الجزء الثاني من فصل "حكام وبارانويين" من كتاب "الجماهير والسلطة" لإلياس كانيتي.
ترجمة: أمير زكي
نشرت بعدد فبراير من مجلة "عالم الكتاب".
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
***
نشكر الحظ السعيد الذي مكننا من الحصول على صورة واضحة ومكتملة عن هذا السلطان، على خلاف معظم الحكام الشرقيين. قضى ابن بطوطة- المسافر العربي الشهير الذي زار العالم الإسلامي كله في عصره، من المغرب إلى الصين- سبعة أعوام في بلاطه وفي خدمته، وترك وصفا حيا للبلاط وللسلطان نفسه وطريقته في الحكم. استمتع بمنِّ السلطان لوقت طويل ثم- عندما سقط في العار- تعلم ما يعني أن تعيش في خوف مميت منه. كما يحدث عادة، نجح في تملقه لبعض الوقت، ثم كان عليه أن ينقذ نفسه من غضب السلطان بالعيش في الحياة كزاهد.
"وقد شُهِرَتْ في الناس حكاياتُه في الكرم والشجاعة، وحكاياته في الفتك والبطش..". في هذا البلاط تعلم ابن بطوطة أن يدرك وجهين للسلطة؛ عرف- وقليلون هم من عرفوا- سخاءها، وإجرامها. الدقة النفسية لسرده لا يقترب منها الشك، لأن هناك سردا آخر مستقلا عنه يمكن أن يقارن به. ليس بعد وقت طويل من وفاة محمد، كتب ضياء الدين برني تاريخ عصره بالفارسية، وهو موظف كبير عاش في بلاط السلطان لأكثر من 17 عاما. وسرده هذا يعتبر من أفضل الأعمال في عصره، ويتضمن- إلى جانب أشياء أخرى- سرديات من ثلاثة حوارات دارت بين المؤلف والسلطان، فيها كشف الأخير عن أفكاره عن الحكومة وعن رعاياه. السرد التالي مبنيٌّ على تلك المصادر ويمكن استخدامه بشكل كامل وحرفي.
كان محمد تُغْلُق أكثر أمراء عصره ثقافة، ظلت رسائله مثيرة للإعجاب لجمالها حتى بعد وفاته بوقت طويل، وإلى جانب أسلوبه، كان خط يده أجمل من خط أساتذة هذا الفن بفارق كبير. كانت لديه مخيلة رائعة وكان بارعا في استخدام الاستعارات. كان يعرف الشعر الفارسي جيدا، وبسبب ذاكرته غير العادية، كان يحفظ العديد من القصائد عن ظهر قلب، وكان يقتبسها كثيرا وبدقة. كان يملك أيضا معرفة كبيرة ببقية الأدب الفارسي. الرياضيات والفيزياء والمنطق والفلسفة اليونانية كانت تعجبه بالقدر نفسه. "عقائد الفلاسفة التي تتحدث عن اللامبالاة وقسوة القلب كان لها تأثير قوي عليه". ولكنه أيضا كان يملك فضولا طبيا، وكان يُمرِّض المتعبين بنفسه إن كانت لديهم أعراض غير عادية تثير اهتمامه. حتى أثناء النقاش في الموضوع غير المتخصص فيه، لا يجرؤ طالب ولا كاتب ولا شاعر ولا طبيب أن يقف أمام السلطان. كان تقيا، ملتزما تماما بمبادئ دينه وممتنعا عن الخمر. حاشيته كانت تجد أنه من الأفضل أن تحترم أوقات صلاته. ومن كانوا لا يحترمونها كانوا يعاقبون بقسوة، كان يهتم كثيرا بفكر العدالة؛ ولم يكن يهتم فقط بالشعائر، ولكن أيضا بالمبادئ الأخلاقية للإسلام التي كان يأخذها بجدية، وكان يتوقع من الآخرين أن يأخذوها بالجدية نفسها. في الحرب كان يميز نفسه بشجاعته ومبادرته؛ المعارك التي خاضها وهو تحت قيادة أبيه وأسلاف أبيه كانت مشهورة عالميا. من المهم أن نشير إلى تعقيد طبيعته، ونقارن الصفات التي جعلته بشعا وغير مفهوم لمعاصريه بالصفات الرائعة التي أعجبوا بها فيه والتي احتفظ بها حتى النهاية.
بلاط السلطان
ما الذي يبدو عليه بلاط هذا الأمير العادل والكامل؟ لتعبر مدخل القصر عليك أن تمر بثلاثة أبواب. خارج الباب الأول هناك عدد من الحراس إلى جانب نافخي الأبواق وعازفي الناي. عندما يصل الأمير أو أي شخص آخر مهم ينفخون في الآلات ويقولون: "جاء فلان، جاء فلان". خارج الباب هناك أيضا منصات يجلس عليها السيافون: عندما يأمر السلطان أن يُعْدَم رجل، يُنَفَّذ الحكم هنا ويُترَك الجسد ملقى لثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. بالتالي فأي شخص يقترب من القصر يمر أولا على الجثث؛ أكوام وتلال الجثث دوما ترقد هنا؛ الكناسون والجلادون الذين عليهم سحب المدانين وإعدامهم مرهقون من العمل الكثير الذي لا ينتهي. بين الباب الثاني والثالث هناك بهو كبير للعامة. خارج الباب الثالث هناك منابر لـ "كتبة الباب" يجلسون فيه. لا أحد من حقه المرور من هذا الباب بدون إذن خاص من السلطان. عندما يأتي أي شخص؛ يكتب الكُتَّاب "جاء فلان في الساعة الفلانية من الساعات"، هذا التقرير يسلم إلى السلطان بعد صلاة العشاء. أي شخص يتغيب من نفسه عن القصر سواء بعذر أو بدون عذر، لثلاثة أيام أو أكثر، لا يُسمَح له بالدخول مجددا بدون أن يقدم إذنا من السلطان. إن كان مريضا أو لديه أي عذر آخر يقدم للسلطان هدية مناسبة لمرتبته. خلف الباب الثالث هناك قاعة كبيرة للجماهير تسمى "ألف سارية"؛ السواري تدعم سَقْفا خشبيا، مزخرفا ومرسوما بشكل رائع.
الجماهير كانت عادة ما تحتشد في وقت الظهيرة، ولكن في أحيان أخرى في الصباح الباكر. يجلس السلطان عاقدا قدميه على عرشه على منصة فوقها سجادة بيضاء. ومن خلفه توجد وسادة كبيرة ومسندان للذراعين. يقف الوزير أمامه، وخلف الوزير الموظفون، ثم الحُجَّاب وهكذا، وفقا للأقدمية. "وعند جلوس السلطان ينادي الحجاب والنقباء بأعلى أصواتهم: بسم الله... ويقف مائة من السلحدارية عن يمين السلطان ومثلهم عن يساره، بأيديهم الدرق والسيوف والقسي. ويقف في الميمنة والميسرة الموظفون الآخرون بحيث يراهم السلطان. ثم يؤتى بستين فرسا مسرجة ملجمة بجهازات سلطانية... فيوقف النصف من هذه الخيل عن اليمين والنصف عن الشمال، بحيث يراها السلطان، ثم يؤتى بخمسين فيلا مزينة بثياب الحرير والذهب، مكسوة أنيابها بالحديد إعدادا لقتل أهل الجرائم، وعلى عنق كل فيل فيَّالُه وبيده شبه الطبرزين من الحديد يؤدبه به، ويقومه لما يراد منه، وعلى ظهر كل فيل شبه الصندوق العظيم يسع عشرين من المقاتلة، وأكثر من ذلك ودونه على حسب ضخامة الفيل وعظم جرمه، وفي أركان هذا الصندوق أربعة أعلام مركوزة. وتلك الفيلة معلمة أن تخدم السلطان وتحط رؤوسها. فإذا خدمت قال الحجاب: بسم الله بأصوات عالية. ويوقف أيضا نصفها عن اليمين ونصفها عن الشمال خلف الرجال الواقفين. وكل من يأتي من الناس المعينين للوقوف في الميمنة أو الميسرة يخدم عند موقف الحجاب ويقول: بسم الله. ويكون ارتفاع أصواتهم بقدر ارتفاع صوت الذي يخدم. فإذا خدم انصرف إلى موقفه من الميمنة أو الميسرة لا يتعداه، ومن كان من كفار الهنود يخدم، ويقول له الحجاب والنقباء: هداك الله".
ومن عند ابن بطوطة أيضا لدينا وصف تصويري لدخول السلطان إلى عاصمته.
"وإذا قدم السلطان من أسفاره، زُيِّنت الفيلة، ورُفعت على ستة عشر فيلا منها ستة عشر شطرا، منها مزركش ومنها مرصع، وحُملت أمامه الغاشية، وهي الستارة المرصعة بالجوهر النفيس، وتُصنع قباب الخشب مقسومة على طبقات وتُكسى بثياب الحرير. ويكون في كل طبقة الجواري المغنيات، عليهن أجمل لباس وأحسن حلية، ومنهن رواقص. ويحصل في وسط كل قبة حوض كبير، مصنوع من الجلود، مملوء بماء الجلاب محلولا بالماء، يشرب منه جميع الناس من وارد وصادر وبلدي أو غريب، وكل من يشرب منه يعطى التنبول والفوفل، ويكون ما بين القباب مفروشا بثياب الحرير، يطأ عليها مركب السلطان. وتزين حيطان الشارع الذي يمر به من باب المدينة إلى باب القصر بثياب الحرير. ويمشي أمامه المشاة من عبيده وهم آلاف. وتكون الأفواج والعساكر خلفه. ورأيته في بعض قدماته على الحضرة، وقد نُصبت ثلاث أو أربع من الرعادات الصغار على الفيلة، ترمي بالدنانير والدراهم على الناس، فيلتقطونها من حين دخوله إلى المدينة حتى وصل إلى قصره".
كان محمد سخيا بشكل خاص تجاه الأجانب، مخابراته كانت تقدم له معلومات مباشرة عن أي شخص يصل إلى المدن المواجهة لإمبراطوريته. جهاز بريده كان مثاليا؛ المسافة التي كان المسافرون يستغرقون خمسين يوما لتغطيتها، كان رسله يغطونها في خمسة أيام؛ كل ثلث من الميل كان يسيطر عليه رسول آخر، ليست رسائله فقط التي كانت تُحمَل بهذه الطريقة، فواكه خاصة من خراسان كانت تحضر طازجة على مائدته، ومجرمو الدولة كان يتم القبض عليهم، وهم الذين يوضعون على نقالة يحملها الرسل وعليها رؤوسهم وتصل إليه سريعا كما تصل الرسائل والفواكه. التقارير عن الأجانب الذين يعبرون الحدود كانت تأتي في كل دقيقة، كانوا يصفون مظهر الأجنبي وملابسه بحرص شديد، ويذكرون عدد الناس الذين يرافقونه، وعبيده وخدمه وغنمه، وسلوكه سواء كان يعمل أو يستريح، لم يكونوا يتجاهلون شيئا. كان السلطان يدرس هذه التقارير بحرص، كل أجنبي كان عليه أن ينتظر في عاصمة مقاطعة الحدود، حتى يأتي أمر من السلطان يتعلق برحلته ومدى الكرم الذي سيضفيه عليه. كل منهم يتم الحكم عليه بشكل تام من سلوكه، لأن لا شيء سيعلمونه عن عائلته أو نسبه في الهند البعيدة. كان محمد مهتما بشكل خاص بالأجانب وكان يهبهم المواطنة والكرامات العليا للدولة: معظم حاشيته وموظفي القصر والوزراء والقضاة كانوا أجانب. بقرار خاص أصبحوا هم جميعا "مكرمين"؛ كان يدفع لهم كما كبيرا مقابل خدمتهم، وكان يقدم لهم هدايا عظيمة. وكانوا ينشرون الحديث عن عطائه في أنحاء العالم.
ولكنه كان مشهورا أيضا بوحشيته: "وكان يعاقب على الصغيرة والكبيرة، ولا يحترم أحدا من أهل العلم والصلاح والشرف، وفي كل يوم يرد على المشور من المسلسلين والمغلولين والمقيدين مئون، فمن كان للقتل قُتل أو للعذاب عُذب، أو للضرب ضُرب. وعادته أن يؤتى كل يوم بجميع من في سجنه من الناس إلى المشور، ما عدا يوم الجمعة، فإنهم لا يخرجون فيه، وهو يوم راحتهم، يتنظفون فيه ويستريحون".
تدمير دلهي
واحدة من أخطر الاتهامات ضد السلطان أنه أجبر سكان دلهي على ترك المدينة. في اعتقاده كان لديه سبب جيد لمعاقبتهم. كانت لديهم عادة كتابة رسائل إليه يهينونه ويسبونه فيها. كانت تُختم ويُكتب عليها "إلى سيد العالم. ما يقرؤها غيره". ويلقونها في قاعة الجمهور ليلا. عندما ينزع السلطان الختم لا يجد سوى الإهانات والشتائم. في النهاية قرر أن يحول دلهي إلى حطام. دفع للسكان القيمة الكاملة لمنازلهم وبيوتهم وأمرهم أن ينتقلوا إلى دولت آباد، تلك المدينة التي أراد أن تكون عاصمته. "فأبوا ذلك، فنادى مناديه أن لا يبقى فيها أحد بعد ثلاث، فانتقل معظمهم، واختفى بعضهم في الدور، فأمر بالبحث عمن بقي بها، فوجد عبيده بأزقتها رجلين: أحدهما مقعد والآخر أعمى، فأتوا بهما فأمر بالمقعد فرمي به في المنجنيق، وأمر أن يجر الأعمى من دهلي إلى دولة آباد، مسيرة أربعين يوما فتمزق في الطريق، ووصل منه رجله، ولما فعل ذلك خرج أهلها جميعا، وتركوا أثقالهم وأمتعتهم وبقيت المدينة خاوية على عروشها، فحدثني من أثق به قال: صعد السلطان ليلة إلى سطح قصره، فنظر إلى دلهي وليس بها نار ولا دخان ولا سراج فقال: الآن طاب قلبي وتهدن خاطري، ثم كتب إلى أهل البلاد أن ينتقلوا إلى دهلي ليعمروها فخربت بلادهم ولم تعمر دهلي لاتساعها وضخامتها، وهي من أعظم مدن الدنيا، وكذلك وجدناها لما دخلنا إليها خالية، ليس بها إلا قليل عمارة".
غضَبُ السلطان على رعاياه لم يكن ناتجا عن كونه قد حكمهم من فترة طويلة. (الحكم بإخلاء دلهي تقرر في السنة الثانية من حكمه). من البداية كان هناك توتر بينه وبينهم وتنامى مع مرور الزمن. يمكن للمرء الآن فحسب أن يخمن دلالة الرسائل التي كانت تلقى في ردهة قصره، ولكن هناك أرضية للاعتقاد أنها كانت تشير إلى الطريقة التي وصل بها إلى العرش. أبو محمد، تغلق شاه، فقد حياته في حادث بعدما حكم لأربعة أعوام فحسب، ولأن القليلين جدا هم من عرفوا حقيقة ما حدث، فكان التشكك حتميا. في طريق عودته من حملة حربية، أمر السلطان الكبير ابنه أن يعد قبة لاستقباله. كانت القبة معدة في ثلاثة أيام ومصنوعة من الخشب كالعادة، ولكنها مبنية بطريقة أنَّ دفعة صغيرة في مكان محدد يمكنها أن تسقطها تماما. عندما دخل السلطان وابنه الصغير والمحبب إلى القبة طلب محمد الإذن من أجل عرض للفيلة. قَبل السلطان الكبير الأمر، والفيلة المعروضة كانت معدة بطريقة ما لتدفع القبة في النقطة الضعيفة. سقطت القبة ودفنت بداخلها السلطان وابنه المفضل. أخّر محمد عملية الإنقاذ حتى صار بلا جدوى. عندما وُجِد الضحايا في النهاية كانا ميتين، أو بالأحرى، وفقا لمزاعم أخرى، كان السلطان محنِيا على ابنه، وكان لا يزال يتنفس وتم قتله مرة ثانية. هبط محمد على العرش بدون مقاومة، ولكن لم يكن في مقدرته أن يخرس الألسنة، كان معروفا من البداية بأنه قاتل أبيه.
غزو العالم
استعادت سلطنة دلهي حجمها الأقصى تحت إمرة محمد تغلق. لأكثر من 200 عاما مرت- تحت حكم أكبر- معظم الهند أصبحت موحدة تحت حكم واحد. ولكن محمد لم يكن سعيدا على الإطلاق بحوالي 24 مقاطعة تحت حكمه. كان يريد أن يجعل العالم المأهول كله تحت حكمه، وقام بمخططات طموحة لتحقيق هذا المشروع. لا يوجد أحد من أصدقائه أو مستشاريه كان مسموحا له بأن يعرف سر تلك المخططات؛ احتفظ بها لنفسه، كما تصورها بنفسه. أي فكرة فكر بها كانت ترضيه. لم يشك في نفسه أو في هدفه؛ بالنسبة له بدت الوسائل التي استخدمها ليحصل على الأهداف التي يرغبها واضحة ذاتيا.
خططه الأكثر طموحا المتعلقة بالغزو كانت موجهة للهجوم على خراسان والعراق إلى جانب غزو الصين. بالنسبة للغزو الأول جمع جيشا من 370.000 فارسا وتم رشوة نبلاء المدن المهددة بأموال طائلة. ولكن الهجوم لم ينجح أبدا، أو أنه انهار في مراحله المبدئية، وتشتت الجيش. والأموال الطائلة التي يجب أن تكون ضخمة حتى بالنسبة لمحمد، راحت بلا جدوى. الخطة الثانية، وهي غزو الصين، نفذت عن طريق عبور جبال الهيمالايا، 100.000 فارس أرسلوا لأعلى الجبال، وذلك لقهر الجبال وسكانها الوحشيين وتأمين الطريق نحو الصين. تلاشى الجيش باستثناء عشرة رجال. والعشرة الذين عادوا إلى دلهي أعدمهم السلطان وسط إحباطه.
غزو العالم استدعى جيوشا ضخمة، وهذا بدوره استدعى أموالا أكثر. صحيح أن مداخيل محمد كانت ضخمة. الجزية القادمة من الملوك الهنود كانت تفيض من كل الجهات ومن أبيه الذي ورثه، وسط أشياء أخرى، كان هناك احتياطي من سبائك الذهب. ولكن بخلاف كل هذا، كان في حاجة سريعة إلى المال وبالتالي بحث عن طريقة لدعم هذا النقص بضربة واحدة. سمع شيئا عن المال الورقي المستخدم في الصين ونقل الفكرة ليصنع شيئا مشابها مع النحاس. صك كما كبيرا من العملات النحاسية، وبشكل اعتباطي جعل قيمتها تساوي قيمة العملات الفضية، وأمر باستخدامها بدلا من الذهب والفضة. سريعا تم البيع والشراء عن طريق النحاس. نتيجة هذا القرار أصبح كل بيت هندي مصنعا خاصا لسك العملات؛ في كل مقاطعة كانت تصنع العملات النحاسية بالملايين وتدفع بها الجزية وتُشترَى بها الجياد وكل الأشياء الطيبة. الأمراء، وعُمَد القرى، وأصحاب الأراضي أصبحوا أثرياء وصارت الدولة فقيرة. سريعا سقطت قيمة العملة الجديدة، بينما صارت العملات القديمة نادرة جدا، زادت قيمتها ثلاث أو أربع مرات عن قيمتها السابقة. في النهاية لم تعد للعملات النحاسية قيمة أكبر من قيمة الحصى. احتفظ الناس ببضائعهم وركدت التجارة. عندما أدرك السلطان نتيجة قراره أبطله بغضب شديد وأمر بأن تسلم كل العملات النحاسية إلى الخزانة ليتم استبدالها بالعملات القديمة. بالتالي ومن كل الأنحاء التي ألقيت فيها العملات النحاسية بازدراء، جمع الناس الآلاف منها ووجهوه للخزانة ليأخذوا بدلا منها ذهبا وفضة. تراكمت جبال من النحاس في تغلق آباد؛ خسرت الخزينة كما كبيرا من المال، وأصبح نقص الأموال حرجا. وعندما استطاع السلطان أن يعرف ما أفقده النحاس للخزانة، غضب على رعاياه أكثر.
طريقة أخرى لجلب النقود هي فرض الضرائب. تحت حكم أسلافه كانت هناك بالفعل ضرائب عالية، والآن ارتفعت وصارت تُجمع بقسوة شديدة. تحول الفلاحون إلى شحاذين. أي هندي كان يملك أرضا تركها وهرب إلى الغابة لينضم للمتمردين، كانت هناك جماعات كبيرة وصغيرة منهم في كل مكان. ظلت الأرض بدون حرث، تناقص كم الحنطة. صارت هناك مجاعة في المقاطعات الرئيسية، وذلك بعد جفاف طويل انتشر في أنحاء الإمبراطورية. بقيت المجاعة لعدة سنوات، تمزقت الأسر، جاعت مدن كاملة، وفني الآلاف من الناس.
من الممكن أن هذه المجاعة هي ما جلبت التغيير الحقيقي للإمبراطورية. الثورات أصبحت متعددة، واندلعت في مقاطعة بعد الأخرى في دلهي. كان محمد في ساحة المعركة باستمرار، يسحق الثوار. تنامت قسوته. دمر مناطق كاملة؛ أحيطت الغابات، وأي شخص كان يتم أسره هناك- رجلا أو امرأة أو طفلا- كان يُذبَح. انتشر الرعب بشكل عظيم حتى إن ظهور محمد كان يجعل الناس يحنون أجسادهم إن لم يكونوا قد هربوا بالفعل. ولكن لم يكن يحل السلام أو يعم الخراب إلا وتندلع ثورة مجددا في مكان آخر من البلد. حكام المقاطعات الذين انفصلوا عنه نزع جلدهم، والجلد كان يُحشى بالقش، وكانت الدمى المحشوة تُحمَل في أنحاء البلد لتشيع الرعب.
لم يشعر محمد بالندم من قسوته؛ كان مقتنعا تماما أن كل المعايير مقبولة، الحوار الذي أجراه في هذا الموضوع مع المؤرخ ضياء برني موح ويستحق الاقتباس:
قال السلطان لبرني: "كما ترى، كم عدد الثورات التي تندلع. ولست سعيدا بها، على الرغم من أن الناس ستقول إنها جميعا اندلعت بسبب قسوتي الشديدة. ولكني لن أتخلى عن الحكم بالموت بسبب الكلام، أو بسبب الثوار. لقد قرأت العديد من التواريخ. هل وجدت ملوكا مارسوا حكم الإعدام تحت ظروف محددة؟".
استعان برني في إجابته بالسلطة الإسلامية السامية التي اعتبرت عقوبة الإعدام مسموحة في سبع حالات. بخلاف ذلك ستؤدي العقوبة إلى الاضطراب والمشكلات والتمرد، وستصيب البلد بالسوء، والسبع حالات هي:
الردة عن الدين السليم؛ القتل العمد؛ زنا رجل متزوج بزوجة رجل آخر؛ التآمر على الملك، قيادة ثورة، الانضمام لأعداء الملك ونقل المعلومات لهم؛ العصيان الذي يؤدي لإيذاء الدولة، ولكن ليس أي عصيان آخر. النبي نفسه أدان ثلاثا من تلك الجرائم، وهي الردة، وقتل مسلم، والزنا مع امرأة متزوجة. وعقاب الجرائم الأربع الأخرى هي مسألة سياسة وحكم رشيد. يكمل برني، ولكن الإسلام يؤكد أيضا على حقيقة أن الملوك يعينون الوزراء، ويقدمونهم بتكريم كبير ويضعون إدارة مملكتهم في أيديهم من أجل تنظيم القواعد وجعل البلد في نظام سليم، وهكذا يرفع الملك يديه عن ضرورة تلطيخ يديه بالدماء.
أجاب السلطان عن ذلك قائلا: "العقوبات الموصوفة آنذاك كانت مناسبة للعصور المبكرة للعالم، ولكن الآن هناك أناس أكثر شرا وعنفا، أعاقبهم عند التشكك أو بافتراض مخططاتهم المتمردة أو المتآمرة، وأعاقب أتفه أفعال التمرد بالموت. هذا ما سأفعله حتى الموت، أو حتى يتصرف الناس بأمانة ويتخلوا عن التمرد والثورة. ليس لديّ مثل هذا الوزير الذي يحكم لتجنب سفك الدماء. أعاقب الناس لأنهم جميعا يصيرون أعدائي ومنافسيّ في الوقت نفسه. لقد وزعت ثروتي بينهم، ولكنهم لم يصيروا ودودين ولا مخلصين. طبعهم معروف لي، وأجدهم ناقمين ومعادين لي".
في حوار لاحق يندم السلطان أنه لم يُقتَل في هذا الوقت عن طريق من صنعوا كل هذه المشكلات والثورات. في مناسبة أخرى، عندما فقد واحدة من مدنه المهمة- المدينة التي أجبر سكان دلهي على الانتقال إليها- أرسل إلى برني وسأله عن الحلول التي استعان بها الملوك السابقون في مثل تلك الحالات: مملكته انتهت، ولا يوجد علاج لذلك. أجاب برني: "بعض الملوك، عندما أدركوا أنهم لم يستعيدوا ثقة شعبهم، وأصبحوا عرضة للكراهية العامة، كانوا يتخلون عن العرش ويسلمون الحكم لأكثر أبنائهم ثقة. والبعض الآخر، يذهبون في رحلات للصيد، وينغمسون في اللذات والخمر، تاركين كل أعمال الدولة للوزراء والموظفين. إن رضي الناس عن ذلك ولم يستسلم الملك للانتقام، يمكن لاضطرابات الدولة أن تتوقف. بين كل المشكلات السياسية فالمشكلة الأعظم والأكثر إزعاجا هي الشعور العام بالكراهية والحاجة للثقة بين كل مراتب الناس". ولكن حتى نصيحة برني الشجاعة وغير المكشوفة لم تؤثر في السلطان. قال السلطان إنه لو كان يستطيع أن يسوي شئون مملكته كما رغب، سيودع الحكم لثلاثة رجال وسيذهب للحج بمكة. "ولكن في الوقت الحاضر أنا غاضب من رعاياي وهم بخسوا حقي. الناس يعرفون مشاعري وأنا واع ببؤسهم وضيقهم، ولكن لا علاج أقوم به له فائدة. علاجي للمتمردين والثوار والمنافسين والناقمين هو السيف. أنا أعاقب وأستخدم السيف، هكذا يتم العلاج عن طريق المعاناة. وكلما قاوم الناس، عاقبت أكثر".
البحث عن بابا المسلمين
ولكن كثرة التمرد والغضب العام في أنحاء الإمبراطورية كان له تأثير واحد عليه. لقد أصبح مضطربا؛ ليس تجاه أكوام الجثث أمام قصره من كل المقاطعات والمدن التي زارها، ولكن تجاه شرعية حكمه. كان رجلا تقيا وأخلاقيا- كما هو واضح بعد كل ما تم ذكره- وكان يريد أن يتقدس منصبه بأعلى سلطة روحية في الإسلام. في القرون السابقة، كان الخلفاء العباسيون- الذين كان مقرهم في بغداد- يُعتبرون أعلى سلطة. ولكن إمبراطوريتهم لم تعد موجودة: عام 1258 غزا المغول بغداد، وقُتل آخر خليفة. بالنسبة لمحمد تغلق؛ الذي حصل على العرش عام 1325، واستيقظت شكوكه عام 1340، مع سقوط مقاطعة وراء مقاطعة حتى رأى إمبراطوريته تسقط أمامه، لم يعد من السهل أن يجد التنصيب المناسب. تفحص الأمر بحرص شديد. كل المرتحلين من البلاد الغربية للإسلام الذين زاروا بلاطه تم استجوابهم بجد حتى وصل لاستنتاج نهائي بأن خليفة مصر هو "البابا" الخاص به. تفاوض معه، ذهب الرسل وعادوا ورسائله إلى الخليفة حملت مجاملات فاضحة جدا حتى إن برني- الذي لا بد أنه استُخدم كثيرا في تلك المهام- لم يكن يستطيع تكرارها. عندما وصل سفير عن الخليفة، ذهب محمد- مع كل النبلاء والمتعلمين- ليقابله، وسار حافي القدمين أمامه وظل على مسافة منه. حذف اسمه من العملات ووضع اسم الخليفة عليها، واعتبره الحاكم الأعلى للإسلام. وأمر بالدعاء للخليفة في خطبة الجمعة، ولكن هذا لم يعد كافيا لإرضاء محمد: قام بحذف أسماء جميع أسلافه الذين لم يتلقوا المباركة من الخليفة في الصلاة، واعتبرت سلطتهم غير شرعية بأثر رجعي. كتب اسم الخليفة على أعلى المباني ولم يسمح لأي اسم أن يكتب بجانبه. وبعد مراسلات استمرت لعدة أعوام وصلت وثيقة رسمية من مصر لتعلن تسمية محمد وليّ الخليفة في الهند. الوثيقة أسعدت محمد جدا حتى إنه أمر شعراء البلاط أن يحولوها إلى أبيات شعرية.
إنه أنقى حالة من الحكام المصابين بالبارانويا. الحياة التي عاشها غريبة وغير مألوفة بالنسبة للأوروبي؛ كل شيء عنه مذهل حتى إنه من السهل أن تراه ككل؛ الاتساق غير العادي لعقله واضح.
يسيطر على عقله أربعة أنواع من الحشود: جيشه، ثروته، جثثه، وبلاطه (ومعها عاصمته)، يلعب معهم بدون توقف، ولكنه ينجح فقط في إنماء حشد الجثث على حساب بقية الحشود. ينمي جيوشا عظيمة، ولكنه بفعل ذلك ينقص من ثروته. ينفي سكان مدينته كلها من عاصمته، وفي النهاية يجد نفسه وحيدا في مدينة كبيرة، يذوي غضبه وهو ينظر إلى المدينة الفارغة من سطح قصره. يبتلع إلى النهاية بهجة الشخص الناجي.
بغض النظر عما يفعله، كان هناك حشد واحد قرر أن يحافظ عليه. لا يوجد ظرف قرر فيه التوقف عن القتل. كل السجناء كانوا يقفون أمامه يوميا: كمرشحين للإعدام. كانوا ممتلكاته الأكثر قيمة. أثناء 26 عاما من حكمه، كانت الجثث تتراكم من كل مقاطعة في إمبراطوريته، والمجاعة والطاعون كانا يساعدانه. تناقص الدخل الناتج عن هذا أغاظه، ولكن عدد ضحاياه تزايد. لا شيء استطاع أن يهز ثقته بنفسه.
من أجل الحفاظ على قوة أوامره- التي لم تكن سوى أحكام بالموت- إلى ذروتها الأعلى، سعى لأن يتأكد حكمه عن طريق قوة عليا؛ الله، الذي آمن به كمسلم ورع، ولكن هذا لم يكن كافيا له. كان يريد التأكيد من الممثل الشرعي لله.
محمد تغلق تم الدفاع عنه عن طريق المؤرخين الهنديين المحدثين. السلطة لم يعوزها أبدا المداحين، والمؤرخين المهووسين مهنيا بها. هم يمكنهم تبرير ذلك، سواء عن طريق سرد الأزمان (واضعين قناع الأكاديمية على المداهنة) أو أن الدراسة الأكاديمية تتحول بين أيديهم إلى أي شكل وكل شكل.
علينا أن نتوقع الشيء نفسه يحدث في حالة الحكام القريبين منا أكثر من محمد تغلق. ربما يكون تغلق مفيدا لنا كمعيار مانع، لنعري العملية الداخلية للسلطة، على الرغم أن ما حدث كان بداخل رجل لم يكن يملك سوى أوهامه، وهذا كان من حسن حظ العالم.