركت صوته السابق، المضاء بنعمة الروح القدس، ونظرت إلى القبطان: كان قدرهما. ولكن القبطان لم يرها لأن قوى الإلهام العظيمة لفلورنتينو آريثا خدعته.
سأل: "هل تعني ما تقول؟"
قال فلورنتينو آريثا: "من اللحظة التي ولدت فيها لم أقل أي شيء لم أعنه".
نظر القبطان لفرمينا داثا ورأى على أهدابها الوميض الأول لبرد الشتاء. ثم نظر إلى فلورنتينو آريثا، وقوته التي لا تقاوم، وحبه الشجاع، وكان مفعما بالتشكك المتأخر من أن الحياة - أكثر من الموت - هي التي لا حد لها.
سأله: "وإلى متى تعتقد أننا نستطيع أن نمضي ونعود؟"
حفظ فلورنتينو آريثا إجابته جاهزة لثلاثة وخمسين عاما، وسبعة أشهر، وإحدى عشر يوما وليلة.
قال: "إلى الأبد".
[i] Yoknapatawpha مدينة متخيلة في أدب الكاتب الأمريكي ويليام فوكنر، وهي تقع في ولاية الميسيسيبي بالولايات المتحدة، ومعظم روايات الكاتب الأمريكي دارت فيها.
[ii] الإشارة لأمثلة وبديهات الأمريكي رالف إميرسون Ralaph Emerson (1803-1882)، ووالاس ستيفنز Wallace Stevens (1879-1955) هو الشاعر الأمريكي، و"ملاحظات نحو سرد راق" و"مساء عادي في نيو هافين" هما قصيدتان له.
[iii] توم ديلاي هو النائب السابق عن ولاية تكساس بمجلس النواب الأمريكي، وبلوم يمزج اسمه باسم سنوبز وهو اسم عائلة متخيلة كتب عنها فوكنر. ثم يخلط بلوم بين اسم بينيتو موسوليني وجورج بوش (الابن).