هل أنت عدو كارل شميت أم صديقه؟
مقال لإسلام كرار
المقال خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
له ما له وعليه ما عليه؟
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط الحزب النازي في ألمانيا ثار جدل واسع حول أخلاقية استخدام اﻹنتاج الفكري الذي صدر عن المنتمين إلى الحزب النازي ونما على جثث ضحايا عنفه الدموي، وسرى سخط كبير على جيل من الفلاسفة والمفكرين تورطوا بدرجات متفاوتة في تقديم النظريات والأطروحات التي أيدت الحكم النازي بين عامي 1933 و1945.
تربع على رأس هؤلاء كارل شميت، أحد أبرز المفكرين الألمان في القرن العشرين، والذي ظلت أفكاره تلقي بظلالها على العلوم السياسية حتى اليوم. وعند وفاته في 7 إبريل 1985، عن عمر 97 عامًا، انطلقت موجة من الجدل والسجال في الأوساط الفكرية والأكاديمية الألمانية عن القيمة الفلسفية والعلمية لعمله الفكري الذي أنجزه على مدى 69 عامًا، وكان انتسابه إلى الحزب النازي ودعمه للنازيين، فضلًا عن تسويغه النظري والفلسفي لأفعال قادة الحزب، كفيلًا بدفع كبار السياسيين في ألمانيا الاتحادية مثل «شتيرنبرجر» و«كورت زونتهايمر» إلى نزع قيمته العلمية وإنكار أي مغزى جدي لأعماله(1).
في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، أحيا أكاديميون غربيون من اليسار واليمين أفكار كارل شميت مرة أخرى، وأعادوا الاعتبار إليه عن طريق الإستفادة من إرثه الفلسفي الذي يساهم في تشريح المرحلة النازية ورؤيتها لمنطق الدولة الحديثة.
بذور العنصرية في تربة الكنيسة
تزامن ميلاد شميت في 11 يوليو عام 1888 مع بدء عملية التصنيع الألمانية التي تركت آثارها في مسقط رأسه بمدينة بلتنبرج، وكانت ألمانيا في تلك الفترة في أوج ازدهارها وقوتها، والانتماء القومي وقبول الدولة السلطوية حال كل الألمان، لكن لم يقض ذلك على الطائفية التي تواجدت آنذاك، حيث كان هناك فصل عنصري بين المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت، وفصل بروسيا عن بقية ألمانيا، وقد أسهمت التطورات السياسية والصناعية بشكل كبير في زيادة تلك الطائفية، وتتحدى فيها القوى الليبرالية والاشتراكية الجديدة بعضها البعض وتتحدى أيضًا الكاثوليكيين والمحافظين(2).
كان شميت وليد تلك التيارات المتصارعة وكانت هويته محكومة بتراث طائفي وديني، كان الكاثوليكيون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أقلية مضطهدة يعانون من التمييز طوال القرن التاسع عشر، وقد دافعوا بغيرة شديدة عن استقلالهم الديني والثقافي ضد قوى الدولة البروسية، وكانت عائلة شميت في قلب الصراع الطائفي، وكانوا دائمًا مدافعين عن الدين ولهم صلات وثيقة برجال الكنيسة، وكان والده عضوًا مخلصًا للحزب الكاثوليكي، وتوقعت العائلة أن يُصبح شميت راهب في الكنيسة الكاثوليكية، لكن ذلك العداء جعله شرسًا في مساحة أخرى.
أفرزت الحرب العالمية الأولى الكثير من الأفكار لدى شميت، تلك الأفكار التي لم تجد في الحرب أي تشجيع على رؤية جوانب أخلاقية أو إنسانية في عالم السياسة، لكن على المستوى الديني ظل وفيًا للكنيسة الكاثوليكية التي كانت حجر أساس في طفولته، وكان من الصعب عليه تطوير أي وجهات نظر إنسانية أو أخلاقية في العالم تتمثل في شيء غير الكنيسة التي ظل مدافعًا عنها وعن الكاثوليك حتى أواخر عام 1923. لكن بعد ذلك أدرك أن الكنيسة الكاثوليكية تتوائم مع الدولة للحفاظ على مصالحهم الخاصة، وأن الكهنة والرهبان ما هم إلا سياسيين ورجال دولة يتصارعون على مستويات أسفل السلطة، لكن ديناميكية هذا الصراع وجوهره تحمل كل قيم ومبادئ السلطة(3).
وفي شتاء عام 1926 عقد شميت ندوة في جامعة بون بعنوان «الفلسفة السياسية»، كان يُلقي فيها أخر صيحات تبلور أفكاره المتطرفة ضد السياسة، التي رأى فيها الحديث عن الليبرالية والديمقراطية أحاديث «رومانسية» تستبدل القرار السياسي بالنقاش الذي لا ينتهي، ورأى أن الليبرالية هي العدو الذي يدمر المجال السياسي بواسطة تحول السياسة إلى منظومة فرعية ووظيفية، والتي تسببت في نزع هالة القداسة عن السياسة وتبدد القدرة السيادية على اتخاذ القرارات وتراجعها أمام النقاشات الديمقراطية التي لا تنتهي. أما السيادة عند شميت هي فعل «نحن» ضد «هم»، الأصدقاء ضد الأعداء، وهذه العداوة يجب أن تكون على مستوى عقائدي، ولهذا فإن المواجهة ستكون بين عقيدتين سياسيتين، ولذلك أحب شميت هتلر لأنه أعاد السياسة إلى بعدها العقائدي، وحقق وحدة الشعب ضد العدو، والعدو عند شميت هو من يساعدنا على معرفة الصديق، ولذلك فإن الحرب تُعد نمط حياة يتبع تحديد الصديق الذي يساندنا في مواجهة العدو.
الإنسان المستباح
صدرت لشميت عدة مؤلفات مثل: «اللاهوت السياسي» في عام 1922، و«أزمة البرلمانات» عام 1923 مهاجمًا شرعية الحكومة البرلمانية، ثم ألقى محاضرة عام 1927 بعنوان «مفهوم السياسي»، التي نشرها فيما بعد في كتاب عام 1932. كانت أعماله قد بدا عليها خط ناظم، حيث نجد تجليات عدة في تأويل معنى السياسة، حيث رأى أن المؤسسات البرلمانية مجرد تقنيات ووسائل في العمل السياسي، وليس نقدها إلا نقد الوسائل، لكن جوهر السياسة يتبدى في وقت الحرب حين تكون سلطة الدولة/الحاكم مُطلقة وقادرة على تجاوز المؤسسات التشريعية والتنفيذية وتعطيل الدستور والقانون وفرض حالة الطوارىء، وعندما يتجلى جوهر الدولة في حالتها المتطرفة يسقط ذلك على الحالة العادية، لتصبح حالة الطوارىء يومية، وتتصرف الدولة في أيام السلم وكأنها في أيام الحرب، وذلك ما قاد شميت إلى فهم منطق الدولة التي تصبح فيها حالة الاستثناء هي القاعدة(4).
انضم شميت للحزب النازي في مايو عام 1933، وفي نوفمبر من العام ذاته أصبح رئيس رابطة الحقوقيين الاشتراكيين القوميين، رغم أنه لم يكن مؤيدًا للاشتراكية قبل وصول هتلر إلى الحكم، وهذا بعدما استخدم هتلر أفكار شميت في 28 فبراير عام 1933 بشكل غير مباشر حين أصدر مرسوم حماية الشعب والدولة، الذي علق فيه العمل بمواد الحرية الشخصية في دستور «جمهورية فايمر»، وجعل دولة الرايخ الثالث «ألمانيا النازية» برمتها دولة خاضعة لحالة الاستثناء التي امتدت لإثنى عشر عامًا، واستخدم فقهاء القانون مصطلح الاستثناء لإعطاء صلاحيات واسعة للسلطات التنفيذية إبان الحرب، وتعتمد تلك الصلاحيات في مجملها على نظرية شميت التي بفعلها طرأ تحول على الأنظمة الديمقراطية بفعل التوسع المطرد في صلاحيات السلطة التنفيذية والتي قامت بتنحية الحقوق الشخصية جانبًا وجعلت الإنسان عاريًا من حقوقه تحت سلطة الدولة.
تلك الحالة التي جعلت العالم يتحرك نحو سياسات الطرد والإقصاء والنفي والاستثناء، تلك السياسات التي جعلت غير المنتمين لسياسات السلطة الحاكمة خارج خريطتهم، ويتم التعامل معهم بأساليب خارج نطاق القانون والحريات، لأنهم مستثنين ويتعطل عندهم القانون والدستور والحق، وذلك ما وصفه جورجو أجامبين بـ«الإنسان المستباح»، وهو إنسان يمكن قتله دون خوف من عقاب، إنسان يقف وراء حدود القانون البشري والإلهي(5).
واقعية الحرب ضد أوهام الليبرالية
كان لدى كارل شميت أمل في تأييده لرجال السلطة الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على البشر، أولئك الذين يلوون عنق السلطة السيادية للاستثناء، حيث كان يرى فيهم مستقبل جديد لتشكيل حدود جديدة للعالم تقوم بالتفرقة بين من يدخل في حيز سيادة النظام ومن يقبع خارجها، فالسيادة في نظر شميت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأرض، فلا يمكن تصور السيادة بدون حدود خارجية تفصل بين الأعداء والأصدقاء كما وصفها شميت في كتاب «مفهوم السياسي».
هاجم شميت السياسيين الليبراليين الذين يدعون إلى فصل السلطات والنقاش المفتوح والالتزام بالدستور، ووجد فيهم العائق في تحديد العدو من الصديق. فما وضوح ممكن إلا من خلال السيادة التي تكتسب شرعيتها من النضال ضد العدو الذي يهدد حياة المواطنين، وأي محاولة للمساواة لجعل السياسة شيئًا آمنًا ينتهي إلى ترك أمور الدولة للمصالح الخاصة والتناقضات الاجتماعية(6).
مَثلت أفكار شميت «الحالة النموذجية» التي يتطابق فيها النمط المعرفي مع الوضع القائم في لحظة تاريخية معينة، ومع أفكار شميت كانت الحقبة النازية وما بعدها تجليات حقيقية لجوهر السياسة التي تنحاز دائمًا للحرب بصورها المتعددة. وبالرغم من جدل أخلاقية استخدام أفكار شميت أو منع تداولها بسبب انتمائه للنازية، لكنه قضى 40 عامًا حتى وفاته يرى الحرب الباردة تسيّر العالم وتُنظم قوانينه بمعارك أقل لكنها أكثر درامية.
المصادر:
1- Anti-liberalism, identity democracy and Weimar weakness
2- Carl Schmitt’s Life: A Chronology
3- مقدمة كتاب «مفهوم السياسي» لسومر المير
5- المصدر نفسه