محمد أبو النجا: لحن الوالي (قصة)

2025-03-08 - Mohamed Aboelnaga

فقيرٌ، بل ومشرد، يبيت في التكايا، يعمل في دكان لتصنيع آلات العود مقابل لقمته، فهو خائب، شارد، لا تبلغ أجرته مرتبة النقود، يخطئ مقاسات العود

لحن الوالي

قصة لمحمد أبو النجا

نشرت ضمن متتالية "أغنية الوالي" الصادرة عن بيت الحكمة، 2024


عازف الماندولين للودفيج دوتش

إنه ملحن، وسوف يعزف على عود بلا أوتار.

وهو صاحب اللحن الأشهر في عصره، وقد وهبه الوالي قصرًا، يكاد يضاهي قصره، في مساحته وخيراته، مما أدهش الحرس والعبيد، تساءلوا: "من الساكن الجديد، الذي أخرج الوزير من قصره؟" وزَّع قائد الحرس الأفراد ليترك انطباع الكفاءة عند السيد الجديد، أرشق البوابة الرئيسية بالجنود الأشداء، ليكونوا خير واجهة. كان جعفر بن العدوي أحد هؤلاء، وأول من رأى صعلوكًا يشبك ذراعيه خلف ظهره مقتربًا من البوابة، زعق فيه يصرفه، بيد أن الآخر أهمله، وتابع السير حتى توقف أمامه. دفعه جعفر في كتفه: "ارحل عن هنا، قبل أن يأتيك سيد القصر". رد الصعلوك: "أنا سيد القصر". تفحصه الحرس بنظرات استنكارية، شاب هزيل حافٍ، يرتدي جلبابًا من الخيش. ابتسم وأظهر يمينه، الماسكة بآلة عود مؤكدًا: "أنا الملحن". تابع وهو يشير أمامه: "السيد الجديد لهذا القصر". هرول جعفر إلى قائده، الذي أتى مُرحبًا والابتسامة تصغر في وجهه، كلما كبر الصعلوك في عينيه، قال راميًا بذراعه: "تفضل يا سيدي". خرجت كلمته الأخيرة بنبرة تهكمية، كتم الحرس ضحكاتهم وفتحوا البوابة. وطأ الملحن العشب فشعر بالرطابة تمتص شقاء قدميه، تعلقت عيناه بالأرض الجديدة، ثم شبَّت على زقزقة عصافير، ركَّز بصره على عصفور "زيبرا" حتى اختفى بين الأغصان. هنا، فقط نظر حوله، فشهق من رحابة المكان ورفاهته، انكمش هيكله من كثرة الحرس والعبيد، ابتلع ريقه من رؤية الجاريات الجميلات. أما العيون المحيطة فقد تبادلت اللمز. تلفتت جارية صهباء بحثًا عن الأقل مرتبة، تمتمت بعدما رمت عمَّال الحمامات بنظرة ساخرة: "أبينكم من يعرف السيد الجديد؟"

إنه ملحن، وسوف يعزف على عود بلا أوتار.

وفقيرٌ، بل ومشرد، يبيت في التكايا، يعمل في دكان لتصنيع آلات العود مقابل لقمته، فهو خائب، شارد، لا تبلغ أجرته مرتبة النقود، يخطئ مقاسات العود، يخلط بين منطقتي "القرار" و "الجواب" في وجه الآلة، يتلقى طلبًا بصُنع عود للحفلات، فيصنع له ثلاث فتحات بدلًا من واحدة، ولكن، كانت لموهبتيه في التلحين والعزف، السبب وراء تمسُّك رب العمل به. فذات يوم، كان يمر في سوق الآلات الموسيقية، يطلب الصدقة وأحيانًا العمل، ولمَّا انتهى به سؤال الناس عبثًا، جرَّب المشاكسة. اختار دكانًا يفرش آلاته على الطريق، التقط عودًا وأخذ يمسحه بطرف جلبابه، وللحظة استهوته رنَّة الأوتار، سرقته رغبة طفولية للهو، تربَّع وراح يضرب، ميَّزت أذناه المرهفتان الأصوات المختلفة، جرت الأوتار بين أنامله المتسخة كأنها الماء، تطهرت روحه، اكتشف في نفسه شخصًا جديدًا، رآه في اقتراب فتاة تصغي إليه. فجأة، سمع لحنًا يدور في وجدانه، وكانت لسلاسة الأوتار بين أصابعه القدرة على ترجمته. أما صاحب الدكان، فكان يتناول فطوره بالداخل، عندما رفع عينيه على جمهور أمام عتبته، أدرك أن ناصيته هي مصدر الموسيقى المترامية منذ وقت، نفَّض يديه في جلبابه، هرول خارجًا ليتوقف أمام الملحن، يسأله باستنكار: "من أنت؟"

إنه ملحن، وسوف يعزف على عود بلا أوتار.

وكان له الفضل في تهافت الزبائن على الدكان، وإذا لم يعزف في تجربته الأولى لدرجة التفوق، فقد شهدت موهبته في التلحين قمتها منذ انفجارها، مما جمَّل الآلات في عيون الناس، وأقدموا على شرائها، وخلال شهر لحقها ببراعة العزف، بعدما أتقنه بالممارسة. انتهز صاحب الدكان فرصته الذهبية، عرض عليه تجربة الآلات الأخرى، ولكنه عجز عن العزف عليها، حتى الوترية منها، فرأى الرجل أن يخصص دكانه في العود، وشار عليه ملاكه أن يفيض على الملحن بالخير، ولكنه اتبع شيطانه، الذي أوصى بأُجرة الطعام، فلا يمتلئ فيغتر، ولا يجوع فيهجر. أما الملحن فقد رضا باللقم وتاق إلى الجمهور، ينتظره مع فتح الدكان ويطارده مع غلقه، يتنقل بين المقاهي والمراكب النيلية، حتى نصحه الناس بقصد دور المناسبات، فيزيد الجمهور ويملك النقود. غمرته الحماسة بعدما تخيَّل عيشة الشبع والمزاجية. ومن الخيال تعثر في الواقع، الذي رماه بعقبة، جاءت في عدم كفاية اللحن لصنع أغنية، مما يعوق من إحياء المناسبات، فما هو إلا..

ملحن، وسوف يعزف على عود بلا أوتار.

ولكن، كان هذا كافيًا لنيل رضا الوالي، والانضمام لسهرات الحاشية، التي حسبها ضربًا من ضروب الخيال، فلطالما استمد إلهامه من حكايات رواد المقاهي عن تلك السهرات، التي ظن زيفها، مع ذلك كان ينصت ابتغاء إلهامها، سمع عن جوارٍ لم يُرَ في سحرهن، فتصاعدت نغمة في رأسه اهتزت لها أصابعه على الأوتار، وعن شراب ولحوم وفاكهة رمت بألحان حسبها المستمعون من صنع الجن، غير الألحان المصنوعة من وصف الجنائن والمسابح ومفروشات ريش النعام والإوز، فمتى تضيق نفسه من حياة العدم يستدع جنته الموسيقية، ومثلما ترجمت الألحان حاجته وحرمانه نقلت أيضًا غضبه واحتجاجه، بعدما منعه صاحب الدكان من استعارة العود، بسبب سهراته التي تؤخره عن ميعاد الفتح. وعوضًا عن أحلام اليقظة بات يقضي لياليه شاردًا باستجلاب الذكريات؛ عائلته، بيته، دكانه، ثيابه النظيفة، وأخيرًا الجيش المعتدي الذي هاجم مدينته من جهة البحر، وأطاح بها، ولم يرسل الوالي جنديًا واحدًا للدفاع عنها. فجأة، نشبت في نفسه نغمة بصوت العصيان، اعتدل وتنحنح، فحزر الحضور خروجه بموهبة جديدة، ولتكن الغناء، ولكنه اكتفى بدندنة لحن ينبض بروح التمرد. ولتعويض إفلاس الكلمات راح يكرر اسم "الوالي"، ويقطِّعه حسب احتياج اللحن: "يا والي والي والي يا.. يا لا لي لا لي لا لي يا.. والي والي يا.. لا لي لا لي يا". مضت الليلة طربًا بحلاوة اللحن. صحا الملحن مرتاح الصدر، صحت صحبته بألسن تدندن لحن "الوالي"، بعدما استقر بأذنهم، راح يتنقل كالوباء بين الناس، حتى بلغ أمر الوالي، ابتهج الرجل على عرشه، فقد استعاد محبة الرعية ودعمهم، بعدما فقدها بضعف جيشه أمام الغزاة، نهض سائلا: "من ذا الذي صنع لحن الوالي؟"

إنه ملحن، وسوف يعزف على عود بلا أوتار.

ولكنه نجح فيما أخفقت الحاشية، فخسرت رضا الوالي، وأُضيف للوزير خسارة قصره. طاف الملحن ببصره فيما حوله من نِعم وهتف: "فليحيا الوالي"، تترَّف بالمسابح والحمَّامات الغنية بالزيوت والروائح الذكية، الجنائن وعصافير الزيبرا المحلقة، سرائر الريش وأرائكه، ثياب ونعال من أجود الأقمشة والجلود، ولكنه افتقر للسيادة، عصاه الحرس، اعتزلته النساء، المستولدات منهن والمحظيات، أهمله العبيد، حتى قضى احتياجاته بنفسه، تراجع عن الشكوى، خوفًا من التبجح والكشف عن الاستخفاف به، نتج عن استسلامه انكماش الخيرات التي قَنِعَ بها؛ جفَّت المسابح والحمَّامات، ذبلت الأشجار، ندرت العصافير، اتسخت المفروشات والثياب، انتشرت القمامة، حتى استسلم وخرج من البوابة منكسًا ممسكًا بالعود، قاصدًا ونس المقاهي. لحقه جعفر، إذ عرض عليه المساعدة. تساءل الملحن: كيف لجندي أن يسترجع سلطانه وهو السيد قد عجز عن ذلك؟ ثم رأى أنه لن يخسر أكثر مما كان، فوافق، رغم أن المحادثة كانت تتصف بالمساومة.

انتظر الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

مرَّت ساعات خطفت منه النوم، حتى ظهرت شمس اليوم التالي ومعها رسالة إلى قائد الحرس، وإذ بها أمر استجواب غادر القصر على إثره. غاب يومين انتشرت خلالهما الأسئلة بين الجنود، ثم بعدها جاء الخبر بسجنه، مما أثار الاستغراب وأزاد من الأسئلة. رجع جعفر للملحن بابتسامة انتصار، يبشره ويطلب المكافأة، ولكن الملحن كغيره لم يفهم، ولم ير الفائدة. هنا، اختار جعفر أن يعطيه الحكمة من حبس قائد الحرس، بأن يشغل منصبه. طلب هذا بنبرة غلب عليها الأمر، خال للملحن أنه فهم مرماه، فهذه ستكون مكافأته، وأما البُشرى باسترجاع السُلطان فقد تجيء معه بعدما تغيرت النوايا بتغير الرجل، فقال: "لك هذا". لمعت عينا جعفر وجمدت ملامحه في صرامة لم تعد تليق بثوب جندي.

ذُهِلَ الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

فقد توزَّع الحرس على النواحي، بجَّلوه، مارسوا الحزم والقسوة على العبيد، فامتلأت المسابح والحمامات، رُوَت الجنائن فزهر النبات، عادت زقزقة العصافير، غُسِلَت المفارش، نُظِّفَت الأتربة، تفجرت روائح الأبخرة والمنظفات، برقت عيون الجواري بسيد القصر، تسابقن على راحته وإشباعه. وظلت الصهباء هي الأقرب لفؤاده، ليس فقط لسحرها الأنثوي، بل ودهائها المتسلل العابث بمشاعره، فقد رمت بجميع ألاعيبها الشهوانية، مجربة فيما سيفلح في تعرية وجدانه، حتى أدركت ملامح نزعته، ثم ألقت به في ساحة الترويض، لتستمد من سلطته ما يشبعها من جاهٍ وخيرات. هذا ما أقلق القائد جعفر بن العدوي، فلم يبق غير جنوده ليأتمروا بأمرها، بعدما صار الملحن كالقط المُتمسِّح في صاحبته، فشعر إنها تصرف من خيراته هو لا الملحن. تفكَّر، رأى أن ينوره، فذهب إليه يسأله: أتعرف كيف تخلصتُ من قائد الحرس السابق؟

استفهم الملحن، والذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

فسَّر جعفر: "لقد وصل للوالي سخرية القائد من لحن الوالي". سأل الملحن: "وهل فعلها؟" ابتسم جعفر لؤمًا. فطن الملحن مغزى ابتسامته فقهقه. وجد جعفر جدوى ما يلقيه فألقى سؤالًا يلخص تمهيدًا طويلًا، بل وألحق به جوابًا أعفاه من تلميح، كان قد توجس عُقباه: "أتعرف من أبلغ الوالي بذلك؟ الصهباء". انتفض الملحن مصدومًا في حقيقة جاريته المقربة، اتضح أنها عين الوالي في قصره، لا عينه الحنونة، أدرك سذاجته، استشاط صدره بالثأر، انتزع عقله من غياهب القلب، أمر بالتخلص منها. برقت عينا جعفر بالفوز، سكنته الطمأنينة بعدما تأكد له امتلاك زمام السيد، بقي له أن ينفذ، راح يزرع لها الفخاخ، مع أخذ الحيطة في تغفيل الوالي، ولكن، قبل انقضاء الأسبوع، تقدمت الصهباء خطوة، قهقرت مخططه ونفوذه أميالًا للخلف، لقد أتت الجارية ببُشرى حملها، راح بطنها يكبر، ويكبر معه نفوذها.

أما الملحن، والذي سوف يعزف على عود بلا أوتار، فلخَّص متع الدنيا في النظر إلى بطون الجواري، مترقبًا انتفاخها واحدة تلو الأخرى، لتأتيه بذُرية تحمل اسمه، تكون له العزوة والعوض، مهملًا تسلط جاريته الصهباء، احتقارها الدفين له، فلم تحرِّضها نفسها لمراوغة سيد القصر السابق، بل آمنت بحقه في السيادة، لِمَا يملكه من مرتبة وإجلال، حتى ولو كان جائرًا. وافقت الجواري رأيها، بيد أنهن أقل سخطًا، وأكثر خوفًا من بطش الحرس، خاصة وقد أدركن كم هي تكايد للسيد الجديد، وتسعى للاستبداد بالقصر، وها هو القدر يدفع بخطتها، تصرخ من طلق الولادة، تهرع النساء لمساعدتها، ثم تأتي مولودة، تحملها أيادٍ ناعمة، تُدثَر بالرَّياش.

يهلل الملحن، والذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

لقد ذاق نعمة الأبوة، ويتشوق للمزيد، يعجِّل الزمن في سداد الذرية، ليتمرغ في زينة البنين، فيمارس الزمن عليه عذاب البطء، يحرق قلبه ويتركه بعلامات اليأس، فقد مرَّت سبع سنوات ولم تحمل منه سوى جارية، ولم تلد له إلا واحدة، يتساءل، يعجز، يستشير، يدعو. أخيرًا، استطاع أن يُخلَّص روحه من شقاء الانتظار، بأن يضيِّق سلطانه في دائرة ابنته، فأينما تكون يكون، أيَّما تشاء يشاء، فصغرت دائرته بصغر ابنته، مما ترتب عليه استفحال سلطة الصهباء لشغل الفراغ المتروك، فتحكمت في الأنفاس والأشياء، عادت ترى السيد كما جاء أول يوم؛ ملحن، وسوف يعزف على عود بلا أوتار.

ذا صباح كان الحرس يتشاورون في كيفية إرضاء الصهباء، بعد تأخرهم في تلبية إحدى طلباتها، وبينما يتبادلون الاتهامات والحجج، خرجت من باب القصر صبية ترتدي الحرير، همسوا فيما بينهم، ليس بمدح جمالها، بل حول غرابة ما حجبت به عينيها، كانت تعقد قماشة سوداء؛ تشف الرؤية وتفقدها الألوان والتفاصيل، جرت بين الأشجار مستمتعة، تعثرت كثيرًا، حتى جاءتها الجاريات، لعبن معها "الغميضة"، ولكن، الغريب إنها كلما أمسكت بواحدة تظل هي المغمضة، ثم ترجع لدورها داخل الدائرة، للإمساك بواحدة من جديد، هل وُضِعَت قواعد جديدة للعبة؟ ما الفائدة من إخفاق الفائزة؟ أين المتعة والشغف في ذلك؟ تمر الأيام والأشهر، وينبّه الحرس بعضهم البعض بأوان اللعبة: "ها قد بدأت الغميضة". حتى تطور النداء إلى: "ها قد جاءت غميضة"، إشارة إلى الصبية، التي فقدت طفولتها مع السنوات ولم تفقد حجاب عينيها. تفشى السؤال في معرفة السبب، وكانت الإجابة ملكًا لرجل واحد؛ الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

والذي أخفى عيني ابنته غيرة من الرجال، وخشية حسد النساء، بعدما اعتقد فيها فلتة زمنها، بسبب بؤبؤ عينها العمودي، كعيون القطط. أما الصهباء فقد تهاونت في حق ابنتها مقابل انشغال السيد عن هيمنتها، وانتهت بغميضة الشكوى أن اقترحت على أبيها، عكس ساعات نومها. سمح هو بذلك، طالما ستكون مصونة في ظل العيون الناعسة، وبُعد مرمى أعين حرس البوابة اليقظة. عند عتمة الليل فتحت الباب، أظهرت عينيها للمرة الأولى خارج غرفتها، وقد حسبت الانطلاق واللهو والتمرغ، ولكنها باتت ليلتها تتحسس وتتعثر حتى طلع الفجر، ركضت إلى غرفتها، ولم تكرر تجربتها مفضِّلةً غمامتها، مانعة الألوان والتفاصيل، عن أشباح الظلمة التي صاحبتها طوال الليلة، فضلًا عن مرارة الوحدة. خذلها الليل، كبتها النهار، صارت تقضي ساعاتها في انزواء وبكاء.

احتار الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

ذات صباح وقف في الشرفة يتساءل حول أزمته مع غميضة، فقد ضاقت دنياه بضيقها. أيفرج عن عينيها ويعيش بخوفه عليها، أم يتمسك بغمامتها ويتعس بتعاستها؟ وإذ بحارس يمر من أسفل نافذته وهو يدندن نغمة مألوفة على أذنيه، بل إنها نغمته الجديدة. تساءل: أين سمعها الحارس، والإلهام يجازيه بألحان جديدة فقط، في سهراته مع الجواري؟ وقتها يسترد شخصه الأول؛ الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

ويخرج من عوده ألحانًا تعبر عن نشوته وابتهاجه، تتراقص الجاريات، تدندن من بعده. إذن، الخيانة بيِّنة؛ ثار وحطَّم، فرَّت الجاريات اتقاءً لشره. نادى جعفر، أمره بالتحقيق مع الحارس، ليعترف باسم الجارية التي أفشت سر فِراشه، ولكنه فشل في استنطاقه، رغم الحبس والتعذيب، فأرشق الجواري بأسهم الشك، ثم راحت المخيلة تنغصه بمشاهد تضع نسائه على أسِرَّة الحرس. راوغها، قاومها، التقط الأعذار لإيجاد سوء الفهم، بيد أنها غلبته في النهاية، ودفعته لبيع المحظيات، وأبقى على الصهباء إكرامًا لابنته، واحتراسًا من نفوذها المستفحل، الذي قد يصل بها الآن لمراسلة الوالي نفسه، فهي ماكرة، متسلقة، وحينها قد يكون مصيره السجن، أخذ يتجنبها ويعاند غضبه، ولكن، كيف يخمد ناره في وجود الحرس، وهم ضباع تستبيح حُرمته؟ فأصبح يصطحب غميضة إلى الجنائن، يراقبها، يشاركها اللهو، وبتوالي الأيام اضطر أن يقسو عليها بقرار، لزم اتخاذه في ظل العيون المترصدة، ألا وهو منعها من الخروج، ليقيها النظرات المترقبة، في كل سقطة، قد تعري من جسدها، فثارت وكسرت وبكت وامتنعت عن الكلام، فالقرار يطيح بالنسيم وروائح الزهور وأصوات الطيور وملمس العُشب.

تساءل الملحن، والذي سوف يعزف على عود بلا أوتار: كيف يجد لابنته بديلًا؟ رأى أن يأمر بإزالة الأثاث من ساحة القصر، وإدخال ما أمكن من أصائص الزرع وبعض الحيوانات الأليفة، ليصنع من ساحة القصر بيئةً تحاكي طبيعة الجنائن، ثم منع الحرس من الدخول نهائيًا، ووصلت محاولاته عن تعويضها أن يشاركها الحديث واللهو طيلة اليوم، ليسد ما تركته الجاريات من فراغ، ولكنها، ظلَّت مجرد محاولات، فالمسايرة شاقت عليه، لذلك كان يخطف النوم من الوقت، معترفًا بأن الزمن قد تمكن من بدنه. ذات مرة، فاق على الغمامة ملقاة بجواره، قفز واقفًا، يبحث عن غميضة التي اختفت من حوله، نادى عليها، خرج العبيد يساعدونه في البحث، هام مذعورًا في الجنائن، عندما نفى الحرس رؤيتها. عند الغروب صعد غرفتها متمنيًا العثور على رسالة منها تدل على مصيرها، فتح الباب ففاجأته غميضة بصرخة ارتعش على إثرها. قهقهت. انزعج الملحن بقدر سعادته في العثور عليها، لقد توجَّس هروبها من القصر، استبعد وجودها في غرفتها. لم يعاتبها على لعبتها السخيفة، بل سألها: هل لمحك أحدهم دون غمامة؟ أجابت غميضة: ولكنني لم أخلعها، وأشارت له بأخرى، مع ذلك لم يطمئن فؤاده، وتخيَّل العبيد وهم يصفون لبعضهم سحر عينيها، فأوقع عليها العقاب بحبسها في غرفتها. تضرِب غميضة عن الطعام، ويرق قلبه فيتراجع عن القرار، لكنها تعند وتبقى على العقاب. يتودد لها بالهدايا، ولا زالت تتمسك بطلب واحد لتأكل، وهو رؤية أمها، فلم تسمع لها صوتًا منذ أيام.

 ارتبك الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

أدرك الخطأ في عُزلتها، فاللهو كان يلهيها عن افتقاد أمها، يأخذ من طاقتها، فتتكاسل عن قطع أشواط القصر لرؤيتها، أشفق عليها فمهَّد للخبر المؤسف، وهو اختفاء أمها، صرخت غميضة فعانقها، أكد أنه قدَّم ما بوسعه للعثور عليها، حتى أنه أرسل الحرس إلى المدينة لاستكمال البحث، بعدما مسحوا القصر بحثًا عنها. يتركها بوعد الإتيان بها سليمة، يذهب لمتابعة المستجدات، يجتمع بالحرس، يشدد ويوبخ. أخيرًا، يترك لهم فرصة نهارًا وليلة للعثور عليها، وإلا السجن مصيرهم، فمصيرها الآن متعلقٌ بمصير ابنته. ثم يطلب الانفراد بجعفر، يصحبه داخل القصر، يسيران داخل دهاليز متفرعة، حتى يتوقفا أمام باب حديدي، يفتحه جعفر ويدخلان، وإذ بالصهباء حبيسة، وعلامات التعذيب متناثرة بأنحاء جسدها.

صدق الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

فقد طالب الصهباء باسم الجارية الخائنة فنفت، اتهمها فتبرأت، حذَّرها فسخرت، وها قد فعلها. مال وسألها: "بعد كل ما فعلتُه بكِ، ألا زلتِ عند كلمتكِ؟" هزت رأسها بالإيجاب. توجه لجعفر بالحديث: "إما أنك لا تملك ما يكفي من أساليب التعذيب لإخراج الاعتراف، وإما هناك إجابة أخرى غائبة عني". خرج وجمع العبيد والحرس، ثم ظهر من خلفه جعفر يمسك بالصهباء، فتأوَّه الحضور عجبًا واستفهامًا حول هيئتها المشوهة، ومكان العثور عليها. صاح الملحن: "ممنوع على هذه المرأة دخول القصر، ألقوا بها إلى الشارع، فلن يشتريها نخَّاس على حالتها المزرية". وبينما يطردها الحرس أخذت الصهباء تتوعده بالثأر وشكواه عند الوالي. اندهش العيان من استخفافه، فهُم يدركون حجم نفوذها، إنهم يشهدون الآن سيدًا جديدًا، انتفخ بالقوة والتحدي.

أين الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار؟

مرت أيام وهُم في سيرة الحدث، وسؤال ما سيثمر عنه، سرعان ما اعتراهم التهكم من سيدهم، ومن لحظة انتفاخه الكاذبة، التي انتهت بأن أمر الحرس بالبحث عنها. كان للصهباء كل الحق في الرجوع متبخترة، وعلى استعداد لإعلان شروطها، التي ستزيدها سلطانًا، ولكن الملحن أدهش الجميع، أكد على سماته الجديدة، إذ منع عليها دخول القصر والتوقف عند البوابة، فلم يطلبها للعفو، بل لإسناد مهمة إليها. نادى فأتاه جعفر بغميضة، التي عانقت أمها بحرارة، ودعتها للدخول، فأوقفهما الملحن، معلنًا إضافة غميضة إلى قائمة المنع من دخول القصر، ثم أعطى للصهباء المال لرعايتها.

يتذكر الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار، مشهد غميضة وهي تُطرَد من القصر، تضيق فتحة الباب عليها، للمرة الأولى لها بالخارج، تنزع غمامتها، تلتفت لتلحق نِعم القصر بنظرة، ولكن بصرها يصطدم بالباب. يشتاق الملحن، يتسلل الندم إلى نفسه، فتعارضه ذكرى تنصُّته على حديث الطباخين، ليلتها قال أحدهم: "سيدنا يفعل ذلك مع ابنته لأنها وحيدة، أنا أيضا مارستُ أفعالًا مشابهة بابنتي الكبرى، حتى رزقني الله بخمسٍ بعدها، فتوزَّع اهتمامي بينهن". تساءل الملحن: لماذا لم تنجب إلا جارية واحدة، ومرة واحدة؟ لقد امتلك من الجاريات عشرين، كيف أخفق القدر مع عددهن الكبير؟ استغرب تأخر السؤال، هل كان لغفلة؟ لانشغاله بنعيم الأبوة؟ سبب يجهله في نفسه دفعه للتهرب المستمر منه؟ وعند الفجر أنار عقله بالإجابة المنطقية: إنه عقيم، لقد حملت الصهباء من غيره لتحكم القصر.

عانى الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

تفكَّر، ثم خرج بفكرة غريبة، إذ أمر الحرس باصطياد عصافير الجنائن، نصبوا الفخاخ، اِختبأوا في ترقب، رجعوا بأكبر قدر منها محبوسة في أقفاص. عاد يأمرهم بشراء أقفاص إضافية تضاهي عددها الكبير، فخمَّنوا أن طلب سيدهم لغاية في تزين القصر، أو إشباع رغبة التملك في نفسه، ولكن السبب الحقيقي كان بعيدًا عن كل الظنون.

خفاه الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار، حفاظًا على هيبته، مناصًا من القيل والقال، وكيف يبوح بآلام الوحدة والفقد، وهو مَن ثار وباع وطرد؟ نغصه شعور العجز عن شراء جوارٍ في حضرة الحرس، الذين أقلقوه، حتى صاروا نقمة تخيِّم على النعم، وتحرمه من الاستبداد بها، ومن ناحية أخرى فقد جَهَل الرائي ما يكنه من سخط في ظل هدوئه، لذلك فقد تفاجأ الجميع بلحظة هبوبه وانتهائه بطرد الحرس إلى الجنائن، دون جعفر بن العدوي. بهذا الاستثناء، خالف الملحن طبيعته المستجدة في الاستخفاف بالمقامات وسوء الظن في الجميع، يبدو أن القدر يدعم تلك الطبيعة، فقد قبضت الشرطة على سارق، أثناء بيعه مسروقات من القصر، اتضح أنه عبدٌ لديه، هاج من نغزة الغدر، طاله الخوف في فراشه، بات ليلته محتارًا، حتى استلمه الشروق بقرار عودة الحرس إلى القصر، بل أزادهم بصلاحيات، مكَّنتهم من مراقبة العبيد والتدخل في شؤونهم، سرعان ما تطور بهم الأمر للإتيان بأفكار تضيِّق من فرص السرقة، فأمروا العبيد بجرد محتويات القصر، ولا يكاد ينتهون منه حتى يعيدوه، منعوا عنهم الاقتراب من الأشجار المثمرة، فتشوهم عند الدخول والخروج، وصل بهم التجبر حد التنكيل على أتفه الأمور.

اطمأن الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

خطفته مراقبة الأمور الأخيرة عن كربه بعض الوقت، بيد أن هواجسه نحو الحرس زادت، إنهم يقصدونه بلمزهم، يشعرون بقوتهم مقابل خوفه، يتذكر أيامه في شوارع المدينة، ينشرح فؤاده، يرى الملاذ في صحبة المقاهي، يتخيَّل وجوه بعينها في استقباله، يخرج من باب القصر للمرة الأولى منذ دخوله، يرفض مصاحبة الحرس له، إذ غلبه العناد لاستعراض قوته في غيابهم.

رجع الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار، إلى الشوارع، مشى هذه المرة بأفخم الثياب، خرج الباعة مرحبين، يعرضون أجود بضائعهم، بعكس ما كان من دفع وشتيمة، طارده الشحاذون والأطفال، ضاق الزحام وتعسر الطريق، أزعجته حالة العبث والهمجية، امتلأ بصره بالقبح والقذارة، أدهشه ضيق المقاهي ووسخها وجلبتها، شعر بالغربة والنفور، كره الوجوه، شعر بالأنظار تحيطه، تراقبه، تتبعه، إنها طافحة بالجشع والطمع، تخبطت به الأبدان، دس يديه في جيبيه خوفًا من السرقة، هرول، ركض حتى القصر، استرجع شعور الأمان باندساسه بين الحرس، أفسح لبصره الرحاب للتمادي، ارتمى مستريحًا على العشب.

اعترف الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار، أن لا سُلطان دون حرس، ولكن، لا من زواج أيضًا في وجودهم، فلا بد من دفع هذه الضريبة، طالما ناشد السلام، ومع دفعها سوف يعايش الوحدة، وشعور النقص والضعف في عيون المتربصين، طالما لن يكون له وريث. تقاسم مع جعفر وقته، فائزًا بالصداقة من بين علاقات أخرى مفقودة، واختياره لشغل هذه المكانة رجع لليلة التي أفضى فيها جعفر بما في نفسه: "أتعلم يا سيدي، أنت تذكرني بشاب رقيق مخلص، سُجِنَ في سجن الجزيرة، كان شاعرًا، ولقبه الشاعر، وكنتُ سجَّانه، جمعتنا الصداقة، وفرقنا الموت، أو بالأدق فرقتنا نذالتي، فلقد فررتُ من الغزو وتركته حبيسًا، فريسة للجوع، من يومها وأنا أعيش مع ذنبي، ومنذ خدمتي في قصرك، أرى فيك العوض عنه، أنت صديقي". 

تأثر الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

تذكر محاولات جعفر لمساعدته في كل عقبة قابلته، شعر بالرضا على قرار رفعه لدرجة قائد الحرس، ردًا للجميل، لا مساومة كما حسب منذ سنوات، وسوف تؤهله تلك المرتبة لما هو أعلى وأصلح، لعله يبلغ قصر الوالي، أو أقلها يرجع إلى السجن قائدًا لا حارسًا، ولكنه سوف يتمسك بصديقه، فلولاه لمرت الأيام ثقيلة. ويومًا، جلس يراجعه في نتائج الجرد، فانتبه لأمر خطير، إذ لاحظ أن محتويات القصر لم تنقص قط، إلا يوم سرقة العبد، ربطَ تلك المرة بطرد الحرس إلى الجنائن، تساءل في نفسه: ماذا لو أنها مكيدة من جعفر لأتراجع في طرد جنوده؟ فما بلغه من مكانة عندي يجعله المستفيد الوحيد، لقد أراد تخويفي، وتعزيز أهميته.

انسحب الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار، من الجنائن، ظل حبيس القصر شهرًا، يغادر أريكته للضرورات، يلتفت لكل صوت، يراقب ظلال الحرس خلف الزجاج والستائر، تتزايد شكوكه مع تتابع الأيام: الحرس جنود جعفر، شركاؤه في المطامع. دفع الأريكة بالقرب من غرف العبيد، أملًا في الاحتماء بهم وقت الخطر، ولكن، هل كان العبد السارق ضحية، أم متآمرًا؟ وعند ذلك أرجع الأريكة إلى منتصف ساحة القصر وألصقها بجدار، لتنحصر دائرة المراقبة، ظل مرتاعًا، مفتقرًا للراحة، قرر الانسحاب إلى الطابق العلوي، ومنه إلى الغرفة، التي ضيَّقها عليه الخوف، فلقد يسَّر عليهم صيده. صعد إلى السطح ليطلق المخاوف في براحه، وقد نجح ولكن لساعات، فاستعان بالعود في طردها، شرع يعزف ألحانًا قديمة، بيد أن نغمات جديدة أخذت تناطح قديمه، كثيرًا ما حاول قمعها، لأنها تطارده بترجمة مشاعر، كابد في الهروب منها، الوحدة، التوجس، الافتقاد. كان يغتاظ ويقطع الأوتار، ثم ينادي بشراء أخرى، يكرر محاولاته، فيقطع وينادي بجديدة، حتى حطَّم الآلة على الأرض، خذله العود، غلبه الإلهام، هكذا حال الموهبة مع الفنان، هي وسيلته في النصر، وقدره في الهزيمة. 

وجدها الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

أشار على ركن من السطح، أمر بإحضار أقفاص العصافير ورصَّها فوق بعضها، ليصنع منها جدارين، ثم وضعهما في صفين متوازيين، وتربع بينهما. عصفت ضجة الزقزقة بهواجسه، ابتسم بعد نجاح فكرته، التي آتته من العصافير المعششة على الشجرة الضخمة، الرامية بأغصانها على حرف السطح، ولكنه ضاق انتظار رجوعها يوميًا عند الغروب، فأمر بصيدها وحبسها، وكلما استكانت العصافير ماجت نفسه بالبلايا، فيهز الأقفاص لتهيج من جديد. هكذا وجد السلام في ضوضائها، ولكن، كان لصعود العبيد والحرس ما عكَّر خلوته، فأعاد تشكيل الأقفاص في أربعة جدران تحيطه، وتعوق من اقترابهم، ليحدِّثهم عبر العصافير الحبيسة. كان يدفع عمودًا من الأقفاص، يستلم غذاءه من وراء فراغه، أو الخروج لقضاء حاجته. وفي مرة لمح نصلًا يلمع بحوزة عبد، تراجع ذعرًا، فرفع الآخر يده بملعقة، هنا أدرك الملحن أنه صار مُسختهم، وفقد مكانته ومكانه بينهم، فأمر بنقل فراشه وأغراضه الضرورية إلى السطح، ليصنع في النهاية غرفة جدرانها من أقفاص العصافير، التي ربطها ببعضها، ثم اختار قفصًا، فتح له بابًا مقابلًا لبابه الخارجي، ليُدْخِل العبد الأطباق من ناحية، ويستلمها هو من الأخرى، فانتهى به الحال منفصلًا بحدوده عنهم.

أيكتفي الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار؟

لا، فكلما زاد في تأمين نفسه زادت مخاوفه، وزادت معها حاجته للتأمين. يحين وقت إطعام العصافير، يفتح العبد أبواب الأقفاص، وهو يدور حول الغرفة، تدخل قبضته المغلقة، أحيانًا تصطدم بجدار القفص، قبل أن تفرغ الحبوب، تتراءى قريبة في عين الملحن، لحد إمساكها بعنقه، فأمر بإغلاق أبواب الأقفاص، بل لحمها، على أن تُنثَر الحبوب والمياه من الخارج، ليصل ما يصل، ويبدد ما يبدد، مما أدى إلى موت بعض العصافير جوعى، وبعد أيام انحل ريشها من أجسامها المتحللة، وانتشرت بعيدًا في الهواء. انخفض الزعيق من المناقير الجائعة، وانخفضت عناية الملحن به، فمع مُضي الأيام صار يزعجه، ويتمنى التخلص منه أحيانًا، وتزيد الأحيان وتمدد وتلتئم، حتى غطت ساعات اليوم كاملة، دفعته رغبة في الهدوء بتجويع العصافير لحد قتلها، فغلبته نزعة للرحمة، سعد بها راضيًا عن شخصه. وفي صباح صعد حارس، وأثناء مروره تعثَّر فاهتزت الأقفاص إثر استناده عليها، هلع الملحن، قلق من ضعف حصنه، فأمر بتعبئة الأقفاص بالجبس، لتقوية جدرانه. جلس يراقب العبيد وهم يسكبون الجبس، أثناء محاولات العصافير في التخلص من أقفاصها، وتساقط زعيقها تباعًا حتى حلّق الصمت باكتمال حوائط الجبس، وقبل اختفاء آخر عصفور واقع بينه وبين وجه العبد، صاح الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار:

"لكل إنجازٍ ضحاياه". هدأت سريرته لوقع كلماته، نَعِم بالسكون والقوة، اقتصرت صورة العبيد في كفوفهم، وهم يضعون صواني الطعام على رأس الحائط، وصوتهم حين ينادون عليه لإنزال دلو الفضلات. فقبل اكتمال حصنه، طوَّق قفصًا بالأخشاب، لمنع الجبس من سده، ثم خلعه ليخلَّف نافذة، تطل على الجنائن ويسقط من خلالها الدلو لتنظيفه، وسحْبه من جديد. وفي نهار ساق الفضول عبدًا للتلصص على عيشة السيد، ليسلب حكاية تثريه في جلسات التسامر، وقف على مقعد، ارتفع بطيئًا. كان الملحن مستلقيًا على فراشه، يحتضن آلته، عندما فتح عينيه على رأس ينخفض وراء الجدار، قفز صائحا: "يريدون النيل مني.. يطمعون في سُلطاني". نادى على الحرس ليحجبوا سماءه، فقد اعتقد أن تسلل العبد كان لغرض رشقه بخنجر. انبسط على فراشه في وداع للشمس، فنافذته المتبقية تسدها أغصان الشجرة، وأصبحت معبره لإدخال الطعام كما هي لإخراج الفضلات. كانت للعتمة دور كبير في زيادة ساعات نومه، فضلًا عن حساسية أذنيه للأصوات. ذات مرة سمع هسهسة، نطَّ في زاوية من الغرفة ممسكًا بآلته، منذرًا بالشر لمن يختبئ أسفل فراشه، رمى بتفاحة فخرجت من الجانب الآخر، أشعل شمعة وتفقد، ساورته الهواجس مع أنه شهد خلاء المكان، رمى الأغراض، خلع أجزاء السرير، راكمها في زاوية، شقَّ الحَشايا بسكين الأكل، نبش بين ريش النعام كقط يبحث بين القمامة، وأخيرًا استلقى على الريش، الذي غطَّى أرض الغرفة كاملة.

احتاط الملحن، الذي سوف يعزف على عود بلا أوتار.

فالحرب تبيح كل شيء، وقد يغدرون في لحظة. أغلق ثغرات الجدران، أحكم ربطات السقف، فكَّر في سد نافذته، ولكنها معبر الفضلات والطعام، اتسعت عيناه تنبُّهًا، فلهذا السبب وجب عليه سدَّها، فقد يدسُّون السُم في أكله وشرابه، التفت إلى الأطباق فألقاها، ثم وضع إصبعيه في حلقه وتقيَّأ، مما عجَّل من شعور الجوع، اهتز الحبل معلنًا عن وجبة العشاء، طلَّ بملامح معادية، أعلم العبيد بامتناعه عن طعامهم، قبل أن يصرفهم، رأى في الحبل الممدود وسيلة للتسلق فجذبه، والأغصان معبرًا لاختراق حصنه فقطع المترامي، وانتهى بسد نافذته بالعود معلقًا. أشرقت شمسٌ جديدة، قدَّرها في قرصة الجوع، إنْ صبر على حالته هلك، وإن رجع في قراره قُتِل. تسللت رائحة أوراق الشجرة المبتورة إلى أنفه، يتذكر لجوء الطباخين إليها في صنع الحساء، يذوقها، ثم يفتح النافذة ويغيّر النكهة بتجريب ثمارها الغريبة عليه، يبتسم إعجابًا بمذاقها، ومثابرته، ولكن، ماذا عن الماء؟

عطش الملحن، العازف على عود بلا أوتار.

ولم تُغنه الأوراق الرفيعة، أو الثمار الجامدة عن الماء، تستسلم قواه للصداع والغثيان والقيء، وما زالت نزعة الاحتراس في عافيتها. يرتفع رأسه لوقع أقدام تدنو من مكانه، ينادي متسائلًا، فتهرب الخطوات، ينهض متوجعًا من مفاصله، يكرر نداءه، يغضب ويضرب على الجدار، يزيح العود، يُطل مناديًا، يأتيه بعض العبيد والحرس، يسأل بصوت مشروخ: "من ذا الذي صعد منكم السطح؟" ينفون: "الجميع بالأسفل يا سيدنا". يلمح دلو ماء في يد عبد، يسأله عن صلاحية الماء للشرب، ينازع احترازه، يأمر العبد بشرْبَة ليطمئن قلبه، يسحب الدلو بالحبل، ينتعش جسده بالشرب، ولا يهدأ عقله، فالغموض لا يزال يحيط بحصنه، يمسك سكينًا ويصنع في الجدار ثغرة، يطلق عليها "عين القطة"، لتكون عينه على الخارج، تمر أيام دون عودة المتسلل، تدور حياته من جديد بين أكل الورق والثمار، شرب الماء بعد اختبار حامله، إلقاء الفضلات من النافذة. وفي ليلة قمرية، ظهر ظلٌ على السطح، راح يقترب من الغرفة، تلصص عبر "عين القطة"، انفتحت العين المتلصصة في ذهول وتساؤل مما تراه:

كيف للملحن، أن يعزف على عود بلا أوتار؟

لقد مسح على صندوق العود برفق ومحبة، ثم احتضنه وراح يضرب بأصابعه على اللا شيء، في حين تهتز رأسه انسجامًا. ولمَّا انتهى شبك يديه أعلى الآلة، زفر نفسًا ثقيلًا، ابتسم راضيًا. لقد مزَّق الزمن الأوتار تباعًا، تعذر على الملحن طلب أوتارًا جديدة من خصومه، ولكن، مشهد استمتاعه وتمايله أثناء العزف، لا يدل على أزمة، مع آلة صوتها الصمت. فجأة، رفع بصره نحو الثغرة، فلمح عينًا تختفي من عليها، نهض صائحًا: "سأعرفك يومًا، ولن أرحمك". ويومًا كان يسحب دلو الماء، فسمع وقع الأقدام، أسرع وترك الدلو أسفل النافذة، ثم جاوره ليراقب الثغرة، مرَّ وقتٌ قاوم خلاله النوم، حتى غلبته غفوة، استيقظ منها هلعًا، تفقد السطح عبر الثغرة، كان خاليًا، غمغم بالشتائم ناقمًا في تفويت هكذا فرصة، التفت فاكتشف سهوه عن غلق النافذة، همَّ لوضع الآلة فوجد عصفورًا ميتًا على الحافة، أمسكه وإذ به مبللٌ، رمى دلو الماء بنظرة، وتخشب هنيهة يتدبر الأمر، لقد مات العصفور مسمومًا، عوضًا عنه، ولكن كيف وقد امتحن العبد في شرْبَة؟ يبدو أن جعفر يضحي برجاله في سبيل غايته. ينادي على العبد، يحتار: العبد في كامل عافيته! يصرفه ليصارع أسئلته وحده، تعصف به، تحطمه، تلقيه عند النافذة، منتهيًا بقرارٍ خطير، ولكنه سيخمد ناره.

استدعى الملحن، العازف على عود بلا أوتار، الحرس، وعلى رأسهم قائدهم، توقف لحظات يتأمل جعفر بن العدوي: لقد شاب الرجل، لحد تيه البصر في تحديده وسط رجاله. ونغزه حنين نحوه: ما أكره أن يحب المرء عدوه! استجمع جوارحه، فالوضع الحالي لا يحتمل تهاونًا، ولكل سُلطان ضحاياه، قال في حزم: "اسمع يا جعفر، فلتُخْلِ القصر من رجالك، وتسلِّموا أنفسكم بين يدي الوالي".

إنه ملحن، ويعزف على عود بلا أوتار،

ولكنه، جهل عواقب القرار. تصوَّر اقتصاره على الخسارة العاطفية، فحصد خراب السُلطان، الذي بدأ بفرار العبيد، مع فرصة انفتاح الأبواب وغياب الرقابة، لقد غرَّتهم لذة الفوضى والإباحة، فهجّوا في شتات، بعدما سرقوا ما سعت له أيديهم. بات الملحن مذعورًا من جلبة مبهمة، نادى فلم يُلبَ، واستسلم لقدر الانتظار، فجنى الهدوء أخيرًا، بيد أنه اضطر لاختراقه، طلَّ من النافذة يطلب الماء، أتاه الهدوء هذه المرة في هيئة نقمة، شعر أن عليه الإمساك بما تبقى من ماء، فالوضع يزيد القلق ويدعو للتمسك بالحصن. مرَّت ساعات قبل أن تنفجر ضوضاء جديدة، بُثَّت في البداية من ناحية البوابة الرئيسية، سرعان ما تناثرت، مدَّ الملحن ما استطاع من رأسه فلم يتبيَّن، عقد الحبل بالأغصان، سحبها حتى تركت مجالًا للاستكشاف، رأى أعدادًا كبيرة من الرعاع تهجم على القصر، صاح فزعًا: "اللصوص تستولى على سُلطاني". سبَّ، لعنَ، حذَّرَ، فاختفى زعيقه وسط الصخب، خرج الناس يحملون محتويات القصر حتى آخر قشة، ثم حطّوا على ثمار الأشجار، يأكلون ويعبئون منها الجوابي، تسلق البعض شجرته ورموها بالحجارة، تلفت حوله، أمسك بأعمدة السرير المدهونة ذهبًا وألقى عليهم الواحد بعد الآخر، حتى أصاب امرأة، هلل انتصارًا، ولكنهم تجاهلوه، بل جمَّعوا الأعمدة وتنازعوا عليها. سمع ضوضاء بالخلف، تفقَّد المشهد عبر "عين القطة"، كانت الناس تجري في السطح هنا وهناك، قال: "لقد حاصرني اللصوص". أمسك بآخر عمود يوسِّع به الثغرة، عقده بالحبل كيلا يفقده هذه المرة، ولكن، كان الناس قد انفضُّوا قبل أن يضرب ضربته، بعدما يئسوا من إيجاد شيء على السطح. رصد الجهة الأخرى، ألقى بسلاحه على رجل، فرشق العمود في التراب، أمسكه الرجل وجذبه، فلت الحبل من يد الملحن، اشتبك في غصنه المترامي، تكتلت مجموعة للفوز بالعمود الذهبي، فالتوى الغصن حتى كُسِرَ.

انهزم الملحن، العازف على عود بلا أوتار.

لكم الجوع بطنه، هدم العطش بُنيانه، بعدما جفَّ الدلو. عجزت يداه عن الإمساك بالأغصان، تراخت قبضته عن الحياة، ولكنها تمسَّكت بالعود، احتضنه وهمس إليه يطمئنه، أخذته غفوة كادت أن ترميه في الغياهب، ففاق منها فور إحساسه بفقدان الآلة، جلس على الريش، رمى بثقله على العود، ضرب بأصابعه على الهواء بصعوبة، ثم انسابت يداه منصاعة للإنهاك، مستندًا بذقنه على حرف الآلة. دقَّت أقدامٌ بالخارج، في محاولة أخيرة لإنعاش ما تبقى من حواسه، وعبر ثغرة الحائط ظهرت العين المتلصصة، استقرت لحظات، ثم ضرب صاحبها على الحائط، أتى بعصا معدنية، دق حول الثغرة، تساقط الجبس، فظهرت أسلاك قفص العصافير الأول، حاول نزعه دون جدوى، جرى على السور يناشد المساعدة، ولكن لا من أحد، رجع وضرب عليه وشده حتى خلعه، دقَّ من جديد، رشق أصابعه في الأسلاك ليخرج القفص الثاني والثالث، سالت الدماء على ذراعيه، وقبل أن يدخل، ابتسم الملحن وأغمض عينيه.

مات الملحن، العازف على عود بلا أوتار.

وبكته العين المتلصصة، والتي في حقيقتها هي العين ذات البؤبؤ العمودي لغميضة، ولكن عائق الغمامة لم يسعفه للتعرف عليها من قبل، فقد تمسَّكت غميضة بها، من وقت دخولها البوابة الرئيسية، خوفًا من عصيانه. رجعت شوقًا، وكانت تغادر كمدًا على حاله، رجت الاطمئنان عليه في كل مرة، ولكنه كان دائم الاستيقاظ وهي دائمة الفرار، أما الآن فقد انكشف لها السر وراء استيقاظه المداوم، لقد رسم على جفنيه عينين، حتى يُهيَّأ للناظر استيقاظه، مما فوّت عليها أوقاتًا من التملي برؤيته حيًا. تتحسس تجاعيده الجديدة عليها، تمسح على شعره الشائب، تجرُّده من آلته، تفرد جسده على الأرض، تهم للخروج وإحضار المساعدة في حمله، ولكنها تتوقف، إذ أغرتها رغبة في كشف غموض الآلة، والعزف عليها بلا أوتار. خرجت من الغرفة، اتخذت مجلسًا من موقع يكشف جسد فقيدها. وامتثالًا بما عمل به في آخر أيامه وضعت العود على فخذيها، مسحت على صندوقه برفق ومحبة، ثم احتضنته وراحت تضرب بأصابعها على اللا شيء، بعد لحظات اعتراها شعور غريب، لقد سمعت نبضات أو دقات، فتوقفت وأبعدت العود قليلًا في محاولة لاستيعاب ما حدث، بعد برهة دفعها طيشٌ لاسترجاع التجربة، قربته ببطء، عانقته بتردد، ثم عزفت على الهواء من جديد، فاقشعر بدنها على وقع نغمة غريبة، واستقبالها كان الأغرب، فكأنها تسمعها عبر صدرها لا أذنها، كان العود ينبض بنقرات عشوائية لا تنظم لحنًا، ولا تنسجم مع حاسة السمع، بل تسبح في الروح، وتوهب شعورًا عظيمًا بالقوة والسطوة، بخلاف مشاعر المسرَّة أو الشجن، التي عاشتها مع الألحان المألوفة. دفعها صوت الآلة لتضغط عليها أكثر، تضمها بقوة لتضرب النقرات فؤادها، وتستعيد شعور السيطرة وتقويه. بعد حين فاقت من نشوتها، دفعت الآلة كأنها تصرف عفريتًا، كادت أن ترحل لولا أن لاحظت قطرات ماء قليلة تسيل من العود، اقتربت بارتياب، قلبت العود، رأت أن فتحته الوحيدة مغلقة بشبكة، نزعتها، فسقطت بعض الحبوب، ثم سمعت شيئًا يتخبط، تراجعت ذعرًا، وإذ بعصفور زيبرا يظهر من الفتحة ويتوقف على العود، كان في حالة يرثى لها، مرهقًا، مشعَّث الريش، شرب القطرات المسكوبة، التقط الحبات. اقتربت منه فتحرك متعبًا، كررتها فضرب بجناحيه فلم يعلُ، ولكنه أعاد التجربة فتمكن من الصعود على سور السطح، هرولت نحوه اشتهاءً لمعرفة مصيره، فزع العصفور فطار. هنا، خلعت غميضة غمامتها للمرة الأولى في مجال القصر، وإذ بعينيها تتسع برؤية ألوان وتفاصيل الجنة المحيطة بها، من جنائن ومسابح ومعمار، فابتسمت.

ابتسمت الفتاة، العازفة على عود بلا أوتار.




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة مُشار إليها *

انضم للقائمة البريدية

تابعنا على السوشيال ميديا

النشرة البريدية