آدم كيرش، شاعر وناقد أمريكي *
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بالترجمة بدون إذن منه**
إذا كان هناك كاتب في حالة هروب من اسمه، فهو بلا شك فرناندو بيسوا. كلمة Pessoa تعني بالبرتغالية «شخص»، ولا يوجد شيء لم يرغب عنه بقدر أن يكون كذلك. مرارًا وتكرارًا في الشعر وفي النثر، أنكر بيسوا أنه موجود بأي شكل مشابه للفرد المميز. يكتب في إحدى قصائده: «بدأت أعرف نفسي، أنا غير موجود».. «أنا الهوة بين ما أريد أن أكونه وما صنعه مني الآخرون... هذا هو أنا. انتهى».
في عمله الأبرز، «كتاب اللا طمأنينة»، وهو مجموعة من الأقوال والتأملات التي صيغت في شكل يوميات سردية، عمل عليها لعدة سنوات، ولكنه لم يكملها، ونشر أقل القليل منها – يعود بيسوا إلى الفكرة نفسها: «خلال تلك الانطباعات غير المتصلة عن قصد، أنا السارد اللامبالي لسيرتي الخالية من الأحداث، لتاريخي الخالي من الحياة. تلك اعترافاتي وإذا لم أقل شيئًا فيها، فهذا لأن ليس لديّ شيء لأقوله».
لا يبدو هذا أساسًا مبشرًا لعمل إبداعي يُعتبر الآن من أعظم الأعمال في القرن العشرين. إذا لم يكن الكاتب شيئًا، ولم يفعل شيئًا، وليس لديه شيء ليقوله، ما الذي سيكتب عنه؟ ولكن كالانفجار الأعظم، الذي بدأ بما يشبه اللاشيء وحوَّله إلى «الكون»، قوة مخيلة بيسوا الواسعة لم تكن تحتاج سوى مادة خام محدودة جدًا ليعمل بها. في الحقيقة هو ينتمي إلى سلالة مميزة من الكتاب الأوروبيين، من جياكومو ليوباردي، في بداية القرن التاسع عشر إلى صمويل بيكيت في بداية القرن العشرين، اللذين كان اللاشيء بالنسبة لهما مصدرًا للإلهام. اللاجدوى المطلقة في كل الإنجازات، الافتتان بالوحدة، الطريقة التي يُلَوِّن بها الحزن إدراكنا للعالم: ابتاع بيسوا رؤيته لموضوعاته المفضلة بثمن باهظ، ولكن لم يكن بإمكانه أن يحصل عليها بأي طريقة أخرى، كتب: «أن يجد المرء شخصيته بفقدانها – الإيمان نفسه يرضى بذلك الحس القدري».
***
بإيجاز شديد نعرف الحقائق المتعلقة بقدر بيسوا. وُلد في لشبونة عام 1888، وانتقل إلى جنوب أفريقيا وهو في السابعة من عمره، وذلك حين عُين زوج أمه في القنصلية البرتغالية في دربان. تفوق في اللغة الإنجليزية، وحصل على عدة جوائز عن مقالاته بالمدرسة، وكتب أشعارًا بالإنجليزية طوال حياته. في عام 1905، عاد إلى لشبونه ليدرس في جامعتها. ولكن بعد عامين، أدى إضراب للطلاب إلى إغلاق الجامعة، وترك بيسوا الجامعة.
لبقية حياته، أخلص للقراءة والكتابة، بينما كان يعتاش من الترجمة الحرة لمراسلات الأعمال. لم يتزوج أبدًا، وبينما بحث كتاب سيرته في مسألة جنسانيته – «لم أكن أبدًا الشخص الذي يخوض علاقة حب أو صداقة، أو الذي يفضل جنسًا على آخر»، هكذا كتب في إحدى قصائده – فمن المحتمل أنه مات بدون أن يخوض علاقة جنسية. انضم إلى مشروعات أدبية متعددة، ومنها المجلة الشهيرة «أورفيوس»، والتي على الرغم من صدورها لعددين فقط، تعتبر السبب في تقديم الحداثة إلى البرتغال. لم ينشر سوى كتاب واحد أثناء حياته، «الرسالة»، وهو مجموعة قصائد مستلهمة من التاريخ البرتغالي، صدر الكتاب عام 1934. كان بيسوا وجهًا مالوفًا في الوسط الأدبي للشبونة، ولكنه حين توفى في عمر السابعة والأربعين عام 1935، لم يُنسب لاسمه أي إنجاز بارز. ربما بدا بالفعل أنه خاض «تاريخًا خاليًا من الحياة».
ولكن بعد وفاته سيحظى بيسوا بسمعة مميزة، كما تنبأ في قصيدته «إذا مت شابًا»: «ربما يختفي أثر الجذور من على الأرض، ولكن زهورها تنمو في الهواء الطلق ليراها الجميع. لا بد أنك مثلها، لاشيء يمكن أن يمنع ذلك». من ضمن ممتلكاته التي تركها بعد وفاته كانت هناك حقيبة ضخمة، تحتوي على أكثر من 25 ألف ورقة – وهي نتاج حياة سادها ما يشبه الهوس بالكتابة. وكما يقول ريتشارد زينيث، وهو أحد مترجميه البارزين إلى الإنجليزية، كتب بيسوا على «الأوراق المهترئة، والدفاتر، وعلى الاستمارات المكتبية للشركات التي عمل بها، وعلى ظهر الرسائل، وعلى الأظرف، وعلى أي قصاصة كانت في متناوله».
هذا الكم من الوثائق، الذي يوجد الآن في المكتبة القومية بالبرتغال، يضم ما يكفي من الأعمال البارزة التي تجعل بيسوا أعظم شاعر برتغالي في القرن العشرين – في الحقيقة ربما يكون الأعظم منذ لويش دي كامويش، كاتب الملحمة القومية للبرتغال في القرن الساس عشر «اللوسياد». من بين هذه الأوراق أيضًا، هناك مئات القطع التي تشكل "كتاب اللا طمأنينة"، ولكنها بدون ترتيب محدد، تاركًا للمحررين المتتالين مهمة فرض رؤيتهم الخاصة على العمل. نُشر الكتاب لأول مرة عام 1982، بعد حوالي خمسين عامًا من وفاة بيسوا. ونُشرت ترجمة إنجليزية جديدة، لمارجريت جول كوستا بعنوان «كتاب اللاطمأنينة: النسخة الكاملة»، مُعتَمِدة على النسخة البرتغالية لجيرونيمو بيتسارو، التي صدرت عام 2013. وهذه أول نسخة حاولت أن تضع النصوص بترتيبها التاريخي بقدر الإمكان، اعتمادًا على تأريخ بيسوا والمصادر الأخرى.
بالإضافة إلى حجم أرشيف بيسوا والفوضى التي يتسم بها، هناك مستوى مربك آخر من التعقيد، وهو بمعنى ما كون الأعمال الموجودة بالأرشيف منسوبة للعديد من الكتاب. في مسوداته، وحتى في مراسلاته الشخصية، نَسَب بيسوا جل كتاباته الأفضل إلى ذوات بديلة متخيلة عديدة، دعاها بـ «الشخصيات المستعارة» Heteronyms، رصد الدارسون 72 منها. بدأ شغفه بالأسماء المبتكرة مبكرًا، في عمر السادسة، كتب رسائل بالاسم الفرنسي شوفالييه دو با، ثم انتقل إلى شخصيتين إنجليزيتين هما آلكسندر سيرش وتشارلز روبرت آنون. ولكن الشخصيات المستعارة الرئيسية التي استخدمها في أعماله الناجحة، كانت أقرب للأسماء الكودية الطريفة. كانوا شخصيات كاملة، وهبها سيرًا ذاتية وفلسفات وأساليب أدبية. وصل الأمر ببيسوا إلى أنه تخيل لقاءات بينهم، وسمح لهم بالتعليق على أعمال بعضهم. إذا كان بيسوا فارغًا كما يزعم، فهو ليس الفراغ النابع عن الخواء، ولكنه الفراغ الأشبه بخشبة المسرح، الذي تلتقي فيه هذه الذوات وتتفاعل.
***
في شعر بيسوا، كانت هناك ثلاثة شخصيات مستعارة أساسية. بالإضافة إلى القصائد التي وقعها باسمه، كتب باسم ألبرتو كاييرو، وهو طفل الطبيعة الساذج، وريكاردو ريس، الطبيب المكتئب المنغمس في الأشكال والموضوعات الكلاسيكية، وآلفارو دي كامبوس، المهندس البحري والرحالة الذي لف العالم والمخلص لوالت ويتمان. كل من تلك الشخصيات الثلاث حدد له تاريخ ميلاد قريب من تاريخ ميلاد بيسوا، واشتبكت أساطيرهم معًا. كتب بيسوا في إحدى المرات قطعة يشرح فيها كامبوس كيف تغير ريس كلية بعد الاستماع إلى شعر ألقاه كاييرو.
من المعتاد أننا نتوقع من الشعراء المهمين أن يكون لديهم أسلوب مميز، طريقة في الكتابة تميزهم بالطريقة نفسها التي نميز بها الرسام من خلال لمسات الفرشاة. ولكن قسمة الذوات أتاحت لبيسوا على الأقل أربعة أساليب في وقت واحد. عندما كان يكتب باسمه كان يتسم شعره بالتكثيف والميتافيزيقية والحساسية:
«أتأمل البِركة الصامتة
التي يحرك ماءها النسيم.
هل أفكر في كل شيء،
أم أن كل شيء قد نسيني؟»
في الوقت نفسه يبدو ريس أشبه بهوراس أو كاتولوس، يهتم بالحياة العابرة والحب في ستانزات منضبطة:
«إذا كانت كل قبلة
هي قبلة وداع،
فدعينا نقبل بعضنا بشغف
يا كلوي».
على الطرف المقابل هناك كامبوس، المستقبلي المتحمس، الذي يمجد سطوة الحداثة وسرعتها:
«الغضب الرائع متحدّ الوجود
وكل حواسي ترغي، وكل مسامي تزبد
لأن كل شيء يملك سرعة واحدة وطاقة واحدة وخط إلهي واحد،
منه وإليه، مأخوذ وأتمتم باهتياج على إيقاع السرعة المجنونة».
ثم هناك كاييرو، الذي قيل إنه توفى من السل في منتصف العشرينيات من عمره. والذي توقره الشخصيات المستعارة الأخرى بصفته «أستاذهم». كتب قصائد واضحة تتجنب الأفكار المجردة وتنغمس في العالم الواقعي، بروح من الحكمة قريبة من الزِن:
«أشكر الله لأنني لست بخير
ولكن هل الأنانية الطبيعية للأزهار
والأنهار التي تتبع مسارها
لا تنشغل سوى بإزهارها وفيضانها
هكذا بدون تفكير؟»
بالنسبة للعديد من القراء، تمثل الشخصيات المستعارة، بأساطيرها المعقدة، جزءًا كبيرًا من جاذبية بيسوا، بعض القراء الآخرين يعتبرونها أسلوبًا غير ضروري ويثقل على عمله. ولكنها بلا شك واحدة من العناصر التي تجعله حداثيًا كبيرًا. كان هذا الجيل من الشعراء يؤمن بما يدعوه أوسكار وايلد «حقيقة الأقنعة». ت. س. إليوت الذي لم يكن أكثر «إليوتية» مما كان عليه عندما كتب ج. آلفرد بروفروك، لديه نسب خاص ببيسوا. هما اللذان ولدا في وقت متقارب، كان لديهما ولع بالداندية، وازدراء للعادي، والتزام باللا شخصانية، وميل للاعتزاز بالتعاسة.
ولكن بيسوا مضى فيما وراء التقنع إلى التفكك المقصود. في قسم بـ «كتاب اللا طمأنينة» بعنوان «كيف تحلم بالميتافيزيقا»، يصف منهجًا يسعى إلى تذويب الوعي، يشبه في صرامته الدليل المكتوب عن التنويم الذاتي، أو مجموعة من الممارسات الدينية: البداية تكون بقراءة الروايات، التي تدربك على أن تهتم بالعالم الخيالي أكثر من الواقعي، ثم القدرة على أن تشعر ماديًا بما تتخيله – على سبيل المثال «الشهواني» لا بد أن «يختبر القذف عندما تحدث هذه اللحظة في روايته». في النهاية، وبعد عدة مراحل، تأتي المرحلة التي يطلق عليها بيسوا «أسمى مراحل الحلم»: «بعد خلق مجموعة من الشخصيات، نعيشها جميعًا، في الوقت نفسه – نتشارك جميع هذه الأرواح معًا». بالطبع هذا هو ما وصل إليه، وإن كان يبدو من جهة على أنه إنكار للذات، فهو من جهة أخرى يشبه عبودية للذات، يختتم النص بقوله «أنا إله». في النهاية، إذا كانت مخيلتك قوية جدًا، لدرجة أنها يمكنها تعمير العالم بالبشر، فأنت لست بحاجة إلى الناس الحقيقيين.
***
ذلك النوع من الذاتوية solipsism كان مصدر افتتان عظيم لبيسوا، كما يكشف «كتاب اللا طمأنينة». المادة التي أشار لتضمينها في الكتاب كُتبت في فترتين، كل فترة منهما لها شخصيتها المستعارة، والشخصيتين مختلفين عن الشخصيات الأربع التي سيطرت على شعره. في الفترة الأولى، من عام 1913 إلى عام 1920، نَسَب أعماله إلى فيسنتي جويديس، الذي وصفه في مقدمة قصيرة بأنه «رجل في الثلاثينيات من العمر، نحيف، طويل إلى حد ما، يظهر تقوس ظهره أثناء جلوسه أقل مما يظهر أثناء وقوفه، ولا يهمل تمامًا عنايته بثيابه». تستمر القطعة في وصف تقشف جويديس وكآبته وذكائه، وتفاهته البينة – كل تلك السمات التي تشبه خالقه. بالتالي، عندما يصف بيسوا «كتاب اللا طمأنينة» على أنه «سيرة ذاتية لشخص لم يوجد أبدًا»، هو في الوقت نفسه يذكر حقيقة واقعية (شخصية جويديس غير موجودة) ويقوم باعتراف شعري: هو نفسه لم يعش ما يعتبره العالم حياة كاملة.
في العشرينيات من القرن العشرين، وضع بيسوا الكتاب جانبًا، وأولى اهتمامه للشعر وانغمس في افتتان استمر طوال حياته بعلوم السحر والفلك. عندما عاد إلى عام 1929، أعاد تخيل كاتبه. في ذلك الوقت صار عملًا خاصًا ببرناردو سواريس، مساعد كاتب الحسابات في شركة لشبونه للنسيج. سواريس أيضًا كانت لديه قرابة روحية مع بيسوا: في الحقيقة، كتب بيسوا أنه الوحيد الذي يعتبر «شبه شخصية مستعارة» لأن «شخصيته، على الرغم من أنها ليست شخصيتي، فهي لا تختلف كثيرًا عنها، ولكنها مجرد تشويه لها». شخصية سواريس أكثر اكتمالًا من جهة الخيال من سابقه جويديس. يبدي ملاحظاته عن حيه بايشا، ومحل عمله في شارع دوس دورادوريس، ومديره، فاشكيش، بطريقة تضفي على الجزء الثاني من الكتاب حسًا روائيًا. وفي الحقيقة وضع ريتشارد زينيث محرر نسخة بنجوين الكلاسيكية من «كتاب اللا طمأنينة» عددًا من هذه الفقرات في البداية، لتمهيد الكتاب للقارئ بالاستعانة بقدر من السرد.
المنهج التأريخي للنسخة الجديدة لا يتسم بأي نوع من التنظيم الموضوعي، ونتيجة ذلك صار الكتاب أكثر صعوبة في القراءة من سابقه. يعود هذا جزئيًا لأنه يبدأ بأضعف مادة فيه، التي ترجع إلى حين كان بيسوا في الخامسة والعشرين من عمره متأثرًا بالرمزية الفرنسية وحركة الانحطاط في التسعينيات من القرن التاسع عشر (تبدو البرتغال متخلفة لجيل كامل عن العصر الأدبي في لندن وباريس). تقول أول فقرة: «روحي أوركسترا مختبئة، ولا أعرف أي آلات، أي كمنجات، أي وتريات، أي طبول، أي دفوف هي التي تدق وتضج بداخلي. لا أعرف نفسي سوى بكوني سيمفونية».
تضع هذه الفقرة النغمة الضابطة لشعر النثر الممتلئ بالحليات الذي يهيمن على الجزء الأول من العمل. بعض القطع كان لها عناوين ثقيلة، كـ «تلاوة اليأس» أو «إستطيقا التنازل». أخرى تتكون من تصورات انطباعية عن السماوات والمناظر الطبيعية كما في «يوم ممطر»: «الهواء لونه أصفر متواري، كالأصفر الشاحب الذي تراه في البياض المغبر». هناك أحلام يقظة منحرفة عن نساء بلا اسم نصفهن العذراء مريم ونصفهن بل دام سان مرسي (المرأة الجميلة الخالية من الرحمة): «أنت الشكل الوحيد الذي لا يشع الضجر، لأنك تتغيرين مع مشاعرنا، لأنك بتقبيلك بهجتنا، تهزين حزننا وضجرنا، أنت الأفيون الذي يهدئ، والنوم الذي يجلب معه الراحة، والموت الذي يضع أيادينا بلطف على صدورنا».
إذا كان هذا هو كل ما يحتويه «كتاب اللا طمأنينة»، لن يكون عملًا بارزًا حديثًا ولكن آلة زمن. ومع ذلك، فطائفة الانحطاط في نهاية القرن التاسع عشر هي التي وضعت أولى بذور الحداثة؛ ولدى بيسوا يتضح بشكل رائع الانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين. تأسس الانحطاط على القلب الوقح للقيم في هذا الزمن: إذ حل محل العمل الكادح والجدية الأخلاقية الكسل المتخيل السامي والتناقض المستفز في أعمال كُتّاب مثل وايلد وجوريس-كارل هيوسمان. تردد لدى بيسوا الشاب صدى هذه الرسالة، لأنها حولت ميله من التردد والانسحاب إلى الفضيلة الفنية. كتب في قطعة تعود إلى عام 1915: «أنا لا أسعى بجهد. إذا أراد القدر سيأتي ليجدني. أعلم تمام العلم أن أعظم جهودي لن تقارن بالنجاح الذي يستمتع به الآخرون».
ولكن مع تقدمه في العمر، وخاصة في الوقت الذي عاد فيه إلى «كتاب اللا طمأنينة» في الأربعينيات من عمره، أضفى بيسوا على هذا الموقف الأدبي شيئًا أكثر جدية وحدّة. تحول إلى نوع من العدمية الميتافيزيقية، لتصبح الحقيقة العظمى التي على الفنان نقلها هي أن لا شيء يهم. كان من الهام في هذه النقلة هو القرار بالتخلي عن جويديس، ببلاغته المنمقة، وأن يتحدث من خلال سواريس، الذي يفتقد أي نوع من الألق. في الحقيقة كان سواريس الذي يعيش في هذه الغرفة الرثة المستأجرة ويعمل بهذه الوظيفة المكررة المملة عاديًا إلى أقصى درجة، من نوع الأشخاص الذين يتجنبهم الاستطيقي بل حتى إنه لا يلاحظهم. في «الأرض الخراب» رأى إليوت حشود الناس ينطلقون على جسر لندن، ومثل سواريس، اعتبرهم موتى بالفعل: «لم أكن أعتقد أن الموت أصاب هذا العدد من الناس».
***
ولكن لدى بيسوا فالتناقض النهائي هو تحديدًا هذا الموت الحي الذي يقدم أفضل منظور للوجود الإنساني. إذا كان عليك وصف سواريس بتعبير مختصر سيكون «غير المخدوع»: لأنه لا يريد شيئًا ويستطيع إدراك كل شيء. يكتب بيسوا: «نعم، هذا هو ما يعنيه الضجر، فقدان الروح لقدرتها على خداع نفسها». من بين الأشياء التي تخفق في التأثير عليه في «كتاب اللا طمأنينة» فكرة السفر: «فكرة السفر تصيبني بالمرض الجسدي»، والسياسة: «جميع الثوريين أغبياء وكذلك المصلحين»، والحب: «ليس لدي عقل يتمتع بالصبر أو التركيز ليحثني على بذل هذا الجهد». من الملحوظ أن التاريخ يغيب عن عمل بيسوا، على الرغم من أنه عاش أثناء الحرب العالمية الأولى، وحلت سلسلة من الأزمات السياسية في البرتغال أدت لإقامة نظام فاشي، أقصى بيسوا بصرامة هذه الأمور من اعتباره. بدا أن أقصى لحظات سعادته كانت عندما يراقب الطقس، والعديد من القطع تتضمن أوصافًا للشمس والسماء والمطر والسحب.
من الصعب التوفيق بين هذه اللامبالاة وبين الجهد والحرفية اللتين استعان بهما بيسوا وهو منكب على عمله. إذا لم يكن هناك ما يستحق الفعل، لم كتب خمسة وعشرين ألف صفحة؟ في بعض الأوقات، يشير إلى أن التفكير والكتابة كانا فقط لتزجية الوقت – انشغال للعقل كما يشغل البعض أيديهم بالتطريز، كما يقول في قصيدته «ساكنًا»:
«أنا أيضًا أقوم بالتطريز
يعود هذا منذ بدأت التفكير
غرزة بعد غرزة تشكّل كلًا بدون كل
نسيجًا ولكني لا أعرف إذا كان ثوبًا أم لاشيء».
إذا اعتُبر التفكير غيابًا تامًا للنشاط، إذن ربما يبدو أشبه بإنكار الحياة، و«كتاب اللا طمأنينة» كُتب للتعبير عن الضجر والندم واليأس. ولكن في الوقت نفسه، بيسوا مقتنع أن التفكير هو أعظم المغامرات، يفوق أي فعل ممكن. هذا صحيح، لأننا لا ندخل العالم أبدًا بدون أن يكون هذا من خلال إدراكاتنا وأفكارنا الخاصة، وللحديث بدقة فالعقل في العالم غير ضروري. لِم نفعل الأشياء طالما يمكننا أن نتخيلها؟ بهذه الطريقة يتحول الموظف سواريس، إلى أرستقراطي محض، لا حاجة له بمفاهيم مثل الإنجاز أو المكانة، لأنه يعتبر نفسه متفوقًا على هذه المفاهيم. يقول سواريس، ويبدو هنا أشبه بزرادشت نيتشه: «كلما صعد الإنسان لأعلى، كان عليه أن يتخلى عن المزيد من الأشياء. على ذروة الجبل، لا توجد مساحة سوى لهذا الإنسان وحده». الكتابة هي سبب تفوقه والدليل عليها: «الأدب... يبدو لي الهدف الذي ينبغي أن تتجه نحوه كل الجهود الإنسانية».
في تبدلاته بين كراهية الذات وإحساسه بتفوق الذات، يمكن لـ «كتاب اللا طمأنينة» أن يبدو ملحمة هوسية-اكتئابية نموذجية. إنجاز بيسوا، سواء قصد ذلك أو لم يقصده، هو إظهار كيف أن جذور نوع معين من البؤس يعتمد على الذاتوية – الاعتقاد بأن لا شيء خارج الذات يهم حقًا - بالتالي لا يمكن للعقل أن يتأثر حقًا بما يختبره. يكتب في القطعة الأخيرة: «الحرية هي القدرة على العزلة، إذا كنت لا تستطيع العيش وحدك، فقد ولدت عبدًا». ولكن في النهاية فحتى بيسوا لم يستطع العيش وحده، إنما حظي بالصحبة عن طريق ابتكار شخصيات مستعارة، ولكنهم على خلاف الناس الحقيقيين، سيظلون دومًا تحت السيطرة. الموت وحده قادر على أن يحررهم – ويحرره – من قبضة مخيلته شديدة القوة.