استضاف الكاتب الإنجليزي ريتشارد بيرد الروائي كازو إيشيجورو في ورشته للكتابة في مدينة بمبروك (ويلز)، طرح بيرد وجمهور الورشة الأسئلة على إيشيجورو.

نُشر الحوار على مدونة Holdenlee

18 فبراير 2014

ترجمة: سامح سمير

فبراير 2019

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

 ***

عن huckmag

بيرد: من أين تستقي أفكارك؟

إيشيجورو: لستُ متأكدًا من ذلك؛ تختلف عملية الكتابة اختلافًا طفيفًا من عمل لآخر. لكني دائمًا ما أولي مرحلة البداية اهتمامًا شديدًا. متى ينبغي أن أشرع في كتابة الكلمات التي ستظهر بالفعل في الكتاب؟ بعض الكُتاب يشرعون في الكتابة على الفور، ويدعون الكلمات تتدفق منهم معتمدين في ذلك على قدرتهم على الارتجال. والبعض الآخر يبدأون بوضع خطة ما.

أنا شخصيًا لا بد لي من أن أحيط إحاطة كافية بالقصة قبل الشروع في كتابة أي شيء؛ وقد يستغرق الأمر عامًا كاملًا بين التفكير بكتابة الرواية والشروع في كتابتها بالفعل. وخلال هذه الفترة، أقوم بتدوين الملاحظات، وتجريب مختلف الأفكار، وإجراء «الاختبارات» اللازمة لاختيار الراوي المناسب وهو أمر شديد الأهمية بالنسبة لي. إنني أستقي أفكاري من تيمات وأسئلة ليست ذهنية بالضرورة، وكثيرًا ما تكون ذات طبيعة عاطفية. وأتوقف طويلًا أمام افتتاحية القصة. على سبيل المثال، ما شعورك حين تبلغ سنًا معينة وتكتشف فجأة أنك أهدرت جزءًا كبيرًا من حياتك؟ ومع الوقت والخبرة يصبح من السهل عليك التعرف على الأفكار المثمرة. ولقد اكتشفتُ أن ثمة موضوعات تشد انتباهي أكثر من غيرها- موضوعات تتسم بالغموض والثراء وتثير لديَّ الرغبة في استقصائها وسبر أغوارها، فأسعى إلى القبض على جوهرها بتلخيصها في جملة واحدة.

كذلك فأنا أحتاج دائمًا إلى تبين الأرض التي أقف عليها. في شبابي مررتُ بمرحلة «ماجنة» كنتُ أتنقل خلالها، بخفة ونزق، بين مختلف أشكال الكتابة. لكن مع الوقت، تبدأ في استشعار الفارق بين القصص التي قد تستمتع بكتابتها لكن لا تهتم بها إلا اهتمامًا سطحيًا، وبين تلك التي تعنيك حقًا وتمس قلبك.

بيرد: ما مصدر هذا الثراء؟ شخوص القصة، الأماكن والأجواء التي تدور فيها الأحداث؟

إيشيجورو: دائمًا ما أتعامل مع الأماكن باستخفاف شديد. فعندما بدأت كتابة روايتي الأولى كانت الأحداث تدور في كورنوول (إنجلترا)، وقرب المنتصف انتقلتً بها إلى نجازاكي (اليابان) في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. أشعر عادةً أن ثمة قصة في المطلق أرغب في كتابتها، لا تعتمد في جوهرها على مكان بعينه. فاختيار المكان، بالنسبة لي، قرار تقني، ولا أبدأ في الانشغال به إلا في مرحلة متقدمة من الكتابة، للعثور على أنسب الأماكن لأحداث القصة التي بدأت بالفعل.

بيرد: هل تحتاج عادةً إلى مجموعة من الشخصيات المرسومة بعناية لدفع عجلة الأحداث؟

إيشيجورو: في الماضي، اعتدتُ أن أفكر في القصة انطلاقًا من شخصياتها، و كيفية تطوير خصائصها وسماتها المميزة. لكن فيما بعد أدركتُ أنه من الأفضل أن أبدأ بالتركيز على العلاقات التي تربط بينها، وأدع الشخصيات تتطور، انطلاقًا منها، تطورًا طبيعيًا. فالعلاقات بين الشخصيات ينبغي أن تكون طبيعية وتسهم في بناء دراما إنسانية حقيقية. فأنا لا أرتاح أبدًا للقصص التي تُقحِم في أحداثها تيمات ذهنية، وتنخرط شخصياتها في جدالات لا تنتهي قبل الشروع في أي عمل.

فأنا أسأل نفسي دائمًا: ما الذي يميز العلاقات المثيرة للاهتمام؟ وهل العلاقات رحلات تقوم بها الشخصيات؟ هل هي قوالب جاهزة؟ كليشيهات؟ أم أنها أشياء أكثر عمقًا ورهافة وقدرة على إثارة الدهشة؟ يتحدث الناس عادةً عن الفرق بين الشخصيات المسطحة والشخصيات متعددة الأبعاد؛ يمكنك قول الشيء نفسه عن العلاقات بينها.

بيرد: ماذا تفعل عادةً أثناء التفكير في قصة ما؟

إيشيجورو: أجلس في غرفة مغلقة وأروح أملأ دفترًا تلو الآخر بكل أنواع العلاقات والمواقف الممكنة. لقد جرت العادة أن يقوم المؤلفون بإجراء أبحاث مكثفة قبل الشروع في كتابة الأعمال غير القصصية. وأنا أقوم بشيء مشابه، لكن أبحاثي لا أجريها في المكتبات أو عبر مقابلات مع أفراد، بل أجريها في عالمي الداخلي، أجريها على البشر، العلاقات التي تربط بينهم، الأماكن التي يتحركون فيها. هل هذا هو العالم الحقيقي؟ أم أن ثمة مسافة تفصله عنه؟ وبأية طريقة؟

بيرد: حدثنا عن طريقتك في كتابة المسودات.

إيشيجورو: أبدأ الكتابة بالقلم الجاف، ودائمًا ما تكون كتابة مشوشة ومبهمة عن عمد. ففي هذه المرحلة، لا أعير الأسلوب أدنى اهتمام، ويكون هدفي الوحيد هو أن أدع الأفكار تنساب من تلقاء نفسها، والتغلب على دفاعاتي الداخلية. أكتب بسرعة وكثافة، تاركًا الفرصة للأفكار لكي تتغير وتتبدل كيفما شاءت. فإذا شعرتُ أنه من الأفضل إجراء تغيير ما على إحدى الشخصيات، أقوم بإجرائه على الفور وأواصل الكتابة. وهكذا حتى أنتهي من كتابة 30 أو 40 صفحة ثم أتوقف. ودائمًا ما تكون المسودة الأولى مشوشة تمامًا.

ثم تأتي المرحلة التي تسميها ابنتي «مرحلة الصقل». فأبدأ أتأمل تلك الفوضى العارمة، ثم أقوم بتقسيمها إلى «أفكار» وليس إلى فقرات. وهي تقنية تشبه تلك التي يستخدمها الممثلون في بروفاتهم، عندما يقسمون المسرحية إلى «لحظات». ثم أقوم بترقيم الأفكار، فلنقل من 1 إلى 23. وبعدها ألخِّص كل منها في جملة واحدة، في محاولة لتصميم مخطط بياني للقصة.

أنا لست بارعًا في صياغة الجمل، وأعتقد أن قوتي تكمن في قدرتي على الانتقال من مسودة إلى أخرى. فأنا «أنسلُّ» من القصة، لأتأملها من الخارج، أتفحص النقاط المرقمة، وأعيد تشكيل الأفكار، محاولًا التمييز بين الغث والسمين، والتمهل عند التفريعات والمفارِق على الطريق التي تتقدم فيه القصة. ثم أقوم بكتابة المسودة مرة أخرى، وأكرر العملية نفسها ثلاث أو أربع مرات، حتى أنتهي من كتابة 30 ورقة أشعر بالرضا عنها. وبعدها أنتقل إلى الـ 30 ورقة التالية. فأنا أكتب الفصل وأنتهي منه تمامًا قبل الشروع في كتابة الذي يليه. فكل فصل يتأسس بالكامل على الفصل السابق عليه، لذا أتجنب دائمًا كتابة الرواية بكاملها دفعةً واحدة، تلافيًا لما قد ينشأ عن ذلك من اختلالات وتصدعات في البناء الروائي ككل. (بيد أن بعض المشاريع الكتابية تتطلب ذلك على ما يبدو، على سبيل المثال رواية «أبدًا لا تدعني أذهب»).

بيرد: ما أكثر شيء تستمتع به في عملية الكتابة؟

إيشيجورو: مرحلة الصقل. فأنت تشعر في أثنائها كأنك إله يتطلع من عليائه إلى المؤلف البائس في الأسفل. فعندما أجد نفسي قادرًا على تلخيص جوهر الحكاية في 20 سطرًا، أشعر بالثقة والاطمئنان، لأن ذلك يمنحني مزيدًا من الحرية للتركيز على عملية الصياغة.

بيرد: هل تحتاج عادةً إلى إلزام نفسك بنظام معين أثناء الكتابة؟ وهل تجبر نفسك عليها أم أنك تستمتع بها؟

إيشيجورو: لا أجد في الكتابة أي متعة، لكني أمارسها منذ زمن طويل.. عادة لا أكتب كل يوم؛ لكن هذا يتوقف على المرحلة التي أنا فيها. ففي مرحلة المسودة الأولى دائمًا ما تأتي الكتابة لساعات طويلة بنتائج عكسية. ويتأثر مستوى العمل ككل بالسلب إذا حدث أن تجاوزت معدل 5 أو 6 صفحات في اليوم الواحد، فضلًا عما يعتري الكتابة من تشوش واضطراب لو أنني تقاعست عن صقلها أولًا بأول. ثمة حد معين لا ينبغي تجاوزه. تمامًا مثل عازف الجاز الذي يعرف كيف ومتى يتوقف عن العزف بعد أن يُفرغ أفضل ما في جعبته.

لكني عادةً ما أمضي وقتًا أطول في المسودات التالية حيث لا يكون العمل مجهدًا بنفس الدرجة.

فالمرحلة الأولى من الكتابة هي الأساس الذي يُبنى عليه كل شيء. ومن الأهمية بمكان أن تدقق في اختيار مشروع الكتابة، تمامًا مثلما يتعين عليك أن تدقق في اختيار شريكة حياتك. لكن الأمر يختلف باختلاف الأشخاص: فهل ينبغي أن تكتب استنادًا إلى خبرتك الشخصية، أم من الأفضل أن تبتعد قدر استطاعتك عن كل ما تعرفه؟ هل تكون في أفضل حالاتك عندما تكتب عملًا ينتمي إلى جنس أدبي معين؟ حذار من التعامل باستهانة واستخفاف مع مشروعك الإبداعي.

الجمهور: من الكُتاب الذين تحب أن تقرأ لهم؟ وهل تحاكي أسلوبهم، أم أنك تستمتع بقراءة أعمالهم لأنها مختلفة تمامًا عن كتابتك؟

إيشيجورو: الكُتاب الذين تعلمتُ منهم كثيرًا ليسوا بالضرورة هم الكُتاب الذين أحبهم بوجه خاص. فقد تعلمتُ من بروست أنه ليس من الضروري أن تمضي أحداث القصة في خط مستقيم، وأنه بوسعك الغوص في أعماق ذاكرتك؛ وتعلمتُ منه أيضًا كيف يمكن للمَشاهِد أن تتوالى بطريقة لا تخضع لآليات الحبكة، وهو ما منحني حرية تشبه تلك التي يتمتع بها الرسام التجريدي. كما تعلمتُ من همنجواي كيفية إخفاء المعنى بين السطور. وأنا مولع بدوستويفسكي، ومع ذلك لم أتأثر به كثيرًا في كتابتي.

الجمهور: هل تشعر أن بمقدورك الكتابة عن التاريخ؟ أنك قادر على فهمه والاقتراب منه؟

إيشيجورو: في شبابي كنتُ أكثر جرأة وجسارة مما أنا عليه الآن. كنتُ أعتقد أنه من خلال البحث والدراسة سيكون بإمكاني أن أمضي حيثما شئت، وأن أكتب من أي زاوية نظر تحلو لي. لكن مع تقدمي في العمر أصبحتُ أشد حذرًا، وأكثر وعيًا باحتمال أن ينبري بعضهم معلنًا أن كتابتي قد آذت مشاعرهم، أو أنني وقعت في أخطاء جسيمة بخصوص شيء ما. ثمة نقطة لا تعود بعدها الرخصة الروائية الممنوحة للمؤلف سارية المفعول، ومن ثم علينا أن نحترم التاريخ والأوضاع الراهنة. إن فن الرواية يأتي على رأس أولوياتي لذا فأنا لا أثق كثيرًا في أمانتي التاريخية.

من الأهمية بمكان أن نتوخى الحذر؛ فكم من رواية تفتقر إلى العمق، قد تُقحم في أحداثها بعضًا من أحداث التاريخ أو فظائعه فقط لكي تضفي على نفسها مسحة من الجدية والرصانة.

الجمهور: حدثنا عن تجربة كتابة  «من لا عزاء لهم»؟

إيشيجورو: لم تكن الأحداث تدور في مكان أو زمان محددين، بل في فيما يشبه عالم الأحلام، ومن ثم كان لا بد لها من أن تسير وفقًا لمنطق الأحلام. وهكذا كان علي أن أتخيل المؤلف كعقل يحلم وتحليل تقنياته في الكتابة. ما أهم خصائصها وسماتها المميزة؟ فعلى السبيل المثال، تختلف طريقة الدخول إلى الأماكن والخروج منها في عالم الأحلام اختلافًا كبيرًا عنها في عالم الواقع. ففي الحلم، عندما تدخل مكانًا ما، ليس من الضروري أن يتم ذلك عبر الباب؛ ومن الممكن أكون جالسًا هنا أتحدث إلى أحدهم ثم ألتفت ورائي لأكتشف أنك كنت جالسًا هناك طوال الوقت. وفي الحلم أيضًا، أنت لستَ مضطرًا للالتزام بقاعدة ضمير المتكلم؛ فبإمكانك وأنت جالس في الحجرة، أن تتبع شخصًا غيرك وهو يخرج منها ويسير في الممر وأن تروي الأحداث من وجهة نظره وكأنك شاهد عليها. لقد جربتُ تلك التقنيات في نصوص قصيرة، وعكفت على ممارستها حتى صارت جزءًا لا يتجزأ من أسلوبي عندما شرعت في كتابة الرواية.

اقرأ المزيد على Boring Books: كازو إيشيجورو: هناك جانب بارد قليلًا في كتابة الأدب