مصطفى ذكري
حطب معدة رأسي
عن دار العين للنشر
الاقتباسات من اختيار: أمير زكي
"تركت المقهى في الرابعة صباحا. كانت جلسة طويلة مع أصدقاء مهنة. كنت أكثر المتحدثين حماسا. أحكام قاطعة، وآراء حادة، وصوت مرتفع. كانوا يقبلون كلماتي، ليس لأنهم لا يملكون أحكامهم وآرائهم الخاصة، بل لأن لا قدرة لهم على مُجاراتي في ارتفاع الصوت، واشتعال الحماس، وحضور الأمثلة التي تدعم حدة الرأي وطغيان الحكم. دخلت البيت في الرابعة والنصف صباحا. فكرت في حديث المقهى. وشعرت بفجوة هائلة تفصلني عنه، ولو جاءني واحد من الأصدقاء الآن، وردد على سمعي مقتطفات من الحديث الطويل، لأنكرته بجحود وبرود، وكأنني ادركت في زمن لاحق، أنه لا فائدة من هذا الحديث، ومع أنه في النهاية دردشة فارغة يمارسها المهنيون في مجالاتهم المختلفة، إلا أنها دردشة سيئة، يظهر أثرها عند العمل الحقيقي، وكأنها تحرق شيئا من طاقة العمل المستقبلي. إذن هو ليس حديثا، إنها دردشة، وزمنها حاضر أبدا".
***
"لم يبق لي شيء تقريبا، لا الشيء، ولا وجوده، ولا وجودي، ولا الغرض الصرف، لا اهتمام من أي نوع بأي شيء، ومع ذلك أبحث، وما زال هذا بلا ريب اهتماما بالوجود، لا بحث يثير اهتمامي، حتى الذي يساوي أهمية البحث عنه، المتعة الوحيدة التي آخذها من عملية البحث لا آخذها، بل أعيدها كما أخذتها، أتلقى ما أعيده، آخذ ما أتلقى، لا لكومة القش دون إبرة، ولا للإبرة دون كومة قش".
***
"قال الممثل الأول: شجرة، في جملته الحوارية، وهو يقصد شجرة بعينها، بينما قال الممثل الثاني في جملته الحوارية، وهي ردا على جملة الممثل الأولى: شجرة، وهو لا يقصد شجرة بعينها. أوقف المخرج تصوير المشهد، لأنه لم يستطع لمس الفرق بين أداء الممثل الأول، وأداء الممثل الثاني، وكان الممثل الأول كان يقصد شجرة بعينها، والممثل الثاني يقصد شجرة أخرى، لكن بعينها أيضا. بعد توجيهات المخرج دارت الكاميرا مرة ثانية، وبعد الجملتين الحواريتين للممثل الأول، والممثل الثاني، توقفت الكاميرا، لأن المخرج أحس أن الممثل الأول لا يقصد شجرة بعينها، كان يقصد شجرة بإطلاقها، بينما كان الممثل الثاني يقصد شجرة الممثل الأول. تحدث المخرج مع مساعده، وبدا أن غياب الأشجار عن مكان التصوير هو الحائل بين تمييز أداء الممثل الأول عن أداء الممثل الثاني، وبدلا من الكافيه انتقل مكان التصوير بنفس الحوار إلى كازينو في حديقة، وفي خلفية الكازينو كانت هناك شجرة تين عملاقة. في المشهد التالي اختفى الممثل الثاني، وجاءت البطلة التي كانت تجمعها مع الممثل الأول ذكرى قبلات قديمة تحت شجرة بعينها في زمن مراهقتها، ولكن كما يقولون: مرّت مياه كثيرة تحت الجسر منذ ذلك الحين، ولم تستطع البطلة التفكير في شجرة بعينها، لأنها تلقت قبلات تحت عشر أشجار، أو فيما يزيد. قالت البطلة: شجرة، وهي تفكر في أشجار بعينها، لكنها لم تفكر في الأشجار بإطلاقها كما حدث مع الممثل الثاني. اعتقد الممثل الأول أن البطلة تقصد شجرة بعينها".
***
"لأنني لا أذهب إلى هدف معين دون أن أعود إلى الذات، وبقدر ما تكون العودة مفاجئة، بقدر ما تكون مؤلمة، إلا أن الهدف القريب أقل مفاجأة وألما من الهدف البعيد، بسبب المسافة المتناهية في الصغر بين الهدف القريب وبين الذات، وكأن رفّة عين كفيلة لاصطدامي بحاجز الذات الكريه، فأعرف سريعا زيف الهدف، أو على الأقل استحالة فصله عن الذات. على النقيض عندما يكون الهدف بعيدا، وأكون مُستغرقا فيه طوال أيام وشهور، أقطع فيها طريقا قفرا للوصول، وأنا أحمل مؤونة الحماية من الجوع والعطش. أتوجه إلى الهدف البعيد، الواقع على حدود الذات، حدود نائية أيضا، إذ كيف يكون الهدف بعيدا، إذا لم تلمس حدوده حدودا أخرى بعيدة، نقاط تفتيش أمنية، ذواتا حدودية مصغرة من ذاتي الكريهة، لكنها هنا على الطريق، مُعَدّة لانطلاقتي الكبيرة، هنا فقط هي تَذكِرة، وتأمين من الضياع، وصون من خطورة الطريق. وبعد آخر نقطة حدودية، عندما تنفتح أمامي المسافة، وبينما أفكر بسرور في العتق، وأن سن رشيد تجاوز نقاط ذواتي المرورية، أجد في نهاية الطريق، ذاتي التي هربت منها، والهدف البعيد، والانطلاقة المباركة، شيئا واحدا. أعود إلى البيت مهدودا، محمر العينين. دوش الماء الساخن الآن بألف هدف وألف طريق، وعند تأزُّم الأمور لا سبيل لرفع المعنويات إلا بأشياء حسية بسيطة، وكما كانت الصفعة على خد التحليل النفسي قاسية، وبعد عقود طويلة من الإيمان بأن هناك مرضا نفسيا لا يحتاج إلا لخيط الحديث الناعم بين الطبيب والمريض، عادت العائلة سيئة السمعة، جزارة طب العصابيين، الزانكس والفاليوم والبروزاك، لحقن ميوعة وأنوثة التحليل النفسي بشيء من الصلابة والرجولة".
***
"يبدو أن الإنسان الغربي لا يقبل أن تكون مملكة الحيوان مملكة بدائية تحكمها بالكاد قوانين هشة، ومع أن الهدف الظاهر والمعلن في حلقة البحث، هو إعادة تأهيل مجموعة من إنسان الغاب، الواقف وجها لوجه أمام انقراض نوعه، تمهيدا لإعادة إطلاقها في الغابة المطيرة، إلا أن الهدف الحقيقي الباطن ربما بشكل لا شعوري داخل الغربيين، هو صناعة أفلام تسجيلية لمحطات كبيرة مثل الأنيمال بلانت والناشيونال جيوجرافيك".
***
"حدث ويحدث أننا قطعتُ، وما زلت اقطع، في التسلية أشواطا بعيدة، بإخلاص واصفرار وذهول، كما لو كنت في معركة مباشرة مع الوقت، ليس لأنه ثمين ولا يُعوَّض، بل فقط لمجرد وجوده، وإحساسي الطاغي بثقله، إنها معركة تستهدف قتله، وعلى الرغم من أن المعارك تسمح بجميع الأسلحة، الشرعي منها وغير الشرعي، إلا ان حالتي تبقى فيها التسلية دون تنوع، دون انحراف، تسلية تقليدية عادية يمنعني الحياء من ذكر فصولها الرتيبة، وإذا كان هناك فخر ما، فليس سوى الثبات المتخشب الهش المعرض لانكسار مهين دون أسباب واضحة، أمام الأيام والساعات والدقائق، ومع أنه يُحسَب في النهاية ثباتا، إلا أنه لا يستدعي الفخر، كما أن العمل في مجال الأدب لا يستدعي الفخر. قلتها أخيرا: أعمل في مجال الأدب. وكانت الأسباب التي جعلت أبناء مهنتي يرضون عن مهنتهم وعن أنفسهم، هي نفسها الأسباب التي جعلتني في نفور من مهنتي أولا ومن نفسي ثانيا ومنهم ثالثا، وعلى هذا تركتُ لهم جيفة الأعمال الروائية المطابقة للمواصفات، وحفلات التوقيع، واصطياد ما هو اجتماعي أو سياسي أو تاريخي، ونجاحات البيست سيللر، وبؤس توجههم لكتلة دهماء لها اليد الطولى في تشكيل الذوق الفني، وفي وضع الكاتب على خازوق الشهرة".
***
"إن النقص الأخلاقي في حياة الكاتب مقبول ومُدلل من قِبَل الساهرين على أدبيات السير الذاتية، بل يبدو جذابا، ومادة تسجيلية ودرامية تتحول تحت خفة اليد إلى كمال من نوع سحري، لكن يبقى نوع واحد من أنواع النقص الأخلاقي لدى الكاتب أو الفنان محظورا، وهو تقدير الكاتب أو الفنان لعمله الإبداعي، وهذا التقدير يشمل سعي الكاتب أمام عمله، هذا السعي لا يقبل خفة اليد، يظل قبيحا مُنفرا يستعصي على تحويله من نقص أخلاقي إلى السقوط الوجودي الذي تنعم به فروع النقص الأخرى".
***
"عندما يعمل شخص ما بشكل محموم في مكتب، سيصبح حتما متعبا لدرجة تمنعه من الاستمتاع بأجازته، ولكن حتى لو كان هذا العناء المضني من العمل شفيعا بأن يُعامَل بمودة من قبل الآخرين، فإن هذا الشخص الما لن يضمن تلك المعاملة، بل على العكس، شخص ما وحيد، غريب الأطوار، هو مجرد موضوع للفضول، وطالما أنك تقول: شخص ما بدلا من أنا، فليس هناك مشكلة، ويستطيع الشخص الما هذا أن يروي القصة بسهولة، ولكن بمجرد أن تعترف أن هذا هو أنت نفسك، ستشعر كما لو أنك مشلول أو مذعور".
***
"بتعبيرات الموسيقى، يحتفل الأدب الكبير، الأدب التقليدي، أدب الماجير، طوال قرون، بنظرة العيون، على اعتبار أنها نافذة الروح، على عكس الأدب الصغير، أدب المانير، لا يهتم كافكا كثيرا في أدبه بوصف العيون، وقد يكون سلوك الشخصيات أو أوضاعها الفيزيقية النافذة الحقيقية للروح. كان والد كافكا جديرا بفحص ووصف سلوكي وفيزيقي لا يرحم من قِبَل ابنه، ومع هذا لا نجد بسهولة وصفا لعينيه، ولأن وصف العينين هو ألف باء الأدب الرشيد، ولأن هذا الوصف ساخن بطبيعته، ويؤكد الحياة، ولأن كافكا من ذوات الدم البارد، والنافي الأكبر للحياة، ولأدب الماجير، الأدب الكبير، فقد سلب بهدوء كل ما يُنسب لنافذة الروح. إذن فقد تُستدْرَج الروح إلى مكان ناء، وهناك يتم تصفيتها نهائيا من كل ما ينسب إليها، وليس بعاطفة أخيرة نقول: كلب وراح".
***
"هذه اليوميات تقتلني، لكنني لا أملك شيئا آخر، وبعد العصيان المبطن بعجز أمام البناء القصصي والروائي، فإنني لا أملك سوى الصراع مع الفقرة شبه الأدبية. اليوميات تسمح بنقص الفقرات، ورداءة صياغتها، لكنها تسمح ضمنا بكل براعة ممكنة. إن الديموقراطية من طابع اليوميات، لأنها تفترض الانتظام في الكتابة، والانتظام قاتل آخر، فمع الانتظام سنكون وجها لوجه أمام التكرار، شئنا أم أبينا، فلم يسلم كافكا في يومياته من التكرار، ولم يسلم أيضا بيسوا في كتابه اللا طمأنينة. إن مشكلتي مع الكِبْر، وينقصني كثير من التواضع. أضع لنفسي مقياسا عاليا في كل فقرة أكتبها، وأعلم أنني لا أحقق هذا إلا نادرا، ومع هذا أيضا لا ينقطع الأمل المؤلم. وفي زمن الواقعية الصارخة التي تتمثل في القبض على كل ما نعيشه من احداث كبيرة، فلا أمل أمام كتابة جمالية، وكأن معركتي من طرف واحد، ولا وجود لطرف آخر".