الجهل
مقال لروبن فايس*
ضمن سلسلة «حول نشوء أبراج الحمام»**
ترجمة: حسين الحاج
الترجمة خاصة بـ Boring Books ومعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة (سيلاس)
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
* حصلت روبن فايس على درجة الدكتوراه من جامعة دي بول، ودرست مؤخرًا في جامعة ماونت آليسون في كندا، وتخصصت في الفلسفة اليونانية والرومانية القديمة، وتحديدًا في الرواقية الرومانية، من حيث تعلقها في الاتصال بين الفكر والفعل. كتبت عن كيفية فهم الرواقيين للذكاء العملي بصفته مناقضًا للذكاء النظري، وأيضًا كيف فهمها من سلفهم، مثل أرسطو. يمتد اهتمامها في الشعب المختلفة التي اتخذ فيها مفكرون لاحقون تلك الرابطة بصفتها رابطة بين المعرفة والفعل والحقيقة والذاتية والنظرية والممارسة ووصفوها بطرق متنوعة في تقاليد الفلسفة القارية اﻷوروبية والذرائعية اﻷمريكية.
** ترجم هذا البحث ضمن مشروع لتأليف أربع بحوث فلسفية حول المبادئ اﻷساسية لما أسماه مؤسس معهد القاهرة للعلوم واﻵداب الحرة (سيلاس)، كريم ياسين جوسنجر، ببرج الحمام. أطلق كريم على هذا المشروع «حول نشوء أبراج الحمام»، راميًا إلى تشبيه سيلاس ببرج الحمام، بعكس ما يعرف عن الجامعات الحديثة بأنها «أبراج عاجية». المؤلفون المساهمون في هذا المشروع فلاسفة أكاديميون. تخصص اثنان منهم في الفلسفة القديمة والاثنان اﻵخران في الفلسفة المعاصرة. وقد قدموا بحوثًا حول المبادئ اﻷساسية اﻷربعة التي تنبثق من تجربة سيلاس وتستلهمها، وهم التنوع واللهو والحميمية والجهل.
يقدم هذا المقال بعض التأملات حول الجهل، الذي قد يكون مشكلة عصرنا، أو يكون حلًا لها. أبدأ مقالي وأنهيه باعتبار الجهل الذي يزداد مع اتساع المعرفة مشكلة في البداية وحلًا في النهاية.
الجهل بصفته مشكلة
«ما المعرفة إﻻ مجال، كلما اتسع أكثر، اتسع اتصاله بالمجهول». - بليز بسكال[1]
عند قياس المقالات العلمية المنشورة، والابتكارات المسجلة، والمواقع، نجد أن المعلومات تزداد حول العالم بنسبة 66% كل عام.[2] وطبقًا ﻷحد العلماء، كلما ازداد عدد اﻷجوبة التي وجدها العلماء، ازداد عدد اﻷسئلة، بل في الواقع، يزداد عدد اﻷسئلة أسرع من عدد اﻷجوبة. وإذا كنا نتسم بالجهل عندما نملك أسئلة بلا أجوبة، إذن فالجهل يزداد بنسبة مطردة. وبالتبادل، إذا قسناه من حيث الفجوة التي تفصل بين ما يعرفه المرء وما يعرفه المجتمع العلمي، أو البشرية كلها، نجد أن تلك الفجوة تتسع ومن ثم يتسع الجهل وﻻ يتقلص.
«.. ليست المعرفة دربًا مفتوحًا بل طريقًا مسدودًا، ليست هدفًا بل كارثة..» بترارك[3]
تشكل مقولات مثل «كن جريئًا على المعرفة» و«المعرفة قوة» طريقتنا الحديثة في التفكير. فالعالم يقوم على فرضية أننا نستطيع حل كل مشكلاتنا طالما ظللنا نراكم المعلومات وننشرها. لكن في الحقيقة، يبدو أن المصدر الرئيسي لمشكلاتنا هو المعلومات، والمعرفة العملية العلمية عادة ما توضع في خدمة نهب المصادر المحدودة واقتلاع أشكال الحياة التقليدية، واستدامة العلاقات الاقتصادية الجائرة، والتدمير الشامل للكوكب. وكما تفترض الشعارات المذكورة آنفًا، تكمن أغلبية الدمار في الاعتقاد في القدرة على إدارة العواقب أو حتى «انعدام وجودها»، إما بسبب اعتقادنا في أننا نملك المعرفة للتعامل مع العواقب أو أننا سنحوز تلك المعرفة في المستقبل. وهذا يجعل ما ظنناه طويلًا من قبل أكثر وضوحًا: كلما ازدادت معرفة البشر، تقلصت معرفتهم بطريقة تطبيقهم لمعرفتهم وﻷي غاية.
«لماذا يجرح جهل المرء ذاته؟ وكيف يمكن له أن يشعر حرقة شيء لم يمتلكه؟» - خوسيه أورتيجا إي جاسيت[4]
ينبغي أن نسأل من أين تأتي تلك الرغبة القلقة في محو جهلنا حيث أنه يبدو أن العديد من المشكلات تنبثق من نهمنا الشره للمعرفة؟ حسنًا، ماذا لو أننا غادرنا الغرفة واكتشفنا أن ﻻ شيء بالخارج؟ سنصبح مندهشين تمامًا ﻷننا نتوقع من كل شيء موجود أن يكون جزءًا من شيء آخر، أو على اﻷقل متصلًا بشيء آخر، فنحن نتوقع أن تكون الغرفة تكون جزءًا من البناية، والتي بدورها كائنة في شارع.. إلى آخره. واﻵن، تفصل العلوم الفردية أجزاء العالم وتدرسها، مثل: اﻹلكترونات، والنباتات، والمجتمعات اﻹنسانية، وقوانين الفيزياء، لكن سرعان ما يبدأ المرء في تأمل طريقة اتصال موضوعات علم واحد بالعلوم اﻷخرى، وكيف تتلاءم معًا في كل أكبر، مثلما نتأمل ملائمة الغرفة مع بقية العالم. من هنا نبدأ أن نستشعر جهلنا. ندرك أن نملك مجرد قطعة، أو شظية، أو جزء من شيء، لكننا ﻻ نفهم الكل اﻷكبر المجتزأ عنه. إذا كان جهلنا يؤلمنا، فهذا ليس بسبب أننا نريد معرفة أكبر، إنما باﻷحرى بسبب أننا نريد أن نفهم كيف تتلاءم المعرفة التي نمتلكها مع كل أكبر؟
«.. إنه لن يفهم أي شيء بصورة أفضل، لو كان قد رأى أشياء أكثر، بل كان سيصبح عليه أن يشرح أكثر..». جورج سانتيانا[5]
إن تزويد مخزوننا من الحقائق لن يساعدنا بالضرورة، أو كما قال إيمرسون، «يرفض العالم أن يُحلل بواسطة اﻹضافة أو الطرح»[6]، كما أن علينا أيضًا تفسير الحقائق، والمشكلة حقًا أنه ليس لدينا كثير من الحقائق فحسب، بل أننا نستطيع تفسيرها بطرق متعددة. عندما نلاحظ عاصفة، فإنه من الممكن تفسيرها بأنها إما مجموعة من جزئيات، أو علامة على التغير المناخي، أو من صنع الرب، أو تفسير حركة اجتماعية باعتبارها سلسلة من التبديلات ضمن المسارات العصبية، أو ردة فعل حتمية على حدث معين، أو ذروة العمل الشاق لأفراد ملتزمين، أو ناتج سلسلة من اﻷحداث بدأت منذ مائة عام، أو مثال حي معين على تيار عالمي أوسع. تقود الحقائق نفسها إلى أن تُفسر بالعديد من الطرق، وليس هناك تفسير من تلك التفسيرات يستثني اﻵخرين. وحيث أن المفاهيم واﻷطر النظرية التي نستخدمها لتحليل العالم متنوعة ومتماثلة بشكل مشترك، فإن علينا أن نسأل إذا كنا نقترب من رؤية واضحة للحقيقة الضمنية بينما نطور طرقًا جديدة ومعقدة على نحو متزايد لتحليل العالم. مع كل طريقة لتفسير الحقائق، هل نكشف الحقيقة العارية تحتها؟ أو أننا نلبسها ملابس مختلفة أو أي ملابس تلائمها ببساطة؟ على أحد الجوانب، يبدو أن معرفتنا تنمو بالتأكيد بينما نطور تفسيرات مختلفة ونتعرف على الطرق العديدة التي «تلائم» بها الحقائق. بينما على الجانب اﻵخر، نظل في حالة الجهل النسبي باعتبار أنه لماذا يجب تفضيل تفسير واحد على اﻵخر، ويبدو أن هذا الجهل ينمو فحسب بينما تزداد التفسيرات، حتى نُجبر على سؤال أنفسنا في النهاية، «هل تزداد معرفتنا أم يزداد جهلنا؟».
«.. ﻻ يمكننا التفكير في شيئين في نفس الوقت» - بليز بسكال[7]
إننا ﻻ يمكننا أن نولي اهتمامنا إلى شيء واحد دون أن نولي اهتمامًا أقل إلى اﻷشياء اﻷخرى. حتى عندما نستمع إلى صوت، فإننا نركز على الصوت مع استبعاد اﻷصوات اﻷخرى. إننا نسمعه بعدم الاستماع إليهم. وبالمثل، إذا ركزنا بشدة على شيء نعرفه، فإننا يمكن أن نبدأ أن نعاني من ضعف في النظر. فكر في النظارة المكبرة التي تضع شيئًا واحدًا في المركز من خلال تغشية كل شيء آخر على طرفها. عندما نضع تأكيدًا كبيرًا على تفصيلة واحدة، فإننا نغفل التأكيد على التفاصيل اﻷخرى، حيث ينتج عن ذلك أننا لسنا نراهم أقل وضوحًا فحسب، إنما تصبح رؤيتنا للكل مشوهة. يمكن لذلك أن يفسر لم ينتهي أولئك الناس الذين «يركزون على ما يعرفونه» إلى صورة مشوهة للواقع في بعض اﻷحيان. فطبقًا لبسكال، ذلك سبب أن كلًا من الشباب والعجائز يرون اﻷشياء من وجهة نظر مختلفة، وهذا، كما يلاحظ أيضًا، ينطبق بالقدر نفسه على المتعلم وغير المتعلم.[8]
«إن أولئك اﻹغريق القدماء (الذين كان لديهم أيضًا شيء من الفهم للفلسفة) نظروا إلى الشك بصفته مهمة تستغرق عمرًا بأكمله، ﻻ مهارة تكتسب في أيام قلائل أو أسابيع». -سرن كيركجارد[9]
الصعوبات التي نواجهها اليوم تمتد إلى كل مجالات الحياة، بما فيها اﻷخلاقية. انظر إلى أغلب النظريات اﻷخلاقية اليومية، وسوف ترى أنها تهدف إلى إرشادك إلى طريقة الاختيار بين مختلف مسارات اﻷفعال التي تستطيع اتخاذها في الحياة. أولًا، عليك أن تقدر كل التكاليف ومنافع كل خيار، لكن هناك مشكلة واحدة فحسب، فلتفترض أنك لا تعرف تكاليف ومنافع كل خيار، كيف ستقرر إذا كنت ستمضي إلى الحرب أو تبقى وسط أسرتك؟ إذا كنت ستضحي بحياة من أجل أن تنقذ اثنين؟ وقارن تلك النظريات اﻷخلاقية بتلك التي أنتجها اليونانيون القدامى، وسوف ترى الفرق فورًا. إن اليونانيين، الذين لم يعتقدوا مطلقًا أن كل الناس واسعو المعرفة، علَّموا الناس ما اعتقدوا أنهم يحتاجون معرفته كي يعيشوا بجهلهم، فقد علمنا أفلاطون كيفية العمل نحو أهداف لا ندري شيئًا عنها، وعلمنا الرواقيون كيفية تجنب اﻷخطاء قدر المستطاع، كما علمنا الشكوكيون طريقة قبول جهلنا، أليس هناك مثل أولئك الفلاسفة اليوم؟
الجهل بصفته حلًا
«يقدم الله إلى كل عقل خيارًا بين الحقيقة والطمأنينة. اختر ما يناسبك، فلن تستطيع الحصول على كليهما» -رالف والدو إيمرسون[10]
الخطوة اﻷولى هي أن نمنع المعرفة من أن تصبح جهلًا، وهذا ليس سهلًا، فكر فحسب في ما هي المعرفة، أغلب أنواع المعرفة ليست إﻻ طرقًا للتفكير أصبحت متأصلة تمامًا بمرور الوقت، وأصبحت معتادة. فكر بما تعنيه عندما تقول إنك تعرف طريق البيت، أو تعرف التحدث بالفرنسية، أو تعرف حل المسائل الرياضية. أن تقول إنك «تعرف» شيئًا يعني أن تقول إنك تستطيع أداء مهمة، بلا انقطاع، وبدون أن تلاقي عقبات أو أن تراجع تفكيرك أو تعدل من سلوكك. ولذلك السبب، نميل إلى التفكير في معرفتنا بصفتها جزءًا من تفكيرنا الموثوق فيه والذي ليس علينا أن نغيره مطلقًا. وتلك تحديدًا مشكلة المعرفة: أنها أداة لحفظ الوقت، فهي تسمح لنا أن نكمل مهمات بأقل قدر ممكن من التفكير والجهد، بينما نتجاهل أو نبقى في جهل نسبي بالحقائق أو الاعتبارات اﻷخرى التي قد تكون صائبة حقًا. إذن، يمكن أن تكون المعرفة جهلًا بسهولة. يمكن أيضًا للمعرفة أن تصبح نوعًا من الجهل إذا كانت «تعمل» في سياقات معينة بدون أن تلاقي تحديات أو عقبات. إذا تم الاعتماد على تلك المعرفة إذن في أوقات وأماكن غير ملائمة لها، فنحن نطبق أفكارنا وخواطرنا وقيمنا ومبادئنا بجهالة على مواقف ﻻ يمكن «أن تنطبق عليها» ببساطة، ومن ثم تصبح المعرفة جهلًا.
«يبدو أن اﻹنسان الذي يمتلك معرفة بشيء يجهل به تمامًا، ليس بسبب الحاجة للمعرفة، بل باﻷحرى بسبب معرفته» - أفلاطون[11]
نعتقد اليوم أن الجهل هو النقيض التام للمعرفة وغيابها، فالمعرفة هي العقل الممتلئ والجهل هو ذلك الفارغ. لكننا إذا نظرنا إلى الكلمة اللاتينية التي تصدر عنها الكلمة اﻹنجليزية ignorare، يمكننا أن نرى أنه ربما فكر الناس في الجهل باعتباره أقرب إلى الفشل في التعرف أو التعرف الخاطئ على اﻷشياء، وخصوصًا اﻷشياء المألوفة. وإذا ما استعملنا مثال أفلاطون، فالجهل ليس هو عدم لقاء سقراط أو ثئيتتس، بل هو ما يحدث عندما تفشل في التعرف على سقراط، أو نخطئ في معرفة ثئيتتس من سقراط، أي أن تضع اﻷشياء في غير موضعها. وإننا نشهد هذا النوع من الجهل في اﻵخرين عندما نخطئ في تقدير الظلم من العدل، أو السيء من الصحيح. وبطريقة أخرى، إذا كانت المفاهيم المكتسبة بالفعل تشبه بيوت حمام أو أعشاش طيور، ووجهات النظر واﻷفكار العابرة تشبه الحمام، إذن فالجهل يقع عندما تقصد الطيور الخطأ البيت الخطأ. بالطبع، تحتمل تلك الفكرة مضاعفات مفارقة: فهي تبدو أنها تعني جزئيًا أن الناس جهلة بسبب المعرفة التي يمتلكونها، مما يتركنا في حيرة السؤال مرة أخرى: هل المعرفة تتسبب في الجهل؟
«لن تصبح الحرية اختيارًا بين اﻷسود واﻷبيض بل بنبذ تلك الاختيارات الموصوفة» - ثيودور أدورنو[12]
كلما تقدم العلم، ألقى ضوءًا على الجوانب المظلمة من الكون أكثر فأكثر، فتتراجع الظلال، ويفسح الظلام طريقًا للنور. لكن كلما سطع ضوء العلم الغاشي على العالم أكثر، يبدو أن ما ﻻ يستطيع أن يوضحه العلم يقبع في ظلام دامس. وعلامة ذلك التغيير أنه إذا كان هناك شيء ﻻ يمكننا التوصل إلى معرفة علمية دقيقة بشأنه، نعلن على الفور أنه ليست هناك إجابات «موضوعية» بشأن تلك اﻷسئلة، ونعاملها باعتبارها محاطة بغموض غير قابل للكشف باستمرار. ربما يسهل علينا أن نقول ذلك بدلًا من أن نعترف أننا غير متأكدين إذا كانت إجاباتنا صحيحة، وبالتالي نعترف بأننا جهلاء، في النهاية، كيف يمكن لشخص أن يصبح جاهلًا بما ليس ﻷحد أن يعرفه؟ في العموم، لم نعد ندرك أن هناك أشياء يمكن أن تكون معروفة من ناحية ما ومجهولة من ناحية أخرى. لم تعد هناك «مناطق رمادية»، ورسمنا بدلًا عنها خطًا فاصلًا بين الظلام والنور واﻷشياء التي يمكن معرفتها وتلك التي لا يمكننا معرفتها. يدرس الطلاب ما يمكن معرفته، أما الباقي، فيقال لهم إنهم لا يمكنهم معرفته. وهكذا يبقون في النور، ويبتعدون عن الظلام، وﻻ يطيلون المقام في المناطق الرمادية. لكن أدورنو يذكرنا أننا يجب أن نطيل مقامنا في المناطق الرمادية كي نحوز حريتنا.
«إذا لم يكن هناك ظلال، لن يكون هناك جمال» - جونيتشيرو تانازاكي[13]
نقدر أشياء مثل العدالة والصداقة والحب والشجاعة والدين باعتبارها أجمل اﻷشياء في الحياة وأروعها، ونعتبرها أكثر اﻷشياء التي تستحق أن نسعى من أجلها في الحياة، لكنها أيضًا من ضمن اﻷشياء التي لا نعرف عنها إﻻ القليل، سواء كانت الطريقة التي نسعى بها من أجلها أو الطريقة التي نعرف بها وقت اكتسابها. هل هناك مصادفة في أن بعضًا من أجمل اﻷشياء وأروعها في الحياة هي أيضًا أقل اﻷشياء التي نعرف ماهيتها؟ ليست هناك مصادفة، في الحقيقة، تتصل تلك اﻷشياء في أذهاننا بالعديد من الخصائص الجيدة وتترك في خيالنا تأثيرات إيجابية، حتى أنه يصعب قول شيء عنها بالضبط أكثر من كل تلك اﻷشياء الجديدة التي نميل لربطها بها. لكن حقيقة أنه ﻻ يمكن تعريفها بسهولة ﻻ يجعلهم أقل جمالًا أو أقل استحقاقًا للسعي نحوها. إن جمالها حقًا هو ما يجعل تعريفها صعبًا.
«أولئك الذين يستعملونها يفسدونها، وأولئك الذين يحملونها يفقدونها». -ﻻوتسو[14]
ﻻ يمكن تعريف كلمات مثل العدالة والصداقة والحب والشجاعة والدين بسهولة كما قلنا من قبل، وإننا ندرك ذلك عندما نحاول أن نعين معناها الدقيق، ونرى أننا مهما حاولنا أن نعرفها، فسننتهي إلى تعريفها تعريفًا قاصرًا حتى لن تحمل الكلمات المعنى نفسه بعد ذلك. إننا لن نستطيع أن نحوز معرفة بشأنها دون أن نحطم الشيء الذي نحاول استخراج المعرفة منه. لأنها مثل الفراشات، ﻻ نستطيع أن نمسك بها إﻻ عن طريق سحقها. قد نفكر في أنه إذا ظللنا نتأمل في معاني تلك الكلمات، فسنبقى بلا وجهة في حياتنا. وفي الحقيقة، عادة ما يصبح الشخص الذي يقول إنه ﻻ يستطيع تعريف الصداقة، أو يرفض أن يقول إن الصداقة ببساطة هي تلك أو ذاك، هو من يفكر أن الصداقة هي ذاك وتلك و«كل ما سبق أعلاه»، أي عادة تحمل قائمة طويلة بالخصائص التي تتميز بها الصداقة الجيدة، أو الصفات التي تبحث عنها في الصديق والتي ترفض أن تستثني أيًا ما كان مهمًا منها، وهو يقيم صداقته الخاصة بفضل العودة المستمرة إلى تلك القائمة، ويتفحصها كي يرى مدى اتصافها بتلك الصفات العديدة، وإذا ما كانوا يفتقدون أيًا منها. إذن، ربما يصبح هو من يدعي جهله بمعنى الصداقة أو عدم قدرته على تعريفها هو من يصل بأصدقائه إلى أعلى درجات الصداقة في الحقيقة، بينما أولئك الذين يعرفون الصداقة يختزلونها بأنها ذاك أو تلك، وبتلك الطريقة، ربما يختزلونها إلى شيء ليست عليه.
«ﻷنهم أحبوها، رغبوا في توضيحها، وأوضحوها بدون أن يوضحوا اﻵخرين، فانتهوا إلى غموض المفارقة» - جوانغ زي[15]
يتحدث الفيلسوف الصيني جوانغ زي عن مدرسة للموسيقيين حيث يفضل أساتذتها نوعًا محددًا من الموسيقى تفضيلًا كبيرًا. يشرح اﻷساتذة ذلك النوع الموسيقي لطلابهم بحرص، واصفين إياه بأنها الموسيقى في «أنقى أشكالها»، ومع ذلك، ينتهي بهم اﻷمر أنهم يعلمونهم أن كل أنواع الموسيقى اﻷخرى ليست موسيقى مطلقًا، فيصبح الطلاب مبلبلين ومقيدين إلى تقليد موسيقي واحد. تقدم تلك القصة نموذجًا في طريقة إزاحتنا للأشياء في الخلفية عادة بينما نحن نحاول إسقاط الضوء على شيء ما: أصبح الطلاب جهلة باﻷنواع اﻷخرى من الموسيقى عن طريق تعلمهم نوعًا واحدًا فحسب. واﻷكثر من ذلك، أنهم لم يصبحوا جهلة باﻷنواع اﻷخرى فحسب، بل أصبحوا جهلة بماهية الموسيقى تمامًا. وما تسبب في ذلك كله تعلمهم للموسيقى في «أنقى أشكالها».
«الفكر هو شيء شامل، ويتطلب النزاهة في كل عمل. يقاوم ذلك إخلاص المرء إلى فكرة واحدة، وطموحه في الجمع بين الكثير» - رالف والدو إيمرسون[16]
دعونا نفكر في العقل البشري بصفته آلة لحل المشكلات. يمكننا رؤية أنه من خلال تعريض العقل البشري إلى معلومات أكثر فأكثر، فإننا نزيد من حجم المعلومات التي يجب عليه تصنيفها من أجل أن يجد حلًا للمشكلة المعطاة. بالطبع، كلما كانت المعلومات متاحة عنها أكثر، فإن أكثر الترجيح إما التفتيش حول المعلومات المتاحة أو عن طريق استخدام المعلومات المتاحة لها ﻹيجاد حل للمشكلة. ومن ثم، كلما زادت المعلومات التي يتعرض لها العقل، تزداد عدد الحلول المتاحة له، وكذلك احتمالية اكتشافها. لكن على الجانب اﻵخر، إذا تعرض العقل البشري إلى معلومات أكثر من اللازم، فستصبح لديه معلومات أكثر مما يجب ببساطة، وسيفشل في إيجاد حلول. وهكذا، كلما ازداد تدفق المعلومات، تقل احتمالية إيجاد حلول للمشكلات. بالتأكيد، يصيب العقل شلل بسبب تدفق البيانات المستقبلة، وذلك، كما أشار رايموند دين، يحمل تبعات واضحة بالنسبة إلى التعليم.[17] يجب على العقل ألا يتعرض إلى معلومات أكثر مما يجب وﻻ أقل مما يجب، بل يمكن أن تقدم له المعلومات متدرجة على مدار الوقت. ومع ذلك، فبمجرد أن يتم اجتياز النقطة التي تصبح عندها المعلومات أكثر مما يمكن التعامل معها على نحو مفيد، يجب أن يغلق العقل نفسه أمام تدفق المعلومات حتى يستطيع أن يصنف كل البيانات المتاحة. باختصار، إذا كان العقل آلة معالجة للبيانات، فإن كفاءته تحتاج إلى الجهل.
«يصبح العيش مستحيلاً علينا بدون أن ننسى». -فريدريش نيتشه[18]
أدرك فرويد مبكرًا في عمله أن العقل الواعي يمكن أن يعير انتباهه إلى جزء صغير فقط من المعلومة التي يستقبلها من البيئة الخارجية، أما باقي المعلومة فإما أن يعالجها العقل اللاواعي أو يتم استبعادها. يشير نيتشه إلى أن النسيان ما هو إﻻ تنويع من تلك الظاهرة. فقد ادعى أن النسيان ليس ما يحدث لنا عندما لا نتذكر أو ﻻ نستطيع التذكر أو استدعاء أفكار معينة إلى العقل، بل أكد أن النسيان قدرة إيجابية يحوزها بعض الناس، وقدرة نشطة من أجل قمع اﻷفكار غير المرغوب بها أو الدخيلة، «حتى نغلق نوافذ الوعي وأبوابه لفترة»[19]، ويقول إنه بدون تلك القدرة، يصبح المرء شديد الانشغال بأفكاره وذكرياته مما يحول بينه وبين فعل أي شيء من اﻷشياء التي نفكر بها باعتبارها خصائص إنسانية، سواء كان تفنيدها أو ترتيب أولوياته أو يتوصل إلى اتخاذ سلسلة معينة من اﻷحداث. وبالتالي يوصينا أن نفرض الجهل على أنفسنا من وقت ﻵخر.
«لقد سمعت كلمات جزار وتعلمت كيف أنتبه إلى الحياة!» -جوانغ زي[20]
إننا نواجه مشكلة واحدة وهي أننا صرنا معتادين بشدة على التفكير في أنواع معينة من المعرفة فقط باعتبارها «المعرفة الحقيقية»، حتى أننا ﻻ نعتبر عادة بعض أنواع المعرفة اﻷخرى «معرفة» على اﻹطلاق. ما نقول عليه «معرفة»، يقول عليه البعض «جهلًا»، والعكس صحيح. ومن خلال إدراك بعض الفلاسفة الصينيين لذلك اﻷمر، قدموا أناسًا بسطاء يبدو عليهم الجهل باعتبارهم نموذجًا للحكمة: السباح الذي يستطيع بطريقة ما أن يتفادى اﻻرتطام باﻷحجار، واﻷحدب الذي يمسك بحشرة الزيز بشبكة موصولة بعمود طويل، والطباخ الذي يقطع الذبيحة بسهولة ملحوظة. عندما نسأل أولئك الناس أن يشرحوا طريقة عملهم لما يفعلونه، يكون من الواضح أنهم ليس لديهم «وصفة للنجاح»، بل حتى إنهم ﻻ يستطيعون أن يشرحوا لم يصبح ما يفعلونه فعالًا، لكنهم يعرفون كيفية الوصول إلى أقصى النتائج بأقل مجهود، وطريقة التعامل مع العقبات، واﻷهم من ذلك كله، كيفية التركيز على مهمتهم بدون تشتت. ذلك يشرح لم، كما تقول القصة، عندما سمع نبيل عظيم جزارًا يصف طريقته في حمل سكينه، هتف فجأة أنه تعلم منه كل أسرار الحياة.
«نحن ﻻ نقرر ما سوف نفكر به. إننا نفتح حواسنا فحسب، ونزيل كل العقبات بعيدًا من الحقيقة بقدر استطاعتنا، ونخضع العقل كي يرى» - رالف والدو إيمرسون[21]
كما يعرف كل معلم، يدور معنى التعلم حول التحلي مثلما هو حول التخلي. من أجل أن أفكر بشيء ما بطريقة صحيحة، يجب على أولًا أن أتخلى عن أي شيء قد تعلمته سابقًا يمكن أن يمنعني من رؤية المسألة بصورة صحيحة، كما يجب أن أزيل كل تحيزاتي وافتراضاتي، وأيضًا أمنع نفسي من افتراض فرضيات غير مناسبة أو القفز إلى نتائج غير مبررة، وكما يفترض، قال المهاتما غاندي: «الحقيقة ﻻ تحتاج إلى دليل بطبيعتها، فبمجرد أن تزيل غشاوة الجهل التي تحيط بها، تضيء لامعة». يتضمن كل تقليد ديني نسخة من تلك الفكرة. تختلف اﻷديان فحسب فيما يدعيه كل دين بالعقبة الكبرى التي تقف بيننا وبين الرؤية المباشرة للحقيقة، يعتبر أحدهم الرغبات أو اﻻرتباطات هي التي تمثل الاعتراض اﻷكبر لرؤيتنا للحقيقة، بينما نجد الحواس هي مصدر اعتراض أديان أخرى، وعند آخرين نجد اﻷنا. بطريقة ما، تعترض تلك اﻷشياء رؤيتنا للواقع وتمنعنا من رؤيتها مثلما تبدو حقًا، وهكذا يمكن أن نقول إنها تجعلنا جهلاء. لكن، بطريقة أخرى، تتطلب رؤية الحقيقة منا أن نزيل تلك العقبات، وهذا يتطلب بالطبع أن ننسى أو أن نتخلى عن كل شيء عرفناه مسبقًا، وهكذا يمكن أن نقول أيضًا إن إزالة تلك العقبات يجعلنا جهلاء، وبالتالي قادرين على رؤية الحقيقة.
«الرغبة هي ما تهدد الفكر» - أفلوطين[22]
أشار خوسيه أورتيجا إي جاسيت ذات مرة أن التعلم شديد الشبه بالحب، فعندما نحب شخصًا ما، فإننا ﻻ نستطيع التفكير في ذلك الشخص بالطريقة التي نريد منه أن يكون عليها، وﻻ حتى نجبره على أن يكون بتلك الطريقة. إننا ﻻ نريد ذلك حقًا، بل إننا نريد أن نعرف ذلك الشخص أكثر فأكثر، ونضع بدون أنانية كل تفكيرنا عن اﻵخرين جانبًا، ببساطة من أجل أن نعرفه بصورة أفضل. ومن الغريب أننا نفعل ذلك قبل أن نعرف ذلك الشخص حقًا، لكننا نفعله رغم ذلك ﻷننا لدينا شعور أننا بمجرد أن نفعل ذلك، سنكتشف شيئًا بشأن ذلك الشخص سوف يغير العلاقة بالنسبة له أو لها، أي ستغيرنا. وبالتالي، فإننا ﻻ نمانع وضع كل أولوياتنا الحالية جانبًا من أجل التقصي حول ذلك الشخص، ﻷننا بمجرد أن نفعل ذلك، ستكون أولوياتنا انقلبت رأسًا على عقب. واﻵن، ينطبق ذلك اﻷمر على التعلم، فأنا ﻻ يمكنني أن أقترب من الموضوع الذي أدرسه ناظرًا له من زاوية اهتمامي وافتراضاتي الحالية، وبالتالي لن أراه مثلما هو. حقًا، ذلك يصبح إلى جانب نقطة أنني إذا رغبت في اكتشاف شيء سوف يغير قناعاتي وافتراضاتي. وبتلك الطريقة، لا يشبه التعلم الحب، بل هو فعلًا في جذره نوعًا من الحب، من حيث الانفتاح الكامل والشامل والرغبة لاعتناق شيء ما جديد ومجهول، على أمل أن ذلك سيخلف إنسانًا مغايرًا، حقًا إن الشيء الوحيد على اﻹطلاق الذي يمكن أن يتغلب على الخوف من المجهول هو الحب.
«أن نتوقع أن نتوصل إلى الحقيقة من خلال التفكير يدل أننا نخطئ الحاجة إلى التفكير بالحاجة إلى المعرفة». - حنا آرندت[23]
يقول أرسطو إن لدى البشر جميعهم «الرغبة في المعرفة» - إنهم حرفيًا «يتلوون» من أجل المعرفة- وهذا ما يقودهم إلى البحث عن الحقيقة. لكن ربما رغبة أكثر عمقًا من ذلك هي الرغبة في إيجاد معنى للحياة. وهذا شيء يمكن فعله عن طريق التوقف من أجل التفكير. إننا نفكر ﻷننا علينا أن نتأمل اﻷحداث، وأفعال الناس، من أجل أن نخبر أنفسنا قصة بشأنهم، وبشأن ما كان من في القصة يعملون على تحقيقه وما حققوه بالفعل، وما أظهروه لنا بشأن أنفسهم بالتحديد والبشر في العموم. ومع ذلك، يرجى ملاحظة أننا عادة ﻻ نصل إلى المعرفة عندما ننتهي من التفكير، بل أحيانًا حينما ننتهي من التفكير، نصل إلى معرفة أقل مما كان لدينا في البداية. لكننا نظل نفكر حتى مع وجود مخاطرة بلوغ جهل أكبر مما كنا عليه.
الجهل والمجتمع
«ﻻ يمكن الوثوق بأولئك الذين يصبحون مجرد أدوات من أجل معرفة اﻵخرين حتى إذا صدقناهم» - سنثيا توونلي[24]
نحن ﻻ نستطيع معرفة كل شيء، لذلك يجب علينا أن ندخل في علاقات تشارك معرفي تسمح لنا بتبادل المعلومات وتزيد من مخزوننا الجماعي من المعرفة. وبينما يعني تقسيم العمل من جانب ما أن معرفة كل شخص تزيد، ومن جانبٍ آخرٍ، تعني أن يبقى كل منهم جاهلًا من خلال تفويضه للآخرين مهمة الحصول على المعرفة وتخزينها بدلًا عنه أو عنها. عندما تأتي القضية إلى مثل تلك العلاقات، فإننا دائمًا مواجهين بخيار من اثنين: إما أن نثق باﻵخرين أو ﻻ نثق بهم، وهو قرار صعب ﻷننا ربما نتعلم أكثر على المدى البعيد من خلال الوثوق بهم أكثر من الشك فيهم. صيانة مثل تلك العلاقات عادةً ما تكون وسيلة أكثر تأثيرًا في زيادة معرفتنا من محاولة جمع المعلومات بأنفسنا. ربما حقًا نحصل على شيء من المعرفة بعدم وثوقنا باﻵخرين أو من خلال محاولة تأكيد ادعاءاتهم، لكن بثمن ما، ومثل ذلك، إذا ساءلت صديقة ما ادعاءات صديقتها أو اختبرتها كي ترى إذا كانت مؤكدة، فإنها سوف تتهم بأنها ﻻ تثق في صديقتها، وقد تصبح صديقتها مترددة في أن تسر إليها بشيء أو تتحدث بحرية في حضورها. وبالمثل، فالثمن الذي قد ندفعه بسبب الشك في شهادات اﻵخرين أو التحقق منها قد يكون فسخ العلاقة بمن نتعلم شيئًا عظيمًا منهم، ربما أعظم من أي معلومة يمكن أن نحصل عليها عن طريق الشك فيهم. إذن، فالثمن الذي ندفعه للانتماء إلى مجتمع من المتعلمين هو قدر معين من الجهل، والذي قد يكون نافعًا لنا كذلك.
«يمكن النظر إلى الخُلق باعتباره دليلاً لتوجيه التعامل مع مواقف جديدة أو معقدة أو تتضمن ردود أفعال مؤجلة حيث يصبح سبيل النفع الاجتماعي غير قابل للإدراك بالنسبة إلى الفرد العادي». - ألدو ليوبولد [25]
ادعى الناشط البيئي والفيلسوف ألدو ليوبولد ذات مرة أن البشر يصبحون كائنات أخلاقية عندما يدركون جهلهم، وتحديدًا جهلهم باﻵثار الممكنة ﻷفعالهم وكيف يمكن أن تنتقل خارجهم، فهم يدركون أن أي شيء يفعلونه يمكن أن يطلق سلسلة من التفاعلات، خصوصًا اﻷشياء التي تجرح أعضاء مجتمعهم. سرقة واحدة أو حادثة قتل واحدة يمكن أن تطلق سلسلة من اﻷحداث والتي قد تؤدي إلى تفسخ الصلات التي تربط المجتمع بشكل ﻻ يمكن إصلاحه. من يستطيع أن يقول أين يمكن أن تنتهي؟ إذا استطاع البشر اﻵن توقع ما يمكن أن يتدخلوا فيه أو يحطموه تحديدًا بدون أن يدمروا نسيج المجتمع، فسوف يقومون بذلك. لكن بطبيعة الحال، لن يتمكن البشر مطلقًا توقع ماذا ستكون عواقب أفعالهم تحديدًا، أو سواء إذا كانت سترتد إليهم أم لا. وبسبب مواجهتهم لذلك الموقف، يجب على البشر أن يتخلوا عن «عقلية المنتصر»، حيث يفكر البشر أصحاب «عقلية المنتصر» أنهم يعرفون كيف يتحايلون على البشر أو اﻷشياء في مجتمعهم من أجل مصلحتهم. لماذا يتخلص معظم البشر من تلك العقلية في النهاية؟ «ﻷن تلك العقلية تتضمن أن المنتصر يعرف بعصمته المنزهة ما يحرك دقائق المجتمع بالضبط، وما القيم ومن العزيز، وما الرخيص ومن التافه في حياة المجتمع. فدائمًا ما ينكشف أنه ﻻ يعرف أيًا من تلك اﻷشياء، ولذلك تتحول انتصاراته لهزائم في النهاية»[26]، كما قال ليوبولد. باختصار، يدرك البشر أنهم ﻻ يستطيعون التلاعب بطرق عمل مجتمعاتهم بدون أن يجرحوا أنفسهم أو يزعجونها. وما البديل الممكن لتلك العقلية؟ أن ندرك أن سعادتنا مرتبطة بأعضاء المجتمع اﻵخرين ارتباطًا وثيقًا، وأننا جهلة بصورة أساسية بالطرق المتعددة التي يتأثر بها الناس واﻷشياء في مجتمعاتنا ويؤثر بها كل منهم في اﻵخر، وأن مهما كانت المعرفة التي نمتلكها، فإنه ﻻ يمكن تهديد سعادتهم بدون أن نهدد سعادتنا. وطبقًا لليوبولد، إنه يجب علينا حقًا في مثل تلك المواقف، حيث ﻻ نستطيع أن نحسب آثار أفعالنا بطريقة موثوق بها، أن نتبنى «خُلقًا» ما أو «قانونًا أخلاقيًا». ومن خلال ذلك، نلجأ إلى الاتفاقات العامة، والتي إذا ما اتبعناها، فسيمكنها أن تلطف بأمان العواقب السلبية المحتملة ﻷفعالنا بقدر اﻹمكان. إذا كان ليوبولد محقًا، إذن، فإنه من الضروري أن يقدر المرء جهله من أجل أن يكون خلوقًا وعضوًا صالحًا للمجتمع حقًا.
«يبدو لي أن ما قد يعبر عن جوهر الديمقراطية باعتبارها طريقة للحياة هو ضرورة مشاركة كل إنسان ناضج في تشكيل القيم التي تنظم حياة البشر معًا». - جون ديوي[27]
بينما نعمل مع اﻵخرين نحو أهداف جماعية، ونطوِّع دعم اﻵخرين في المساعدة لتحقيق تلك اﻷهداف، فمن الضرورة العملية أن نأخذ تلك اﻷهداف بعين الاعتبار من وجهة نظر أولئك اﻷشخاص في الوقت ذاته. هذا يعني الاعتراف بأن رؤيتنا الخاصة محدودة وغير مكتملة. لذلك يقال إن هناك اتصالًا وثيقًا بين الديمقراطية واستعداد المرء للاعتراف بجهله. لكن يمكن أن يقال إن الديمقراطية، والفعل الجماعي في العموم، هو حقًا شرط لإقرار المرء بجهله، بقدر ما يكون اﻹقرار بجهل المرء شرطًا للفعل الجماعي. تخيل عالمًا ينشغل فيه كل فرد بنفسه بلا أي شيء عدا عمله اﻹداري والتقني الروتيني. إذا لم ينخرط أحد في عمل جماعي، ستبرز في اﻷغلب فرص قليلة للسؤال عمن يفعل ماذا وﻷي غاية وبأي نتيجة. ولن يكون هناك داعٍ لمحاولة رؤية اﻷمور من وجهة نظر اﻵخرين. باختصار، عالم بدون فعل جماعي هو عالم ﻻ نوسع فيه حدود رؤيتنا، وﻻ نستوعب فيه عمق جهلنا. يبدو أن الفعل الجماعي يقدم المادة الخام للفكر ومن ثم للإقرار بالجهل.
لقد حاولت أن أقدم فيما سبق صورة أكثر تعقيدًا للعلاقة بين الجهل والمعرفة، حيث ﻻ تتضمن زيادة المعرفة بالضرورة نقصانًا في الجهل، ذلك يؤكد أن المعرفة يمكن أن تؤدي إلى زيادة في الجهل، والعكس، قد يؤدي الجهل إلى زيادة في المعرفة.
في الجزء الختامي، راعيت تلك التفاصيل حيث يكون الجهل عاملًا جوهريًا في تكوين مجتمعات من الدارسين أو سرب الحمام، تلك حقائق من المهم تذكرها في عصر تميل فيه المعرفة والاستقلالية لحيازة أولوية على الجهل والمجتمع.
[1] يُنسب هذا الاقتباس خطأ لبليز باسكال، ولكنه يوجد في هامش في نسخة 1986 من كتابه:
Pansées. Blaise Pascal, “The Thoughts, Letters, and Opuscules of Blaise Pascal, translated by O.W. Wright (New York: Riverside Press, 1869), Ch. IV, 191.
[2] Kevin Kelley, “The Expansion of Ignorance,” The Technium, last modified October 2, 2008): http://kk.org/thetechnium/the-expansion-o/.
[3] Petrarch, “On His Own Ignorance,” in The Renaissance Philosophy of Man, ed. Ernest Cassier et. al. (Chicago: Chicago University Press, 1948), 117.
[4] José Ortega y Gasset, What is Philosophy?, trans. by Mildred Adams (New York: Norton, 1960), 70.
[5] George Santayana, Scepticism and Animal Faith (New York: Dover, 1955), 1.
[6] Ralph Waldo Emerson, “Intellect,” in Essays: First and Second Series (New York: Library of America, 199), 194.
[9] Søren Kierkegaard, Fear and Trembling, trans. Alastair Hannay (New York: Penguin Books, 2005), Preface, 5.
[10] Ralph Waldo Emerson, “Intellect,” in Essays: First and Second Series (New York: Library of America, 199), 195.
[12] Theodor Adorno, Minima Moralia: Reflections from Damaged Life (London: Verso, 2005),Ch. 85, 132.
[13] Junichiro Tanizaki, In Praise of Shadows (London: Vintage Books, 2001), 46.
[14] Laozi, Dao De Jing Ch. 29, in Readings In Classical Chinese Philosophy, ed. Philip Ivanhoe and Bryan Van Norden (New York: Seven Bridges Press, 2001), 173.
[15] Zhunagzi Ch. 2., in Readings In Classical Chinese Philosophy, ed. Philip Ivanhoe and Bryan Van Norden (New York: Seven Bridges Press, 2001), 214. Trans. mod.
[16] Emerson, “Intellect,” 194.
[17] Raymond Dean, “Optimizing Uncertainty,” The Virtues of Ignorance: Complexity, Sustainability and the Limits of Knowledge, eds. Bill Vitek and Wes Jackson (Lexington: University Press of Kentucky, 2008), 81-100.
[18] Friedrich Nietzsche, On the Advantage and Disadvantage of History for Life (Indianapolis: Hackett, 1980), 10.
[19] Friedrich Nietzsche, On The Genealogy of Morals and Ecce Homo, trans. Walter Kaufmann (New York: Random House, 1989), 57.
[21] Emerson, “Intellect,” 189.
[22] Plotinus, Enneads V.6.5.9.
[23] Hannah Arendt, The Life of the Mind (New York: Hardcourt, 1978), 61.
[24] Cynthia Townley, “Toward a Revaluation of Ignorance,” Hypatia Vol. 21 No. 3 (Summer 2006): 37-55. The ideas to follow can be found in Townley’s essay.
[25] Aldo Leopold. A Sand County Almanac and Sketches Here and There (New York: Oxford University Press, 1949), 202.
[27] John Dewey, “On Democracy,” excerpted from John Dewey, "Democracy and Educational Administration," School and Society 45 (April 3, 1937); 457-67.