ختم النسر والأيديولوجيا الدلالية

مقال لشهاب الخشاب

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

***

عن موقع فيتو

إيه أهمية ختم النسر؟ السنة اللي فاتت، رحت مكتب توثيق وزارة الخارجية في شارع أحمد عرابي. كنت محتاج أوثَّق شهادة الليسانس الكندية بتاعتي، عشان أعرف أكتب في البطاقة إن مانيش «بدون عمل». وصلت الساعة سبعة إلا ربع، وكان فيه مواطن صالح بينظم الطابور بالورقة والقلم عشان محدش ياخد مكان الثاني. المكتب كان بيفتح الساعة تسعة صباحًا، بس كل اللي كانوا موجودين من بدري عارفين إن الطابور بيبقى ملحمي لما الأبواب بتفتح، واللي بيوصل الساعة تسعة ما بيقدرش يخش المكان قبل ما الموظفين يروَّحوا. قعدت في الطابور ساعتين لغاية ما فتحوا باب المكان، وساعة زيادة مستني الموظف ينده عليا. لما نده، بَص في المستندات، وسأل سؤال أو إتنين، ومن غير ما يحرَّك تكشيرته، ختم على الورقة بقوة وحسم، ومشَّاني بتعالي ولامبالاة.

زي مواطنين تانيين كتير، ما كانش يهمني في الحَر والذل والانتظار إلا إني آخد ختم النسر في الآخر، لأن الختم ده معناه إن الدولة اعترفت بالورقة اللي وثَّقتها، وإني أقدر أستخدم الورقة عشان أخرَّج أوراق تانية، وأعيش حياة أحسن وأريَح وأمتع بالورق التاني ده، وماضطرش أشرح قصة حياتي لكل موظف أمن شايف إني «بدون عمل» في البطاقة. من غير ختم النسر، كل ده مش وارد إلا إذا الواحد ماشي بالستر أو بالفلوس. طبعًا الختم في حد ذاته عبارة عن بقعة حبر، ولكن دلالته كبيرة في إطار الإدارة المصرية، أو بمعنى أدق، في إطار «الأيديولوجيا الدلالية» (semiotic ideology) السائدة حسب تعبير عالم الإنسان الأمريكي ويب كين (Webb Keane).

فكرة الأيديولوجيا الدلالية مرتبطة بمفهوم الأيديولوجيا اللغوية اللي اقترحه مايكل سيلڤرستين (Michael Silverstein). زي ما اللغة لها جانب بنيوي موضوعي وجانب ثاني «أيديولوجي»، بمعنى إنه متعلق بمعتقدات وتصورات الناس عن اللغة، أي دلالة (sign)، سواء كانت حرف أو صوت أو صورة، لها جانب بنيوي وجانب أيديولوجي. الجانب البنيوي مرتبط بالعناصر الموضوعية اللي بتحللها علوم الدلالة (semiotics)، زي شكل الدلالة (signifier) ومعنى الدلالة (signified)، يعني بقعة الحبر ومعناها في حالة ختم النسر مثلًا. أما الجانب الأيديولوجي، فهو مرتبط بالمعتقدات والتصورات الاجتماعية اللي بتحكم إيه اللي يمكن يكون له معنى من أساسه، وده بيبان في الفرق بين أهمية ختم النسر جوه مصر وبراها.

بره مصر، الخواجات اللي بيتفرجوا على الأختام الرسمية المصرية بيشوفوا صور وحروف وخطوط، وبعضهم هيحس إن الأشكال والألوان دي قوية ورسمية، وبعضهم الثاني هيحس إنها تافهة وفكاهية. ولكن في إطار الأيديولوجيا الدلالية بتاعتهم، ختم النسر مالوش معنى أبعد من التأويلات الجزئية دي. جوه مصر في المقابل، ختم النسر مش مجرد صورة وحروف وخطوط، وإنما قوة دولة سبعتلاف سنة متجسدة في كل مستند مختوم، والموظف البسيط اللي ماسك الختم في إيده وبيقرر يختم أنهي ورقة لصالح مين بيتحول لكاهن عالي في معبد دولة مينا وصلاح الدين ومحمد علي وعبد الناصر، وفي إيده قرار الاعتراف بوجود الورقة الفلانية والشخص الفلاني بالنسبة للدولة دي. يعني في إطار الأيديولوجيا الدلالية المصرية، فيه تصورات ومعتقدات قوية بخصوص أهمية تأصيل وتوثيق الورق الرسمي، بيدِّي قيمة ضخمة ومتضخمة لختم النسر والموظف اللي ماسكه. وبره المنظومة دي، الختم مالوش قيمة إلا كرسمة صغننة ممتعة.

عالم الإنسان الأمريكي ماثيو هول (Matthew Hull) بيوصف العلاقة دي تحديدًا – بين قوة الختم الرسمي والآلية البيروقراطية اللي بتدي له معنى – باستخدام مفهوم «الأيديولوجيا البيانية» (graphic ideology)، كنوع خاص من الأيديولوجيا الدلالية في المجال الحكومي. حكومات العالم ما بتتعاملش كلها مع كتابتها ومستنداتها وصياغاتها بنفس الشكل، وكذلك مش كل المواطنين بيتعاملوا مع الكتابة الحكومية بنفس الشكل، لأن معنى الكتابة في السياق الحكومي مش بس مرتبط بمكوّنات بنيوية وشكلية موضوعية، وإنما كمان بمعتقدات وتصورات خاصة بالموظفين والمواطنين عن جدوى الكتابة دي، وأهميتها في تسيير أعمال الآلية الإدارية الرسمية. إذن لولا الأيديولوجيا الدلالية والبيانية السائدة في السياق المصري، ختم النسر ما كانش يسوى أكثر من ختم الحواجب.

**ملحوظة لمن يهمه الأمر، وبرغم الحصول على ختم النسر، ما زالت بطاقة الكاتب تحمل تصنيف «بدون عمل»**


اقرأ المزيد من مقالات شهاب الخشاب على Boring Books