أمسية مع الأديب*

قصة أولجا توكارتشوك

ترجمة محمود راضي

* نُشرت هذه القصة القصيرة للمرة اﻷولى باللغة البولندية ضمن مجموعة قصصية حملت عنوان (الدق على طبول عديدة) صدرت في العام 2001، ثم نُشرت عبر موقع Short Story Project مترجمة للإنجليزية على يد المترجمة اﻷمريكية جينيفر كروفت التي سبق لها أن ترجمت لتوكارتشوك روايتها اﻷشهر (رحالة) التي جلبت لها جائزة البوكر في العام 2018، وبعدها حازت على جائزة نوبل للآداب في العام 2019.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


تراودها أفضل اﻷفكار على الدوام في الليل، كما لو كانت شخصية مختلفة ليلًا عما هي عليه في النهار. سيقول إنها تفاهة، كان سيغير الموضوع، بادئًا جملة جديدة بـ(أنا). كان سيقول أنا، أنا أفكر بأصفى ما يكون في النهار، في الصباح، مباشرة عقب قهوتي اﻷولى، في النصف اﻷول من النهار.

حين قَرَأت بالصدفة (يا ربي، يا لها من صدفة) في الجريدة أنه سيسافر إلى بروسيا، إلى أولشتين، أنه سيصير شديد القرب، جافاها النوم. عاد إليها كل شيء، أو باﻷحرى لم يعد فهو كان حاضرًا دومًا دون فراق. استلقت على ظهرها وتأملت في احتمالات شتى تحقق لها مرامها ليوشك على التحقق. إنها في محطة القطار، على الرصيف في مدينة غير معلومة، تسير نحو الاتجاه المعاكس. يراها، تعبير دهشة على وجهها. من الصدمة، يتوقف. تحديقته. حافة قبعتها العالية. صفاء ولمعان تلك التحديقة اللتان أوصلتاها ذات مرة لرجفة من اﻹثارة. ليس جسده، تلك النظرة فحسب. أو على النقيض التام: تسير عبر شارع مشمس نحو أحد اﻷسواق (كيف يبدو ذلك السوق في أولشتين؟)، وهو (مرة أخرى من الاتجاه المعاكس) يسير خلف رجل وامرأة. وحين يراها يعرفها، ﻷنه شحب في ارتباك حين قال للآخرين «معذرة»، يرفع قبعته الزاهية بيد مرتعشة (كان قد خف شعره، أكان الوقت سانح لهذا؟). تعطيه يدها، مسيطرة على نفسها، كانت قد جالت في السوق لساعات على أية حال كي تلتقيه. أيمكن لأولشتين أن تكون مدينة كبيرة؟ ربما كبيرة جدًا، ربما يلتقي أحدهما بالآخر في زحام مايو، ربما سيصطحبونه مباشرة إلى الفندق من محطة القطار في عربة، ربما ليس لديهم سوق هناك على اﻹطلاق، ربما ستمطر، ربما لن يأتي، سيلغي رحلته في آخر دقيقة ﻷن زوجته مريضة. ربما سيتأخر في ألمانيا بسبب أحوال النشر، هو بكل حال كاتب كبير قد يعرفه كافة المثقفين، أو ربما لا، ربما هي فقط من تتبع كل إشارة عنه في الصحافة، حتى أهونها، ربما هي الوحيدة التي تتأكد أن روايته ذات المجلدين قابعة هناك، في متجر الكتب، الوحيدة التي ستمسح على الغلاف بيدها من داخل القفاز أثناء مرورها، بينما تسأل بائع الكتب عن شيء آخر تمامًا.

في الصباح بدت لها الفكرة بالغة السخف. طوق جوهان خصرها وقبَّل فمها وهي ذاهبة للإفطار. خلال ساعة سيأتي مدرس الموسيقى من أجل اﻷطفال. حين قطعت حافة بيضتها نصف المسلوقة، كان تتراءى أصابعها، الرفيعة والجافة نوعًا ما، كما لو كانت لا تنتمي إليها، قد أيقظ في داخلها لوهلة إحساس موخز بالندم. ثم قالت، دون أن تتوقع ذلك من نفسها، إنها ترغب في الذهاب لبضعة أيام إلى والدها، إلى دانسك. مسح زوجها بمنديله على شفتيه، لم يبدُ مندهشًا. انسحب في يسر عن المائدة وأشعل سيجارة. أمر الخادمة أن تفتح النافذة. اندفع هدير المركبات وعربات الترام المجرورة بالخيول إلى حجرة الطعام من الشارع. انبعث بعدها على الفور العبير المخملي الرقيق لليلك المتفتح أمام المنزل.

قبعة قش واسعة الحواف في صندوق قبعات، تنورة جورجيت داكنة، بلوزة بيضاء ذات زخرفات على الصدر، مظلة بتخريمات. حقيبة محمولة، شنطة سفر جلدية كبيرة، حذاء طويل معقود بأزرار، قارورة عطر محجوبة داخل ملابس داخلية مخملية، بضعة أزواج من القفازات، حقيبة سفر. في محطة دانسك اشترت تذكرة إلى أولشتين وانتظرت ثلاث ساعات في المقهى. في دورات المياه لاقت انعكاسها في المرآة مصدومة، لتصورها أنها أصغر سنًا. في مقصورتها حاولت قراءة طبعة قديمة من مجلة نيو دويتشه روندشاو[1] التي احتوت على واحدة من قصصه والتي أخرجتها من حقيبة يدها. كانت من قبل تحفظها كلها تقريبًا عن ظهر قلب، اﻵن اكتشفت أنها  نسيت فقرات كاملة.

وقعت معجزة صغيرة: أولشتين وفينسيا تتمتمان إحداهما اﻷخرى. بعد عشر سنوات صارا فجأة أطرافًا لنفس المتتالية، عمودًا لشطر من حياتها: شمالًا وجنوبًا، ظهيرة ومنتصف ليل، عطش وارتواء، ماض للزمن وغيابه، نظرًا للوراء وتطلعًا للأمام، تقابلًا للأضداد.

تراه للمرة اﻷولى على الشاطئ. مرتديًا ملبس ناصع وقبعة زاهية. تتذكره رغم أنها دومًا  تتذكر بالكاد أناسًا رأتهم مرة واحدة. ها هو على الشاطئ، فتيًا خليّ البال. ثم حين تعارفا، بدا لها رجلًا بقناع. قال: «أنا كاتب»، لكن لم يشغلها ذلك البتة. يقول أحد معارفهما المشتركين الناهض من مقعده برشاقة إنه حمار. حين رأت حمّامه في الفندق للمرة اﻷولى بعد كل شيء، تولد لديها الانطباع أنها اﻵن فقط تعرفه. لم تسمح لها الليلة الحميمة ولا المعرفة السطحية بجسده -مع أنهم أكثر شغفًا- بالنفاذ إلى هذا الرجل، وإنما من خلال حمام الفندق. منشفته ملقاة على المغطس، أدوات حلاقته، فرشاته، فرشاته ذات المقبض التالف من المياه، علبة الصابون الخشبية. مخلوقات ساكنة، شهود على وجود الجسد البشري. تلمست تلك اﻷغراض حين كان لا يزال نائمًا، أو ربما كان مستيقظًا بالفعل لكنه ينتظرها (صمت الصباح، شيء من الحرج عقب ليلة من الحب)، استُثيرت مشاعرها فجأة. شعرت أنه يمكنها أن تميل رأسها نحو المرآة الباردة وتبكي.

تذكرت على الدوام تلك اللحظة، ربما كانت بداية حبها. أليست المحبة الحقة أن تعرف شخصًا ما؟ أليس لهذا السبب يعشق البشر أجساد بعضهم، لا ﻷجل المتعة، وإنما بالاقتراب ﻷقرب مسافة ممكنة؟  ذلك النفاذ إلى منحنيات الجسد، تلك الدفعة لاتجاه المرء خلف كل حافة، السعى نحو الداخل، التنقيب عما يقبع في الباطن.

اتضح أن المحطة في أولشتين أصغر مما ظنته. انجرفت لوهلة في قلق، عانقت يداها غريزيًا درابزين السلالم البارد من القطار. لكن حين أخذتها سيارة اﻷجرة إلى أفضل فندق في المدينة، شعرت فجأة كما لو امتلكت سيطرة مطلقة على العالم. البشر الضئيلون على نحو أو آخر، ثنائيو اﻷبعاد، غير العالمين بشيء، غير الشاعرين بإحساس، نسائخ اﻵلات الواهنة. متاجرهم الصغيرة المثيرة للشفقة، أفواههم الغافلة عن أي شأن، الفم الذي لامس في ذات اللحظة السطح اﻷملس لكوب قهوة ممتلئ، أجسادهم المتمركزة حول ذاتها، طقوسهم الغريبة، مثل التبختر نحو قبعاتهم ثم العودة، ممسكين عكاكيزهم ومظلاتهم بإحكام قدر طاقتهم، أمسياتهم التافهة المُضجرة في منازل مفروشة بأرائك بالية، عقولهم المحدودة غير المناسبة لتخطى ما وراء الجملة المنطوقة التالية. التافهون أشباه الدمى. رغم ذلك تولد لديها اﻹحساس أنها أحبتهم، وهى متجولة في سيارة اﻷجرة تلك، ممددة ساقيها في مقعدها مثل رَجُلِ. تعاطفت معهم، ليس عن شفقة. كان حبًا حقيقيًا، كمثل اﻷطفال المطيعين لخطط اﻵباء في الدروس دون معرفة أهدافهم. جلست رافعة جسدها ورأت أكثر وهي في سيارة اﻷجرة هذه. أسست القواعد. خلقت لحظة تلو لحظة، إيماءة تلو إيماءة، حدثًا تلو حدث.

في الفندق، وهى توقع باسم اختلقته في سجل النزلاء، سألت موظف الاستقبال غير قاصدة: «أحقًا سيقيم الكاتب الشهير (ت)[2] الليلة في هذا الفندق؟»

تطلع إليها موظف الاستقبال، غيمت عدسات نظارته القذرة على عينيه. كان من الواضح أنه تمكن فقط من السيطرة على حماسه وكبريائه بصعوبة بالغة.

قال:«صحيح، من المفترض أن يقدم قراءة في الغد حول الموسيقى واﻷدب. بعد ظهر غد»، ثم واصل برزانة مفاجئة «أناشدك ألا تخبري أحدًا بهذا، عن إقامته في فندقنا، فهو أفضل فندق رغم عدم وجود مكان آخر فعليًا بالتأكيد، ولدينا جناح من أجله. مجهز وفي الانتظار منذ بضعة أيام اﻵن».

أشار إلى مفتاح معلق على انفراد تحت الرقم الروماني I: «نخاف ألا يمهله قراؤه شيئًا من الراحة».

سألت: «أهو حقًا بهذه الجماهيرية؟»

«زوجتي قرأت جميع أعماله»، رد قائلًا كما لو كان يفسر كل شيء.

سألت: «متى يصل القطار القادم من برلين؟ أنا في انتظار شخص ما!»

نظر إليها موظف الاستقبال متشككًا، لكنه أخبرها بالموعد.

كانت الغرفة بائسة؛ بابان زجاجيان طويلان مفتوحان على الشارع الرئيسي، كانت هناك حمائم على العتبات.

غسلت وجهها ثم جففته بمنشفة خشنة. غيرت بلوزتها. مشطت شعرها وشرعت في تشبيكه بعناية قبالة المرآة المعلقة عاليًا بعض الشيء: رأت فقط عيناها وجبينها. فركت بعض العطر على جلدها بإصبعها. اعتقدت أنه لا يزال أمامها بعض الوقت كي تذهب وتتجول في الخارج، وتتبضع قليلًا، وتترك انعكاسها على ألواح زجاج شبابيك المحلات، وتتأمل الاتساع العارض للسوق، وتشرب الليمونادة تحت مظلة ما. وضعت قبعتها، لكنها تركت المدخل بسرعة ورقدت كليًا على ظهرها، على الفراش المصنوع،  والمظلة في يدها، منحتها الشقوق الرقيقة في السقف إشارات عبر أبجدية غامضة.

تمشيا أيامًا كاملة حول المدينة. فينسيا قائظة وغارقة. القنوات عطنة الرائحة. ضبطا نفساهما دومًا وهما يسرعان خطاهما، عليهما أن يتظاهرا كما لو كانا ذاهبين لمكان ما. «أوه، لِمَ نحن دائمًا في عجلة!»، يتنهدان، يضحكان. المغزى الحقيقي خلال تمشياتهما أن تتشابك أياديهما، ويتلامس كتفاهما، وتحمل الريح فجأة روائحهما إلى أحدهما الآخر. إنهما تحت ملاحظة أحدهما للآخر وهما سائران كتفًا بكتف دون تطلع واحدهما للثاني. كيف يعقل ذلك؟ يخبرها باستمرار عن عائلته. يفاجئها ذلك ﻷنها لا تملك شيئًا تحكيه في هذا الصدد. لكنه يتحدث ويتحدث كما لو كان يؤكد لها على وجوده وحمله في جيناته لأولئك التجار الهانزيين[3] وزوجاتهم المنهكات منذ الطفولة وأطفالهم، وأولئك المواطنين المنحوسين ذوي الشوارب. ينتهي به الوقت مع البشر. لهذا ربما يصير المرء كاتبًا، إنه يتذكر أسماءهم وأقوالهم الطريفة، يتذكر حماقاتهم وعاداتهم الغريبة. يخصص في سخاء خصيصة لكل امرئ. إنها لا تصدقه، من المستحيل أن يصير كل فرد مثيرًا. هذا غير منطقي. يتركب العالم من حشد واحد وعدد قليل من اﻷفراد المتفردين، عدد قليل حسب ظنها. البشر مثل الموجة بالنسبة إليها، غير متمايزين، باستثناء أولئك من تحب. من المستحيل أن تحب الجميع.

فيما عدا وقت جلوسهما لوهلة في مكان ما: في مقهى، على كراسي قبالة شاطئ خال، على حواف رصيف الميناء، حينئذ فقط تتلاقى أخيرًا نظراتهما. من الصعب قول أي شيء على اﻹطلاق. تريد أن تميل عليه، تلك النظرة الصافية البراقة الزرقاء دون وجل تستشعرها على جلدها في كل مرة تتطلع إليه.

يجلسان في السهرات مع أناس آخرين على شرفة مؤدية للخارج نحو البحيرة. تصنع أوراق الشجر المضيئة باﻷصفر من المصابيح صورة خادعة لبراري محلية غير متوقعة. أولئك اﻷصدقاء، المعارف المشتركين، جمع صغير مبهج نمام، هؤلاء اﻷصدقاء جزيرة نستطيع أن نرسو عليها لوهلة، مستشعرين اﻷرض تحت أقدامنا، حتى مع كون اﻹبحار نفسه هو ما يمتعنا بالتأكيد.

المنزل متواري في نبات اﻷرقطيون، يحيطه سياج طويل. تتسلل إليه عارفة أنه هناك. فقط كي تراه. تلاحظ فجأة أنها عارية وتقفز خارج الطريق إلى اﻷرقطيون. تشق طريقها عبر اﻷرقطيون نحو الحديقة من الخلف. اﻵن تستطيع رؤية النوافذ المضيئة للصالون. يوجد ما يشبه حفل استقبال. أشخاص منتشرون خلف اﻷلواح مع نبيذ في أياديهم. تتحرك شفاههم في صمت خلف الزجاج. تلك المرأة، تلك المرأة الجميلة مرتدية اﻷزرق، هذه هى زوجته، إنها توزع الابتسامات. كيف تتدبر كل شيء بعناية! يتنامى اﻷرقطيون حادًا، ينخز جلدها. إنه ليس هناك، في حوض الصالون هذا. إنه ليس هناك.

فجأة استيقظت. قبعتها مضغوطة عند رقبتها. نهضت وتطلعت في المرآة، عيناها منتفختان قليلًا، دامعتان. حان الوقت.

كانت أولشتين عبارة عن شارعين على شكل صليب. وفي الشوارع قلعة، وساحة بلدة، وموضات الأمس. من غير الممكن العيش هنا، هى وجهة للوصول فقط. منظومة بروسية وكآبة آسيوية. الرائحة الفاترة للمياه. طلبت قهوة حين دقت الساعة الثالثة. سيكون اﻷطفال نائمين اﻵن. اشتاقت فجأة لرائحتهم. لماذا يفوح من شعر اﻷطفال عطر الريح؟ أخذ النادل مالها، ناظرًا إليها في فضول، أقرب للتغزل. اقتربت من المحطة ببطء. فجأة تبخر هدوؤها. سارع قلبها في الخفقان. استشعرت ثنائية اﻷبعاد بطريقة ما، كما لو كانت غير موجودة وراء هذه اللحظة، كما لو لم تحز المستقبل ولا الماضي. امرأة سائرة تجاه المحطة لا أكثر.

كان رصيف المحطة شبه فارغ: شاب يحمل باقة من الزهور، امرأة مع طفلين، ويجلس على المقعد ذلك الصنف من المسافرين الذين يتأخرون على الدوام، حيث تمر القطارات دائمًا على مبعدة. جاء جمع من الناس بعدها. رجال. مهمون، بهم شيء من امتلاء، أحدهم يرتدي نظارة رفيعة اﻹطارات، وأخر في حلة سوداء راقية في تفصيلها مع نظارة أحادية على عينه (كما لو أتى من دار جنازات، فكرت في ذلك وهى تنظر إليه). الثالث والرابع ليست لديهما أية شخصية. لا بد أنهما ممثلو كافة جوانب الثقافة الرفيعة في أولشتين، منتظرين وصول اﻷديب. ثم توافد جمع كبير كفاية من الطلاب. فجأة تبدلت شخصية المكان، واضعة نفسها في حالة من الحركة والصخب. أكانت هذه رحلة ميدانية؟ نزهة؟ هل منحت المدارس البروسية هذا اليوم إجازة؟ بذل المدرس اﻷكبر سنًا محاولات مُهدرة لاستعادة النظام.

كم هذا غريب. يبكي حين يفترقا في فينسيا. يعتصر يدها، وتكسو الدموع عينيه الزرقاوين الباردتين. يقول: «يا له من غباء، البكاء، سنرى بعضنا البعض مرة أخرى». تفكر أنه يتوجب عليه أن يطلب يدها، إنه تقليدي في هذا الصدد. فكرت: «يا له من غباء، طلب اليد، سنكون معًا من جديد»، تخشخش العبارة في ذهنها. لا يمكن اﻵن تخيل أية احتمالية أخرى.

ثم فهمت أنه كان يبكي لنفسه. «كتبت إليكِ أربع رسائل» يكتب مستدركًا في الخامسة «لكني لم أرسلهم. فقد هيجوا جرحًا كان من المفترض أن يلتئم اﻵن. أنتِ فائقة الجمال، شديدة النضارة كما لو لم يَمَسُكِ العالم إطلاقًا، أنتِ من مكان آخر، مثل ملاك. كلما لم أحزك، رغبت فيكِ أكثر». وجدت هذه الرسالة مثيرة للقلق، حتى لو لم تعرف السبب. كما لو كانت موجهة لشخص أخر.

تململ بعض الشيء الحشد القليل مشغول البال. اقتلع الشاب صاحب باقة الزهور نفسه من مقعده. لَمَعَ السيد ذو البذلة السوداء نظارته اﻷحادية بمنديله في قلق. بذل المدرس الكبير في السن جهودًا مضنية لتنظيم الطلاب ضمن طابورين. ثم أدركت أن كل أولئك الناس ينتظرون إياه. ذلك الـ (ت) توقف عن انتمائه لها ﻷنه انتمى أيضًا للأخرين. أولئك اﻷطفال والسادة مرتدي البدلات والرجل حامل الزهور وموظفي الاستقبال وزوجاتهم قارئات الكتب، كل أولئك اﻷشخاص استحوذوا عليه أيضًا.

لكن ما الذي يعرفونه صدقًا عنه؟ هل يعرفونه من روايته اﻷشهر، من القصص القصيرة التي نشرها في المجلات؟ لذا من ذا الذي عرفوه؟ لقد ترك قصاصات هزيلة في كل شيء كتبه، فتات خبز بالكاد. هل يعيش داخل جُمله المثالية الناصعة المقنعة؟ ثم في فينيسيا، خلال تمشياتنا اللانهائية، كان يتحدث على الدوام في دفعات قصيرة متوترة، وهى تحاول دائمًا أن تعي ما إذا حلت نقطة بعد أم مجرد إيحاء للفاصلة. هل يتواجد في السرد المكتوب، في الحكايات؟ إنه لم يفلح حتى في إلقاء النكات. كيف تدبر حاله كي يخادع الناس بالظن أن الشخصيات التي خلقها هى شخصيته ذاتها؟ كان اﻷمر فائق السهولة لديه، أو ربما لا، ربما هى من خُدعت، وفقدت اﻹحساس بالحب والرغبة حيال رؤيتها شخصًا آخر كلية. لا، لم تستطع تمييزه في أية جملة مما كتب. إنه ليس هناك، لم يكن هناك في قلب الراوي المحايد للملحمة. لم يكن هو المتحدث. كان هذا لكونه شديد الجاذبية، مفتشة داخل كيان حي، شخص ما خالق للعوالم. حُكام الكلمات. تبحث عن هذا في نَفَسِه حين ينام، واعيًا باللاشيء، مائلة بظهرها، مفتشة عما يكمن وراء رقعة نظره، مختبئًا وراء بوابات عينيه، تراقبه يأكل اﻵيس كريم، هل أحبه مثلما أحبه اﻷخرين؟ هل تحمل أعصابه إشارات لمخه مثل أعصاب سائر البشر؟ يتحتم وجود اختلاف ما. تذكرت فجأة أنه كان يربي شاربه وقتئذ، في فينسيا. كانت يده تجوب آليًا نحو شفته العليا، حيث تلتذ أطراف أصابعه من اللمسة الخشنة لهذا القش الداكن.

كان القطار قادمًا. كوّن دخان القاطرة شكلًا شبه ملموس فوق رؤوسهم. تجلجل قلبها واستشعرت شفتاها الجفاف. تراجعت وراء لافتة مقصف المحطة، خافضة حجابها. للحظة وجيزة توقف القطار هناك، وقطعًا لم يحدث شيء. وقفت المحطة ثابتة راسخة لوقت وجيز. توجهت أنظار الرجال اﻷربعة المشتتين من سيارة لسيارة. ثم لاحظت أن المجموعة تحركت فجائيًا نحو اليمين، نحو مقدمة القطار. تحركت السيدة غير البارزة مع طفليها أيضًا في هذا الاتجاه. كان الرجل صاحب الزهور هو اﻷول، يكاد يركض.

رأته فقط حين اتجه عبر بوابات المحطة، محاطًا بهذا الجمع الصغير. رأت في اندهاشة أنه بات اﻵن أكثر امتلاء، أكثر عملية، صعب المراس. نفس الوجه الذي عرفته تمام المعرفة، لكنه اﻵن مختلف، كما لو ترسخ بجذره في الواقع. ثم انحجب. أعطاه الشاب ألبوم أوتوجرافات كي يوقع، غطى عليه الرجل ذو النظارة اﻷحادية بجسده. كان محط نظر هذه الانقضاضة، أشيب وهادئ، كما لو لا يوجد ما قد يدهشه بعد اﻵن.

لذا ليس اﻵن. لاحقًا. استكان قلبها. تتبعتهم من مسافة آمنة. راقبتهم وهم يركبون سيارة أجرة.

ستنعقد اﻷمسية مع اﻷديب في مسرح البلدة. ألصقت التنويهات المعلنة عن هذه الحدث في أماكن عدة. «سيقدم اﻷديب الشهير (ت) قراءة..». كانت من أوائل الوافدين. اصطف الناس في بطء نحو القاعة. النساء في أبهي فساتينهن فائحة عطورهن مثل سكان المدينة. وأزواجهن ضخام الكروش مع ساعاتهم المسلسلة إلى صدرياتهم متململون من الوقت. بورجوازيّ أولشتين. واﻷكثر تواضعًا في الملبس: معلمين ربما، النخبة المثقفة المحلية الواعية بذاتها. كان الشاب من المحطة هناك أيضًا، من غير باقة الزهور هذه المرة. ثلاث سيدات يضحكن ورموش أعينهن تطرف. ممثلات؟ جمع من الطلبة. لذا ها هم قراء (ت) العظيم الشهير، مريدوه من شرق بروسيا.

«لا شيء آخر في الحياة يهمني، إلا الكتابة. أظن أنك ستفهميني». هكذا أنهى آخر رسالة تلقتها منه. لم تستوعب. يوجد تعارض ها هنا حسبما يقول، لكنها لم تفلح في إيجاده. حازت المال، كان في إمكانه العيش معها في فينسيا أو أي مكان أخر وممارسة الكتابة. ربما كانت هذه هي المشكلة. ربما لم تكن متعلمة كفاية، ربما أسرتها ليست صالحة كفاية. تذكرت أنه حين سمع كلمة «بروفيسور»، أصاخ السمع ووقف منتبهًا. كان من الغريب أن يستثار شخص مثله من اﻹغواء. في نهاية المطاف تزوج بالفعل من ابنة بروفيسور. أيعقل أن يستطيع طلب يد سيدة أخرى بعد عدم اكتمال عام كامل حتى على «فينيسياهما»، وأن يقع في الحب مع شخص آخر، حتمًا هناك دوافع كامنة، حتمًا هذه بداية لقصة قصيرة حمقاء. على كل حال، لا يستطيع المرء أن يكتب فحسب عن اﻷشياء الجيدة، هناك أيضًا هفوات. كان تخصصها بالعودة وقتئذ هو إيجاد اﻷعذار، كل منها غير محتملة كمثل التي تتلوها.

كتبت إليه رسالة طويلة. لم تتلق ردًا. ربما كرمش الورقة أثناء قراءتها وألقاها في سلة المهملات. ربما أحرقها، وجب عليه التفكير في سيرته الذاتية، كان عليه توجيهها في مسار ملائم. هذه ليست ببساطة تلك الحالة حيث يشرع المرء فيما يريده المرء في حياة المرء. توجهنا الحياة، وتلاحظ أهدافًا يصعب علينا رؤيتها، وتسحبنا خلفها. فجأة أرعبتها تلك الخاطرة كثيرًا حتى استولت عليها الرغبة في الخروج إلى شوارع البلدة المشمسة.

لم يكتب إليها كلمة أخرى من بعدها. اكتشفت أنه تزوج، وأن لديه أطفال: طفلين؟ ثلاثة؟ في أي وقت صادفت اسمه في الصحف، حاولت تفكيك نوع ما من اﻹشارات الموجهة إليها. قرأت ما كَتَبَهّ بنفس الطريقة بالضبط. باعتقاد ملح في وجود علامات خفية لها في كل شيء كتبه، أنه كتب إليها، أن هذا ما يفسر الجملة المريعة: «لا شيء آخر في الحياة يهمني، إلا الكتابة».

اتخذ الحضور مقاعدهم في القاعة حيث تنعقد جلسة القراءة. دخلت مع الآخرين وجلست أبعد ما يمكن عن الطاولة المغطاة بالمخمل القرمزي. تكاد لا توجد أية إضاءة طبيعية في الغرفة، لذا أضيئت الطاولة قليلًا من أعلى. كان هذا جيدًا. لن يراها من هناك. سيسمح لنفسه أن يعميه الضوء الكشاف.

كانت أجواء مسرح. تحاور الجمهور بالهمسات، متطلعين عبر القاعة. نصب مصور محلي حاملًا في صمت. في النهاية انبعثت همهمة من اﻷبواب. ظهر (ت) هناك، بشحمه. بدا بلا شائبة. كان بلا شائبة. كان مختلفًا عن كل من عداه، لم تدرك كيف على وجه التحديد. نضح بشيء من النقاء: وجهه الشاحب الحليق بعناية، قميصه اﻷبيض، خط الياقة الحاد المتصلب، نظارته الفضية، البذلة باللون الرمادي الفولاذي. لم تفلح في رؤية حذائه من هناك، لكنها تذكرت فجأة كيف بدا منذ عشر سنوات خلت: بني، نحيل الطرف، منثني بعض الشيء. وذكرها هذا بعريّ قدميه، كاشفة أكثر من أي اعتراف. تصورته ماشيًا عبر القاعة حافي القدمين.

بدا أكبر في السن. لقد تغير. لم يتطلع إلى جمهوره. ارتاح في مقعده. أعُطى قنينة ماء وكأسًا. نحاه جانبًا. أخرج بعض اﻷوراق من الجيب الداخلي لمعطفه، صفى حلقه، وحينها فقط تطلع عبر القاعة. أغمض نصف إغماضة. ارتعدت لحظة ﻹحساسها بتحديقته على جسدها، خبت قوتها بعض الشيء بفعل اﻹغماضة. لكنه لم يتعرف عليها. لم يكن ليميزها فهى بعيدة جدًا. كانت تتعرف عليه ضمن أي حشد، دائمًا، من أية مسافة.

«سيداتي وسادتي». استهل كلامه «لقد دعيت اليوم لمناقشة وضعي حيال…».

لم يذكر أي شيء عن البلدة، لم يبتسم لجمهوره المفتون، لم يتطلع إليهم مجددًا، لم يشكرهم على الزهور، وعلى هذه اﻹثارة. لم يقدم نفسه، لم يخبر بمن يكون وما الذي جلبه ها هنا، وما إذا كان أحبها أم لا، لم يذكر شيئًا عن علاقته الشخصية بشمس مايو أو قبعات السيدات أو سلاسل ساعات أزواجهن. لم يتلعثم، ولم يتنهد. خلا وجهه من التعابير. تحدث في وضوح رغم رتابة نغم صوته، اﻹيماءة الوحيدة التي صنعها هى ضبط ربطة عنقه الفراشية، كما لو أراد التأكد من وجودها في محلها. كان يريد حتمًا أن يُغِيِر عليهم مثل بطل شامل، كاتب أوروبي عالمي، رصين في حكمته، رصين في حياديته. اعتبر حتمًا أن التواري وراء التشوش فضيلة. ألق أرستقراطي، لا أكثر ولا أقل. كان ذلك مألوف بالنسبة لها، بالغ اﻷلفة. كان اﻷمر مثيرًا، فقط حال تيقنها من سقوط القناع في أية لحظة. النقيض هو ما كان مثيرًا. هذا بالضبط ما أحبته فيه. لقد حقق السيادة.

تحدث في هدوء صوب هدفه، مع وقفات وجه فيها نظرته الكئيبة تلك نحو السقف. كانت الوقفات فواصل ومسافات وشرطات. لقد تحسن بالفعل. تحدث عن الموسيقى لا عن اﻷدب. ربما أحبط بعض الحاضرين، ﻷنه أليس من المفترض بأديب أن يتحدث عن اﻷدب؟

«وقد يبدو هذا ذو صلة بتحول الموسيقى من المونودية[4] إلى تعددية النغمات إلى التناغم، وهو ما يعد ارتقاء بشكل عام، رغم أن هذا في الحقيقة انتصار للبرابرة.." هذا ما فهمته قدر المستطاع.

مال وجهه نحوها، متغيرًا من انقلاع الجاذبية. ابتسامة صبي: نصف بريئة، نصف وحشية. تكشيرة من العناء لا النشوة. قطرات عرق. زر منخلع.

حينما انتهى، وقف الجميع وصفقوا كما لو كان مغنية أوبرالية. ثم اقترب بضعة أشخاص من الطاولة. سحب من جيبه قلمًا لامعًا، يضويه ضوء الكشاف. انحنى على الكتب.

توجهت للخارج. سارعت إلى الفندق. شعرت اﻵن بالوحدة مرتين، ثلاثة، مرات عديدة، على شفا اليأس. ليس هناك شيء، أي شيء تفلح في تغييره. لماذا لم تستطع أن تشكر الرب عما منحه إيانا؟ لم يصعب التقدير لتلك الدرجة؟ لماذا على المرء أن يرغب دائمًا فيما لا يحوزه؟ من أين يأتي هذا الخلل في التفكير البشري؟

لا يوجد أحد لدى الاستقبال، عبق الفندق برائحة الكعك المخبوز الطازج. انتظرت موظف الاستقبال لوهلة عند النضّد، لكنه لم يأت، ربما كان هو اﻷخر عند المسرح، لذا مدت يدها نحو المفتاح، لكنها دون توقع منها قد أمسكت ذلك المفتاح اﻷخر المُعلق عند الرقم الروماني (I)، يا له من إهمال! كيف أمكنهم ترك المفتاح معلقًا هناك؟ سارعت على السلالم مثل لصة.

فتحت أبواب الجناح بحرص. لم تضيء النور، كانت الغرفة غارقة في السطوع الدافئ للشمس الغاربة. توجد ها هنا شرفة فسيحة، وستائر باذخة مجعدة مُسدلة كل على حدة، وسرير بحجم ملوكي. على مقربة قبعت هناك ثلاث نسخ من كتابه اﻷخير، جديدة كليًا، غير مختصرة على اﻷرجح. على اﻷريكة منشفة مزغبة رطبة، جلبها الفندق حتمًا في ترقب وصوله. لمستها في عناية. على مقربة دورة مياه، فسيحة، مع مغطس متسيد ينتصب أسفل النافذة، مع عدد مهول من الصنابير البروسية النحاسية، ومع مغسل على قاعدة. نفس العلبة الخشبية لصابون الحلاقة على المغسل. «هذا مستحيل» هكذا فكرت. أخذته في يدها وتشممته. رائحة مألوفة رغم توقعها أنها ستترك أثرًا أوقع لديها. أوه، لقد بحثت عنه مرارًا في أجزاخانات مختلفة، يائسة أكثر فأكثر من وجوده. الفرشاة الرطبة: حتمًا قد حلق قبل مغادرته. فرشاة أسنان بشعيرات خنزيرية: جافة. على اﻷرضية المكسوة باﻵجر تقبع جوارب داكنة مهملة. جلست على حافة المغطس وفكرت في أمر غريب: كي تحبه كما يجب، ستود أن تصير هو، أن تصير فيه. مُلاطِفة جسده بيديه هو، معتنية به أفضل مما يقدر على الاعتناء به بذاته. فكرت: لو أمكن لكلينا أن نصير هناك معًا، كان سيكتب لو كان هذا بالغ اﻷهمية له، وأنا كنت سأعتني به. لن تصير هناك خطيئة، ولا شقاق، ولا حتمية، سيصير هناك فحسب الحب البريء للمرء، رقة الصلوات في دورات المياه. لم يكن لمس جلده بمداعبة في الحقيقة، فعلى أية حال، لا علاقة للمسألة بالحب، وإنما عن اكتشاف أفضل أنواع الصابون لبشرته. أطرقت مفكرة: «سأميز كل سنتيمتر من جسده بالفؤاد، سأعلم دواخل فمه مثل لسانه وشكل كل سِنَةّ، لن يبدو لي شذى جسده أبدًا كمثل شذى شخص آخر ﻷنه سيصير لي. سوف أهدهده».

سمعت ضوضاء أسفل السلم وفرت من الغرفة ﻷعلى السلالم نحو طابقها.

كانت تدفع فاتورتها، واقفة ومُولية ظهرها لصالة الطعام حين عادوا من القراءة. سمعت صوته بينما كان يقول شيئًا ما.

همس موظف الاستقبال بافتخار: «ها هو ذا (ت)، زوجتي قرأت كل كتبه».

أرادت أن تستدير، لكنها لم تستطع. توقفت جامدة، تحركت فقط يدها من أجل عد اﻷوراق النقدية.

«إلى أين يا مدام؟» سأل السائق حين استمر صمتها طويلًا جدًا.

قالت: «إلى المحطة».

في بلدات مثل أولشتين، يجب على كل شيء أن يبدأ وينتهي في المحطة.


[1]

 Neue Deutsche Rundscha مجلة أدبية ألمانية صدرت للمرة اﻷولى في العام 1890، وتعد واحدة من أقدم الدوريات المعنية بشئون الثقافة في القارة اﻷوروبية.

[2] تتكرر اﻹشارة على مدار القصة لشخصية اﻷديب بأول حرف من اسمه فقط، واﻷديب المقصود هو الكاتب اﻷلماني الحائز على جائزة نوبل توماس مان صاحب روايات الموت في فينسيا والجبل السحري.

[3] تجار ينتمون لرابطة تجارية ضمت عدد كبير من المدن النشطة في مجال التجارة، وتركزت في شمال شرق وأواسط أوروبا بداية من القرن الثاني عشر.

[4] وفقًا لكتاب (تاريخ الموسيقى) لبرنارد شامبينيول، فالمونودية لحن يؤدى عن طريق صوت واحد أو مجموعة أصوات من نفس المقام مجردًا من كل هارموني، وهى النقيض التام للبوليفونية أو تعددية النغمات.