الموسوعة الأناركية: الفردانية
مقال راؤول أودين
ترجمة عمر سلام
راؤول أودين (١٨٧٤-١٩٤١): كان صانع نظارات ناجحًا في باريس وأناركيا فردانيًا، غادر فرنسا ليؤسس مستعمرة أناركية في كوستاريكا. لم تستمر المستعمرة طويلا، وبقي في أمريكا الوسطى حتى وفاته في بنما.

مقدمة المترجم:
في عصر تترادف فيه الفردانية والأنانية، أرى أنه يجب علينا العودة لتصور آخر عن هذا المفهوم الذي عادة ما يساء فهمه، فالفردانية لا تعني الأنانية ولا تعني الانعزال ولا تعني الكثير من المفردات الأخرى التي ارتبطت بهذا المفهوم في عصر وسائل التواصل الاجتماعي والريلز والاستهلاك المفرط، إن الفردانية من وجهة نظري تدعو للترابط والجماعية، فالفرد لا يعيش في العالم وحيد ومنعزل عن باقي الأفراد، بل يعيش في مجتمع مليء بالأفراد الذين يحتاجون ويعتمدون على بعضهم بعضا حتى وإن غابت فكرة المصلحة الشخصية، فالعلاقات بين الأفراد لا تنشأ من أجل المصلحة الذاتية فحسب، ولو كان هذا الافتراض الأناني صحيحا لاختفت العلاقات البشرية كليا في عصر الانترنت والآلات التي تغنينا عن معظم التعاملات اليومية.
يتمثل الغرض الحقيقي من التنظير للفردانية في خلق علاقة جديدة بين المجتمع وأفراده، علاقة تعمل على الحفاظ على حقوق الفرد والاستفادة الكاملة من إمكانياته بدون أن يكون المجتمع كيان مستبد تتعالى مصالحه (أيا كان المعنى وراء الصالح العام) على مصالح أفراده.
لذا اخترت تعريف الفردانية من المنظور الأناركي، فالأناركية أيديولوجية سياسية تجمع بين الفردانية والجماعية بدون أن يطغى أحد المفهومين على الآخر، وأفضل من شرح العلاقة بين الفردية والجماعية في الأناركية هو ميخائيل باكونين (من أوائل الثوار الأناركيين ومؤسس الأناركية الجماعية)، فلقد رأى باكونين أن واجبات الفرد نحو المجتمع لا تكون إلا بمقدار قبوله الحر بأن يصبح جزءا من هذا المجتمع، إن تصوره للحرية الفردية المطلقة لا يعني إنكاره للواجبات الاجتماعية، "فأنا لست حرا إلا من خلال حرية الآخرين"، إذ "لا يحقق الإنسان فردانيته الحرة إلا إذا ما تحقق مع جميع الأفراد المحيطين به، بفضل العمل والقوة الجماعية التي يوفرها المجتمع". إن التعاون التشاركي فعل إرادي يعتبره باكونين محل "تفضيل الجميع"، لما له من ايجابيات هائلة، فالإنسان "حيوان فرداني واجتماعي في آن".
إن تعريف الفردانية الذي ترجمته كتبه صانع نظارات أناركي يدعى راؤول أودين، وهذا التعريف من ضمن تعريفات عديدة مكتوبة في الموسوعة الأناركية التي أسسها اﻷناركي الفرنسي سيباستيان فاور وشارك في كتابة الموسوعة العديد من الأناركيين من مختلف المجالات.
*
الفردانية
أحب حماقات القواميس، فضلا عن حبي لتحيزها وقصورها، لذلك قرأت معجم لاروس الصغير ومعجم لاروس الكبير بحثا عن تعريف لكلمة الفردانية. في كلا المعجمين وجدت مداخل كتبها نفس الكاتب: "نسق عازل للأفراد في المجتمع"، لكن المؤلف في المعجم الكبير توسع: "فلسفة اجتماعية. إخضاع مصالح الآخرين من أجل المصلحة الشخصية، أن تكون فرداني هو أن تعيش بأكبر قدر ممكن من أجل ذاتك". ولقد أضاف ملاحظات سطحية ليظهر للقراء أنه قرأ لسبينسر ونيتشه.
أولا، كل هذا يثبت مدى جهل بعض الناس الذين يسمح لهم بتدريس اللغة الفرنسية، بما أن هذا الكاتب (المجهول) لا يعرف أي مرادفات إطلاقا لتلك الكلمة، مما أدى إلى تعريفه للفردانية بمصطلح ينطبق على شكل معين من الأنانية، حيث أخذ الكلمة لأكثر أشكالها حرفية وسلبية وتحقيرا.
هذا يثبت أن بعض الرجال قادرون على قراءة أعمال فلسفية دون أن يفهموها. كل شيء ممكن. غير أننا نتعامل هنا مع سوء النية. وما سوء النية إلا عاقبة للغباء. وإن كلمة الفردانية ضحية لهما مثل كلمة الأناركية. يسئ الكتاب المأجورون بخربشاتهم الشريرة استخدام كلمة الفردانية ويرادفوها مع كلمة الأنانية، ويعطوا للفردانية تصور ضيق ومقيد وتافه للغاية.
سنحاول هنا أن نستعيد المعنى الحقيقي للكلمة.
إذا لم تشوه الكلمة، فالفردانية نسق يكون الفرد قاعدته وموضوعه وهدفه. استمع للفردانيين وسترى أن الأوجه الثلاثة للتعريف صحيحة. لذلك فإن الفردانية نظام يقوم أساسا على الفرد الذي يكون فيه الغاية والفاعل.
ولكي نفهم معنى الجملة أكثر هيا بنا نفكر في تلك العبارة "نحن نريد سعادة الإنسانية"، لكن الإنسانية ليست كيانا حقيقيا: إن الأفراد الذين تتكون منهم الإنسانية هم الكيانات الحقيقية، لذلك عندما أقول: أريد سعادة الإنسانية، فإنني أقول بشكل ضمني أني أريد سعادة الأفراد، ولذلك فإن الفرد هو غايتي. أقول الفرد ولا أقول نفسي أو ذاتي.
يمكن الرد على تلك الحجة بالقول أنه إذا نظرنا للعالم بتلك الطريقة فبالتالي كل الأنظمة تكون فردية، وهذا صحيح في حالة أن الفردانية ما هي إلا ذلك، لكن الفرد في الفردانية ليس فقط الهدف، بل الموضوع أيضا، لكن قبل أن نتعامل مع الفرد كموضوع، هيا بنا ننتهي من الفرد كهدف.
أؤمن أن كل ما يتعلق بالجماهير هو باطل وسطحي ووهمي، فإذا كنت خطيبا بارعا سيكون من السهل علي أن أقنع حشد من ثلاثة آلاف شخص أن يتبنوا آرائي، ولهتف هذا الحشد لي على قلب رجل واحد. في هذه اللحظة يمكنني أن أقنع ذلك الحشد بارتكاب أفعال هائلة، قد تكون أفعال بطولية أو أفعال بغيضة، لكنها لا يمكن لها أن تدوم، لأنه بمجرد أن تخبو الحماسة وتتفرق الجماهير، فلسوف يستعيد الأفراد سيطرتهم على ذواتهم أو يسيطر عليهم جبنهم، لذلك إن أردت أن أفعل شيء دائم فلا يمكن أن يكون الحشد هو هدفي، بل هدفي يجب أن يكون القلة من البشر ضمن هذا الحشد، الذين لديهم القدرة على أن يصبحوا أفرادا. هذا يعني أن الفردانية تنطبق على الأفراد الذين يعملون على اكتشاف أنفسهم وتحسينها.
هيا بنا ننتقل الآن إلى الفرد كفاعل أو كموضوع. فلا داعي للقول بعد ما سبق أن من يحقق أكبر قدر من السعادة والإمكانيات هي الحشود أو المجتمعات، بل الأفراد، حيث يسعى كل فرد بوعي كامل بإمكانياته ومسؤولياته لتحقيق السعادة للأفراد وليس للمجتمع بأسره.
يتضح إذا أن الهدف النهائي هو تحقيق سعادة الجميع عن طريق سعادة الأفراد.
لقراءة مدخل آخر من الموسوعة الأناركية، يرجى الإطلاع على مقال الهرطقة
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
رد واحد على “الموسوعة الأناركية: الفردانية”
👏👏👏👏👏