كان أبو نار يسير واضعًا يده في جيبه الجينز الأسود، رافعًا رأسه لأعلي، لا يبالي بما يتلقاه من كلام يسم البدن، بل يرد بصوت خافت "حقي يا ولاد الوسخة".

الصعود إلى السماء

قصة لأمجد الصبان


Binoculars لـ Tucker Eason

- والله ما هتورد على جنة

- الله يرحمك يا عطيات، تعالي شوفي خيبة ابنك المايل.

- حرام عليك اللي انت عملته، يا ابني انت مستحرم عليها شوية هواء نظيف، حرام عليك اللي انت عملته إمبارح.

كان أبو نار يسير واضعًا يده في جيبه الجينز الأسود، رافعًا رأسه لأعلي، لا يبالي بما يتلقاه من كلام يسم البدن، بل يرد بصوت خافت "حقي يا ولاد الوسخة". لكن عندما اقترب من المقهى، قبض بشدّة على المطواة بيده بعد أن سحبها من مخبئها بين جسده والبنطال، متأهبًا للعراك الحتمي والمفاجئ مع أهالي الحي.

تطلع بطرف عينه إلى الرجال الجالسين بالصف الأمامي للمقهى، أرجع كتفه إلى الخلف ليكون أكثر مهابة، فيخاف الجالسين بالمقهى، لكن لم يلتفت إليه أحد أو تغافلوا عنه قصدًا، حينها شعر أبو نار بالخطر الحقيقي الذي ينتظره، فصمت الرجال يعني إظهار النية الحقيقة للانتقام. فكر في افتعال مشكلة ويبدأ العراك الآن وينتهي من القلق الذي قد يبتلعه لأيام قادمة، إلا أنه يعلم أن هذا ليس بالوقت المناسب، ليس بالوقت المناسب، فالليلة مصيرية بالنسبة له، فجدّه أخيرًا سمح له بإعطائه إحدى فرساته أو فرسته الوحيدة، كما أضاف جده في الهاتف، أن اليوم هو الأنسب لحدوث التزاوج. 

(2)

قلق شعراوي، عندما رأى من منظاره المقرب أبو نار وهو يقترب من بيته، فألقى المنظار على المكتب وأشعل سيجارة ونفث دخانها بتوتر.

تساءل شعراوي عن الشيء المهم الذي يريده منه أبو نار اليوم ولا يمكن تأجيله قط؟ أهناك عراك جديد مع أحد المناطق المجاورة، وعلينا الاستعداد ورسم الخطط؟ أم يريد الإيغال في عداوته مع أهالي الحي و"يدشدش" لمبات عواميد النور مثلًا.

لام شعراوي نفسه على التورط في أحداث أمس، لكن سرعان ما بدل شعوره بالفخر والمنفعة، فما فعله يقربه من أبو نار كما أنه فِعل رجولي يحتسب له.

بالأمس، رأى شعراوي بمنظاره المقرب سيارات الكلاب وهي تسير من بعيد يقودها بوكس شرطة. وبحسه الأمني العالي، الذي اكتسبه من النظر إلى العالم من خلال منظاره المقرب، فقد عاش وسط بيوت الناس، ورأي الصفع والسرقة والنيك، وزراعة البانجو، فشعر أن هذه السيارات قادمة من أجل أبو نار وكلابه، خصوصًا بعدما ذاع خبر أن أحد تلك الكلاب كاد أن ينهش أحد الأطفال وهو يسير بجانب أمه لولا ستر الله، ومن حينها أصبح هناك غضب يملأ الناس تجاه أبو نار.

على الفور أخبر شعراوي أبو نار بما يتوقعه، ثم ذهب إلى إليه ليساعده في نقل أكثر من ثلاثة عشر كلبًا من سطح أبو نار إلى سطح آخر ملاصق، ثم خبئوهم في شقة فارغة تابعة لأحد أصدقاء أبو نار.

هبطت الحملة على بيت أبو نار، فلم يفتح أحد، ثم صعدوا إلى شقته التي يرعى فيها الكلاب دون جدوى، وكنوع من العقاب، كسر الضباط الأبواب، وسمح للمخبرين بسرقة ما يحتاجونه من محتويات الشقة، وأرسل له رسالة مفادها أن إذا جاءت منه شكوى ثانية لن يخرج من الحبس نهائيًا.

انسحب صوت سارينة الشرطة من هواء الحي، عاد أبو نار إلى بيته، فوجد التلفزيون وثلاجته الصغيرة مسروقين، كما تهشمت مرآة الصالة الكبيرة، وشعر أن هناك تكاليف كبيرة يجب أن تدفع، فقرر الانتقام من أهالي الحي، وبمساعدة فعالة من شعراوي، وبعد منتصف الليل بكثير، قاما بنزع كل أصص الأشجار المزروعة حديثًا بين الأرصفة والتي اشترك أهل الحي في دفع ثمنها بعضهم بعضًا، لتنقي الهواء وتعطي منظرًا جميلًا للحي. لم يقم أبو نار بتقطيع أو حرق الأشجار، فهو كمحب للحيوانات، يدرك أن النبات حيوان أيضًا، لكنه أقل حيوانية، فحمل تلك الأشجار ووضعها على في شقته المؤجرة كي تحل محل الكلاب التي بقيت في شقة الصديق.

(3)

قال أبو نار لشعراوي بشكل مباغت، هو يمسك المنظار ويطالع الرائح والغادي بعدم اهتمام:

- اليوم، هنروح نجيب الفرس من عند جدي وننطه عليها.

ثم سأل أبو نار بتشكك:

- أنت متأكد ان له بتاع؟

أومأ شعراوي رأسه بالإيجاب، وفرد ذراعيه وقال بتوتر:

- أد دراعي

ثم أضاف:

- خلينا نستنى لحد آخر الليل يكون الكل روح ونام.

فرد أبو نار ضاحكًا:  

- الدخلة لازم تكون علني هو مش عاشقها في الضلمة.

(4)

سارا من الشوارع الخلفية من كفر البدماص حتى نهاية الأتوبيس الجديد، حيث إسطبل جدة للخيول، ذلك الإسطبل كان مثار سخرية العائلة كلها. يقولون باع ذهب زوجته واستولى على أرض صغيرة لابنته ثم ابتاع حصانين عاديين ليسا من أي سلالة فاخرة، وأصبح يقدم نفسه كمربي للأحصنة العربية.

كانت علاقة أبو نار بجده مضطربة، فهو يدرك أنه من ورث عنه حب الحيوانات، لكنه كان يكرهه أو يحمل تجاهه غصة ما، إذ لم يرعاه إطلاقًا بعدما وفاة والديه في حادث سير، لكن مؤخرًا بدأت علاقة جديدة تتكون بينهما، علاقة منفعة خصوصًا من أبو نار الذي ارتأى في الإسطبل مكانًا جيدًا لتحويلها إلى مزرعة كلاب، يكبر حجم إنتاجه ومن ثم يبيع ويكسب، لكن حين عرض الأمر على جده، رفض بملل قائلًا "على آخر الزمن أبقي أبو كلبه. لما أخفي ابقي اعملها".

لكن بعد المعلومة الإضافية التي أخبره بها شعراوي، قرر أبو نار إنتاج نوع جديد من الخيول الفريدة، فقد أخبره أنه يملك أحادي القرن أو يونيكورن. لم يعرف أبو نار ما هو الحصان أحادي القرن، فشرح أنه حصان لديه قرن ذهبي في المنتصف وأجنحة. جنُ أبو نار، ثم سأله بلهجة الفاهم ومن أين جاء هذا اليونيكورن؟

تنحنح شعراوي وقال:

- جدي كان من أولياء الله الصالحين وكان بيطلع بيه السما كتير

لم يعترض أبو نار على الحكاية رغم غرابتها، فمن يستطيع أن يشك في ولاية جده ذائعة الصيت؟ سأله أبو نار لماذا لم نعرف عن هذا اليونيكورن من قبل؟ ألم يصهل مرة صهيلًا قويًا فترتج له الأرض؟ فرد شعراوي "بقي تعبان"، هكذا تقول أمي، حتى أجنحته معطوبة" لماذا لم يعود اليونيكورن إلى السماء فور وفاة جده؟ فأجاب شعراوي بأنه في انتظار أن يظهر أحد الأولياء الصالحين ليأخذه ثم يصعد به إلى السماء. "رحت السما قبل كده يا شعراوي؟"

- لا ومش هينفع ناخده ونطلع السما عشان ده مش لأي حد.

أخذه شعراوي إلى خلوة جده فوق السطح وجعله يطل من كوة، فرأي شيئًا مهيبًا يقف بالأسفل، وعندما رفع اليونيكورن رأسه إلى أعلى، تراجع أبو نار إلى الخلف كأنه انقبض روحه وردد مخضوضًا:

- تمام تمام.

(5)

طرقا على باب الإسطبل الحديدي مرات عديدة ثم جلسا على الرصيف المجاور في حالة فقدان أمل، ثم سمعا صوت المزلاج وهو يفتح ببطء كأنه يفتح منذ زمن آخر.

تبعا الكهل الى الداخل في صمت بيِّن حتى وصلوا إلى مكان أشبه بالزنزانة، دفع الكهل الباب الحديدي وأخرج من جلبابه كشافًا ضوئيًا وأطلق الضوء على الحيوان الراكد بالداخل، كانت فرسًا هزيلة عظامها ناتئة وجسدها متقيح، نهضت الفرس من على الأرض، اتجه أبو نار إليها، حنن على رأسها، ثم أخرجها من قمرتها، نظر بعينه في أرجاء المكان، وجد خرطومًا ملقى على الأرض، حمل الخرطوم واتجه شعراوي إلى الصنبور المياه وفتحه، فتدفقت المياه على جسدها، شكك شعراوي في قدرة الفرس الهزيلة على تحمل قوة أحادي القرن.

ركَّبا سرجًا على الفرس وهما يقولان لها "يا عروسة ". لكن العروسة كانت لامبالية تمامًا، إنها مجبورة على هذه التزاوج الفريد من نوعه، قال لها أبو نار:

- زبه كبير يا بت هيكيفك متقلقيش

لكنه شعر بنفسه سخيفًا، نادي علي جده للخروج كي يودعه، أو يغلق الباب خلفه حتى، لكنه لم يجب.

(6)

سارت الفرس في بينهما وجسدها يقطر المياه المتبقية من الاستحمام، لم يكونوا يملكون خرقة لتجفيف جسدها، كان الإحباط يتنامى بداخلهما تدريجيًا، كانت هزيلة، وكانوا يشعرون بأنهم مجرمون، يزوجون طفلة إلى كهل. حاول أبو نار كسر رتابة الحوار، أو الصمت، لكن شعراوي لم يشجعه، فسار أبو نار يزيح بعضًا من المياه العالقة بجسدها، في طريقهم مروا بمحل منتجات قماشية، فاشتري منشفة للفرس، واشتري شالًا أسود اللون. عند اقترابهم من الشارع، صعد أبو نار على الفرس، وغطى وجهه بالشال، ثم قفز على الفرس التي استجمعت قوتها بصعوبة، حاول السير بها، فكانت بطيئة، فلم يظهر لأهالي المنطقة كالفارس المغوار، إنما شخص أعوج لا طريق لصلاح حاله، غير مرئي طيلة عبوره من بداية الشارع حتى ترجل من على الفرسة.

(7)

صعد شعراوي إلى المنزل، دار في البيت العتيق، كانت أمه تقرأ القرآن، فدخل إلى غرفتها وسرق مفتاح الكوة، ثم نزل إلى الشارع. 

فتح شعراوي البوابة، فانقض اليونيكورن سريعًا وضرب بقرنه رقبة الفرس التي خرت على الأرض، وركض خارج البوابة الكبيرة. كان نافورة الدماء تغرق وجه أبو نار. لكنه استفاق سريعًا واستشعر بوجود كارثة في الطريق، فركض بشدة خلفه فرآه ينطح ويرفس الناس في فزع. رأي بعضًا من أهالي العمارة يخرجون من عمارته وهم يحملون أصص الزرع. صعد إلى شقة صديقه وأخرج الكلاب "البيتبول". كان يفكر في أنها الوحيدة القادرة على إيقاف ذلك الكائن الهائج. 

(8)

تحركت عضلات الكلاب القوية وقفزت من فوق السلالم، تحك أسنانها بعضها ببعض لتصبح أكثر حدة، تفتحها فمها الذي يسيل منه الزبد، ثم رأت الحيوان قويًا غشيمًا، فانقضت على السائرين في الشوارع، لتجد بعضًا من الطماطم يطير في الهواء، رجلًا وجهه يسيل بالدماء، امرأة تسقط على وجهها، أصص الزرع تتهشم، طفلًا يبكي مختبئًا تحت سيارة، قطًا محمولًا في فك أحدهم. وقف أبو نار ملطخًا بالدماء، يضرب في أذنه صوت الصراخ المتعالي، ونباح الكلاب وصوت أنفاس الحيوان الذي يحاول الطيران وللخروج من المنطقة كلها، كان يطالع الوجوه الفزعة وجثث الكلاب والأفخاذ المهبوشة والصدور التي تقطر دمًا. كان يفكر في الهرب والاختباء في مزرعة جدة إلى الأبد، لكنه شعر ببعض المسؤولية، جعلته يسرق موتوسيكلًا واقعًا على الأرض ويركض خلف الكلاب حتى لا تحدث مزيدًا من المصائب، وإلى أن تم القبض عليه أعاد ثمانية كلاب، وأخبر الشرطي بالحيوان المفترس المسعور المطلوق في شوارع المدينة.

(9)

كانت خسائر عملية التكاثر الفاشل، قتل الفرس المغدورة، وسبعة وعشرون إصابة بين خطيرة ومتوسطة، وتدمير أصص الزرع المستعادة، واختفاء خمس كلاب. قال أبو نار في التحقيقات، إن الحيوان كسر البوابة وهاجم الناس في الشوارع، وقتل فرسة جده السائبة، فأخرج الكلاب لإيقافه، لكن لم تهتم الشرطة بكلامه، فكانت تريد أن تعرف من أين جاء هذا الحيوان؟ هل يوجد نسخ أخرى منه؟ فأجاب شعراوي أنه جاء من السماء، ثم أضاف: ونسي يعود إليها مرة أخرى. استخدمت الشرطة الصواعق الكهربائية حتى يجيب إجابة أكثر منطقية مثل هل تم تهريبه إلى الداخل البلاد؟ لكنه كان يردد والشحنات الكهربائية ما زالت تسري في جسده "جدي اللي جابه من السما"، أما أبو نار فكان يهلفط أثناء استراحة خلاياه من التعذيب حتى لا يموت "كنا عايزين نركب ده على ده ونجيب عيال ونسترزق يا باشا".

(10)

على شاشة صغيرة، في غرفة عمليات وزارة الداخلية، تُعرَض مشاهد التُقطتْ من عدة كاميرات عن اليونيكورن وهو يركض مذعورًا في شارع قناة السويس، توريل، ميدان أم كلثوم، ثم الأستاذ، كان يقفز فوق السيارات أو يدمر لمبات الإنارة، يقف على رجليه، يصهل بصوت عال ناحية السماء، كأنه يذكّر شخصًا ما بوجوده. قال أحد الضباط الموجودين في غرفة العمليات:

- ليه ميستناش يوم الجمعة لما تكون أبواب السماء مفتوحة.

لم تتخذ الحكومة أي إجراء يذكر لصيد الحيوان، إنما تركته لمصيره في الدنيا، متوقعة أن تصدمه سيارة وينفق على قارعة الطريق، أو يهرب من تلك المدينة، فتنقل مسؤولية القبض عليه أو قتله الى محافظة أخرى، ولم تتغير وجهة النظر هذه، حتى بمقتل أحد الفتيان العائدين من دروس الكيمياء. لكن رئيس حديقة الحيوانات، أقنع سيادة المحافظ، بضرورة الحفاظ على الحيوان وضمه إلى حديقة الحيوانات، حتى تكون أقوى حديقة في الجمهورية كلها، وحاول أن يخاطب المحافظ بلغة المصلحة التي يفهمها، وقال في أذنه، إننا نستطيع استخدام اليونيكورن في تقوية العلاقات مع السماء، " نزود عمر حد، نشيل العذاب مع حد، ندخل حد الجنة وننتفع". قال المحافظ غير مقتنع: "كل شيء جايز، بس خلينا أحسن في حديقة الحيوانات دي أظرف".

هنا شعر رئيس حديقة الحيوانات أنه فضح نفسه، بعدما أفصح عن ما يدور في عقله للمحافظ، لكنه يفكر أن الدنيا لا تمنح لحظات نادرة بكثرة مثل وجود اليونيكورن. نعت أبو نار والشعراوي بالهبل والمجانين الذين أرادوا الاستنفاع بتكاثر حيوان نادر سماوي، كان حاتم الكابتن، الدكتور البيطري السابق ورئيس حديقة الحيوان، المقطوع من شجرة، الأعزب، المدمن سابقًا على الكيتامين، وحاليًا على حبوب الليريكا، يرغب في الحصول على وحيد القرن، ليحقق حلمًا قديمًا بالصعود إلى أعلى ناحية القمر: يسبح في الفضاء الخارجي ثم يسقط أينما تريد له الحياة. كان يأخذ خطته على محمل الجد، لدرجة أنه ابتاع بدلة رائد فضاء غالية الثمن، كلفته نصف ثروته.

(11)

قدم رئيس حديقة الحيوان الحل وهو صيده عن طريق الفتيات العذراوات الجميلات، فينجذب إليهن الكائن ويخر ضعيفًا أمامهن فيسهل اصطياده، قال المحافظ تعليقًا على المقترح:

- لو كلام العيال صدق، وأنه كان بيوصل وليّ من أولياء الله يبقي الحيوان ده ملوش في الستات ولا الكلام الفارغ ده.

فرد عليه رئيس حديقة الحيوان بثقة مجنونة، قائلًا:

- متقلقش كلهم ليهم في ده.

(12)

فور انتهاء الطابور الصباحي لمدارس البنات للمرحلة الإعدادية والثانوية، تحركت الطوابير ناحية بوابة المدرسة الرئيسية، ثم خرجت إلى الشارع، حتى التحمت بطالبات المدارس الأخرى، ثم التحمت بمدرسة أخرى وهكذا، كأن سيل القمصان البيضاء حولت الشوارع إلى طبق من كيكة الفانيليا التي تزينها كرزات متنوعة بألوان الحجاب أو الشعور الملونة، وبالرغم من أن المسيرة يحيط بها ضباط إلا إنها لم تخل من مضايقات الشباب المسعور، فكانوا يلقون بزجاجات المياه على البنات، ثم يهربون،  كما أن أبواق السيارات الزاعقة في الشارع بالتأكيد ستنبه الحيوان، فلم يأت، وهذا ضايق رئيس حديقة الحيوانات، ووصف للمحافظ بأن الطقس يجب أن يكون أكثر قدسية، فتسير البنات في صمت وهدوء مثل عذريتهن.

(13)

بعد فشل مسيرتين، اقترح رئيس حديقة الحيوانات، بخجل، أن تغير البنات ملابس المدرسة ويتحولن لشيء أكثر إثارة، بلهجة قاسية رفض المحافظ تمديد المسيرات، فشعر رئيس حديقة الحيوان بخوف من فقدانه لمنصبه في التعيينات القادمة، وبإحباط عام، ماذا سيفعل ببذلة رواد الفضاء التي وصلت حديثًا؟ أيخسر ثمنها بهذه السهولة.  فذهب إلى منزل شعراوي وقابل أمه وسألها بهدوء:

- كيف حصل الشيخ الجليل على الحيوان؟

فأخبرته أنه طلب من الله أن يعطيه أفضل ركوبة لأنه عاش كل حياته سائرًا. أضاف:  

- لو قبضنا على الحيوان، ممكن نخرج ابنك من السجن.

تهلل وجه الام ثم أجابت:

- معرفش أساعدك ازاي.

ثم انتفضت من على المقعد ودخلت إلى غرفة التخزين، فتحت دولابًا قديمًا وأخرجت عباءة خضراء قديمة لا تدري أهي حقًا للجد أم لشخص أخر، قالت إلى رئيس حديقة الحيوان:  

- يمكن لو شم ريحتها يجي يرجع ولا حاجة.

قبل أن تعطيه العباءة وتتأكد من قدرته على التنفيذ، رغبت في مقابلة ابنها مقابلة استثنائية، لأن هناك كلمتين "محشورين فى زورها".

نفذ الوعد، والتقت بابنها في غرفة المأمور، وأخبرته بأنه أضاع ميراث الجد، وخالف وصيته، ولكي تستطيع مقابلته فرطت في عباءته أيضًا، كما أن أهالي المنطقة يعاملونها بازدراء شديد، كأنها هي من أطلقت الحيوان في الشارع، نظر شعراوي إلى الأرض فأخبرته أنها ما زالت تحبه ثم احتضنته وخرجت.

يعلم شعراوي أن أمه لا تبالي في أي موقف هو، إنما جاءت لتلقي عليه خلطتها المفضلة، الحب والذنب. بعد زيارتها، دخل في حالة من الحزن وأوقف الكلام مع أبو نار الذي جره لتلك الأفعال المجنونة، ثم لام نفسه لأنه يبحث عن رجولة تافهة قوامها السجائر والكلاب والشقاوة القديمة. أما أبو نار، فكان يقول لنفسه مقتبسًا كلام أحد مدربي النادي الأهلي الذي يعشقه "أهم حاجة المحاولة، ولو كانت نفعت كانت زهزهت، أهي خلاص، طربأه فوق طربأه".

(14)

رطم وحيد القرن نفسه بالحائط، حتى تخلص من قرنه، وبعض من عظام وريش أجنحته المعطوبة، ثم عبر ترعة صغيرة، فاكتسي لونه بالسواد، وكان يظهر للعيان كحصان بجسد متقيح ومضروب وأنيابه تخرج من شفتيه المقطوعة، فلم يقرب أحد منه. تجول في الشوارع المتطرفة حتى دخل إلى المقابر، وبقي هناك إلى أن صعد إلى السماء.  

(15)

منذ أن دخلت العباءة حياة رئيس حديقة الحيوانات، مُلئت حياته بالاضطرابات. كان يضع العباءة على المنشر، ثم يجلس على مقعد يقاوم النوم خوفًا من أن يأتي ولا يقبض عليه ثم يضعه في جراج كبير قد هيأه له. حين لم تنفع تلك الحيلة غيّر الخطة إلى لصق العباءة بالسيارة ثم انطلق يجوب الشوارع، لكنه شعر بالسخافة، فصعد إلى بيته، وارتدي العباءة التي يصل طولها تحت الركبة بمسافة بسيطة، ثم سار في شوارع المدينة، في رحلة لا تنتهي قط، حتى أنه في لحظات يائسة نادى على الحيوانات قائلًا: " تعاليلي أنا عذراء".

(16)

لم ينس الحي تلك الليلة، فمنعوا تربية الكلاب، بل الحيوانات بكافة أطيافها. وخرج أبو نار وشعراوي من السجن. عاش أبو نار في مزرعة جده، كارهًا أن يربي أي شيء، أما شعراوي فعاد ثانية إلى بيته وكره أن يعود إلى منظاره المقرب، أما حديقة الحيوان فقد عُين لها رئيس جديد يشتاق أيضًا إلي حيوان أحادي القرن. وفي أحد الأيام وبعد فترة طويلة، جاءت جرافات الدولة لهدم المقابر ونقلها إلى منطقة أخرى، وأثناء إخراج الجثث، تحت إشراف شعراوي، فتحوا مقبرة الجد الأكبر، فلم يجدوا جثته ولا حتى بقايا هيكله العظمي، كانت خاوية!