تُؤكِّدُ حياة المسيحِ الأرضيَّة حتميَّة "السخرية"
المسيح والساخرون
مقال سارة عمري
«فأخذ عسكرُ الوالي يسوعَ إلى دار الولاية وجمعوا عليه كل الكتيبة، فَعَرَّوْه وَألبسوه رداءً قرمزيًّا، وَضفَروا إكليلًا من شوكٍ ووضعوه على رأسه، وَقصبةً في يمينه. وكانوا يَجْثُونَ قدَّامه ويستهْزِئون به قائِلين: «السَّلام يا ملك اليهود». وَبصقوا عليه، وأخذوا القصبةَ وضربوه على رأسه، وَبعد ما اسْتَهْزَأوا به، نزعوا عنه الرِّداءَ وأَلْبسوه ثيابه، ومضوا به لِلصَّلْبِ.» - الإنجيل بحسب متى
هل يعدُّ الموت على الصليب أهم حادثةٍ رسمت ملامحَ المعتقد المسيحي أم أنَّ هناك أخرى لا تقل عنها سوءًا؟ فالمسيح وهو الشخصية الرئيسية في تاريخ الخلاص، لم يتعرَّض إلى عمليةِ صلبٍ جعلت ناسوته يفارق الحياة أو يجرِّب العذاب الجسديّ ويكتفي بآلامه فحسب، بل عَرَف موقفًا يَصْعُب على الإنسان الحديث تصوّره. لقد سخر البشر منه وهو الإله الذي في الجسد، فأصبح ما حصل محطَّ الاهتمام ومشهدًا بارزًا جعل بعض الفنانين التشكيليِّين يجسِّدونه مرة أخرى في أعمالهم فيقومون بِعَنْوَنَة اللوحة بـالسخرية من المسيح (Mocking of christ) لِتتحوَّل وفقًا لذلك إلى مادة بصرية تعزِّز من تصوُّرات المؤمن عن إلهه وتُشكِّل إدراكه على نحو واقعي أفضلَ مما اعتاد عليه عند السماع أو القراءة.
ورغم أنَّ الفن المسيحي، لاسيما الغربي منه؛ كثيرًا ما ركَّز على إظهار آلام المسيح والتشديد على إنسانيته إلَّا أنَّه قليلًا ما رأينا الفنَّان الديني يتناول موضوع السخرية منه، وقد يرجع السبب إلى كون تصوير الواقعة عملًا غير محبَّبًا تتبعه مخاوف من حساسية دينية قد تنشأ في المجتمع المسيحي، أو مجرَّد تقصير نتيجته رؤية سطحية للموضوع ورمزياته، أو يمكن أن يتعلَّق فقط بِـذائقة الفنان/ رعاة الفن، وتفضيلاتهم لمشاهد أخرى، مع مراعاة اختلاف وتباين الأسباب بحكم الظروف والأفراد.
تُؤكِّدُ حياة المسيحِ الأرضيَّة حتميَّة "السخرية"، بِوسعنا تعريفها سلبًا على أنَّها ظاهرة لغويَّة وصوتيَّة فهي كلامٌ قد يتحدُّ مع الضحكّ، كما أنَّها سلوكٌ جسديّ بوسعه تَوْظِيف القوَّة ولغة الإيحاء كَتقليد الشخص، أو الإشارة إليه بايماءات تحقيرية والإعتداء عليه. إنَّها عنفٌ رمزيٌّ وماديٌ، وإزعاجٌ ممنهج ومعاناةٌ يجب على الجميع تجربتها حتى الرب نفسه، وما دمتَ تتواجد وسط جماعةٍ من البشر فأنتَ مجبَرٌ على تحمُّل السخرية من دون المقدرة على الفرار من إكراهاتها، وهي تمسُّ انسانيتك بما أنَّك جزءّ من المجتمع بالإضافة إلى اتصَّافها بٌبعدٍ اجتماعيًّ جعل المسيح يبدو إنسانًا أكثر.
إنَّ السخرية في المقام الأوَّل مسألةُ تَواصل وأحكام قيمية تنتمي إلى مجال الجماعة فهي تتطلَّب وجود الآخر وتقاسم الحياة معه، فأن نعيش مع غيرنا يعني أن نتعايش مع مراحل كاملة من المفاهيم والأيديولوجيات. والقصد من هذا أنَّ الإنسان هو بطريقةٍ ما لغة متحرَّكة تتفاعل مع بنائها الدلالي وأفكارها وتصوُّراتها للعالم. وكل ما من شأنه أن يكون هكذا سنجده خاضعًا للتاريخ فنحن يوميًا نحيا مع التاريخ إذن إذ أنَّنا تبعًا له حيوانات تاريخية محمَّلة بأهواءٍ ومعتقداتٍ مِن صُنعه، وما نقرأه في الإنجيل ما هو إلَّا عن مواجهة الرب له بشكلٍ مباشر كغيره من الأفراد غير مكتفيًا بوظيفته القديمة حين كان يراقبه من بعيد ويديره حسبما يشاء بل في كونه مستسلمًا له. إنَّ التاريخ في النهاية وبتعريفٍ آخر ما هو غير صورٍ من العلاقات مع الآخر اختار المسيح الخضوع لها.
المسيح وسقراط
لا يخفى على أحدٍ اطلَّع على سيرَتَيْ المسيح وسقراط المنسوبة إليهما، الشَبَه الحاصل بين الاثنين وتقاطع حياتهما في بعض الوقائع، فقد واجَها المجتمع بِعَوامِه ونُخبَتِه فخالفا التيَّار الفكريِّ السائد. اشتهر سقراط بما دُعي لاحقًا بـالسخرية السقراطية (Socratic Irony) فاستعمل التهكّم على خصومه واستغلَّه في حواراته معهم، أما المسيح فتبنَّاه ليواجِه به معارضيه حتى يُربِكهم ويصل إلى نتيجة أو حقائق معيَّنة مثلما فعلَ الأوّل. وما يجدر أخذه بِعين الاعتبار أنَّ أسلوب المسيح ليس سخرية سلبية تخلو من المنطق والهدف، وهي ليست بغرض الإساءة إلى أشخاص بِعَينِهِم، أضف إلى ذلك أنَّها تعمِّق إنسانيته فتمنحه حسًّا ساخرًا يتجِّه إلى «الحق» في نسخته الإلهية، على الأقل هذا ما يعتقده كلّ مسيحي يتخذّ من القراءة التقليديَّة للإنجيل أساس تصوُّراته الدينيَّة.
لقد ألَّف المؤرِّخ الفرنسيّ أرنست رينان (Ernest Renan) كتابًا يتعقَّبُ فيه تاريخ المسيح النفسيّ متناولًا حياته بطريقة سيكولوجيّة، فَوَصَلَ الإعجاب به إلى اعتبار تهكَّمه أفضل من تهكّم وسخرية سقراط وموليير، ويقول أنَّ المسيح خرج من بيئةٍ يهودية فقاوم أصنامها أما سقراط فقد خرج من عباءة السفسطائيين ففعَل المثل أيضًا.
وإضافة إلى ما قيل، فقد حوكِم المسيح بدعوى تجديفه على الديانة اليهوديّة وادعائه المسيانية ونشْر آراء ومعتقدات زائفة وتعليمها للناس، وأُدينَ سقراط بإفساد عقول شباب أثينا والإلحاد بالآلهة، وبعيدًا عن الاتهامات التعسفيَّة السابقة فلِمحاكمتهما أبعادًا غير معلنة تتعلِّق بعالم السياسة فالإثنان انخرطا في صدامٍ مع السلطة. ولقد قَبِلَ المسيح الموت وهو الإله الذي كان قادرًا على تجنبِّه -بِحسب الإيمان المسيحي-، ورضي سقراط بالحكم عليه رغم وجود طريقة للهرب من قَدرِه المؤلم، فتجرَّع سم الشوكران كما تزعم قصته دلالةً على احترامه للعدالة.
ترتبط حياة هاتين الشخصيتين نسبيًا ما ببعض، أما ما لحق بهما في النهاية فيراه العديد من الأشخاص مصيرًا يبعث على الإحراج ولا يليق بهما، فالسخرية -إذا أُخِذَت بالمفهوم السلبيّ- ظاهرة عدوانية لا ينجو منها أحد حتى الأطفال والقدِّيسين والموتى.
الإله الذي سُخِر منه
ما عاشه الرب في تاريخه الدينيّ ليس عملية صلب واحدة وإنَّما اثنتين، فالأولى تمَّت عبر الإهانات والثانية أُكمِلت بالمسامير والموت على الصليب. فلقد كان ضحية من استهزؤوا به في حضورِه وهم جزءٌ لا يستهان به من العوام والمثقٌَفين الذين قاموا بِمُعايَرَتِه وازدراء أقواله والاعتداء على جسده المقدَّس.
يبدو مِن الصعب على إنسان القرن الحادي والعشرين تقبّل الواقعة لكن بحسب اعتقاد المسيحيِّين فما حدث حقيقي جدًا، لقد عاش الإله معنا يومًا فلم تمنع ألوهيته البعض من السخرية منه، وبِصرف النظر عن صحة السرديَّة المسيحية أم اختلاقها فقد شكَّلت السخرية أهميةً في التأكيد على العذاب الذي تحمَّله يسوع المسيح ليفدي به البشرية، وهي معاناةٌ ضروريّة لإكمال الفداء وحَمْلِ عارِنا، وإثباتًا على فعاليته في ذلك الزمان، إلى جانب أنَّها تقليدٌ عرفناه مع الأنبياء فالنبيّ هو الشخصية الدينيَّة التي يَستهزِئُ معظم الناس برسالته وما تَلقَّاه من الوحي، فوجوده يعتمد على تواجد الساخرِين والمزدرِين بالقرب منه، والمسيح ضمن دائرة الفكر اللاهوتي واحدٌ من الأنبياء أيضًا حيث يُنظَر إليه بِوَصفه الإله الذي جمع بين وظيفة الملك والكاهن والنبي.
في رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية -المنسوبة إليه- نجده يؤكِّد قائلًا: "لا تضلُّوا فإنَّ اللهَ لا يُسْخَر منه، وإنَّما يحصِد الإنسان ما يزرع". فما عاناه المسيح لم يكن خارجًا عن إرادته ومشيئته لأنًَه قد سَمحَ لنفسه بالتواجد في موقفٍ كهذا، فقد رضخ لمصيره ولم يحاول مقاومته، وفضَّل أن تجري الأمور بشكلها الطبيعي من دون سحرٍ إلهي يغيَّر من طبيعة العالم والنفس البشرية. ولم تكن السخرية أثناء القبض عليه ومُحاكمَتِه فقط بل بدأت منذ رحلته مع تلاميذه، فالكثيرون أرادوا النيْلَ منه من غير أن يكونوا جميعًا شخصيات معروفة مثل الفَرِّيسِيِّين والصَدُّوقيِّين بل مِنَ اليهود والأُمَمِيين والجنود الرومان، والوضع يتفاقم أكثر بعد إدانته.
إنَّ الإله بالنسبة لرسوله لا يُمكن الإنتقاص منه، إلَّا أنَّ فعل السخرية قد تمَّ حرفيًا فهل يستطيع إيقافه وبأيِّ كيفية؟ بالترهيب، والإبادة أو إظهار قوَّته عبر المعجزة؟ فذلك ما قدَّمه الأنبياء لشعوبهم ومع ذلك لم تنجح المعجزاتُ في جعل الكثيرين منهم مقتنعين بإلههم. أم بوسع هذا الإله ببساطة تحويلهم إلى مؤمنين به؟ ما يتناقض مع الإرادة الحرَّة التي منحها للبشر، ويدمِّر أيضًا المعنى المتأصِّل في الإيمان وعقيدة الفداء، فمن الناحية العمليَّة يعتبر حلّ كهذا غير معقول ومحض عبث تعوزه القيم الأخلاقية. فالسخرية في المقام الأوَّل حتمية اجتماعية، وقد تُفرَض على الإله ليكون كذلك، وهي في ظروف معيَّنة الخطّ الفاصل بين المؤمن وغير المؤمن.
ولقد ارتبطت بمصير المسيح حتى قبل ظهوره، فعلى سبيل التوضيح، من الصعب استيعاب حياته وفَهم طبيعته اللاهوتيّة والناسوتية في تقليد الكنيسة بمعزلٍ عن العهد القديم الذي يمدَّه بالشرعية. يَذكُرْ سِفر المزامير: "أمَّا أنا فدودةٌ لا إنسان، عارٌ عند البشر ومُحتَقرُ الشعب" تُفهَم الآية الأخيرة بوصفها نبوءة شهيرة تُستخدم ضمن السياق المسيحي للإعلان عن ما سيواجهه؛ ففي باطنها قسوة تمسُّه يَتْبعها ألمٌ نفسيّ وشعورٌ بالاحتقار. وإنَّ جميع تلك الممارسات وردود الفعل العاطفيَّة التي تنتج عنها تتصِّل بالسخرية، وما مرّ به المسيح لا يختلف عن أيّ إنسان آخر وهذا هو الجزء الأنثروبولوجي الذي منحه الإنجيل له.
لقد سَخَرَ الجنودُ منه بعدما قاموا بضربه فسألوه باستهزاء عن هوية مَن ضربه. وطلب رؤساء الكهنة منه النزول من الصليب ما دام هو ناقضُ الهيكل وبانيه مثلما أخبرهم. فالعنف في وسعه الاقتران بالسخرية، ليس على المستوى المفاهيميّ فحسب وإنَّما اللسانيّ، لنرى الأصل الاشتقاقي (Etymological) لكلمة (Sarcasm/ التهكُّم) (1)، التي جاءت من الكلمة الإغريقيَّة sarcasmus ومعناها حرفيًا "تمزيق اللحم، نزع اللحم (مثلما تفعل الكلاب)"(2). ولقد قُطِع لحم المسيح بعد جَلْده، ووُضِعَ إكليل الشوك على جبهته وطُعِنَ بالحربة، وقد حافظ مع ذلك على وداعته التي يعتبرها أتباعه قبولًا بِمَصيرِه البائس على الأرض الذي يجب أن يكتمل حتى يتحقَّق الخلاص، فهل يتطلَّب نجاح السخرية واكتمالها ضعف وقلَّة حيلة ضحاياها أو على الأقَّل تسامحهم مع الساخرين؟.
ونقرأ حول الموضوع ذاته فضلًا على ذلك مظهرًا آخر من السخريات أشبه بِمفارقة في قصة المسيح مع يهوذا الاسخريوطي؛ التلميذ الذي وشى به وسلَّمه للسلطات عن طريق تقبيله لأجل أن يتعرَّف الجنود عليه وهو بين تلاميذه. فلقد ناقضت قُبلة يهوذا وجودها الأساسي وتخلَّت عن المعنى المؤسِّس لها الذي تمثِّله المحبةَ والتقدير أو الاشتهاء، وأضحت علامةً على الخيانة، والنفور، والحسِّ الجلف الذي اتصَّف به هذا الأخير، فما حدث هو سخرية على شكلِ قبلة جعلت من المسيح يسأله في تعجِّب عن كيف سمح لنفسه أن يسلَّمه بتلك الطريقة. ورغم أنَّ سؤاله بلاغي (Rhetorical) لا يرجو منه أيّ جواب، غير أنَّه يشير إلى معاناته الأرضية في فهم ذهنية مخلوقاته وسلوكاتهم المعقدَّة التي أراد أن يتماهى معها، فهو قادرٌ على توظيف السخرية لا أن يعيشها أو يتصِّف بها بالكيفية ذاتها التي يمتلكونها. فـ البشر يكذبون ويظلمون ويخطئون ويستهزئون ببعضهم البعض ويتصرَّفون تصرُّفات غير مبرِّرة وغير منطقية، وهذا ما يجعلهم بشرًا أما المسيح فهو غير قادر على ما سبق؛ أي أنَّه عاجز على التصرُّف مثلهم، صحيح أنَّه صار إنسانًا بالجسد واختبر العديد من التجارب الإنسانية وعاش مثلهم غير أنَّ جوهره الحقيقي يكمن في الإلهي.
إنَّ ادعاءًا مثل ادعائنا السابق يمكن أن يبطله المسيحي الذي يعتبر الإنسان على صورة الإله فجوهره خيِّر أما مثل تلك الأهواء والممارسات الشريرة فقد جاءت بفعل الخطيئة الجدية وهي نتيجة عرضية للفساد وانفصال البشر عن طبيعتهم الأصلية وروح الإله، فـ المسيح هو أحسن ممثِّل للإنسان لأنَّه جاء على صورته الأصلية، غير أنَّه يمكن اعتبار ما تقدَّم ذكره مجرَّد ادعاءٍ أساسه الإيمان التقليدي الذي يؤسِّس وجود البشر أسطوريًا لا حسب المعطيات الواقعية والنفسية، ناهيك عن عدم وجود إنسان يمثِّل هذا النموذج المثالي فالإيمان المسيحي ذاته يعترف بأنَّ الجميع قد خطئوا منذ آدم.
اغتراب الإله
إنَّ تاريخ المسيح أشبه بتاريخ الفرد الذي لم تنسجم أفكاره وسلوكاته مع المجتمع، فعندما لم يتفِّق مع جمود ودوغماطيقية اليهودية أدخَل فنَّا روحيًّا جديدًا عليها أضحى بعده ديانة أخرى. ولقد نجح الإنجيل بإيضاح الجانب النفسيّ للمسيح: الشخصية الأساسية فيه.
لقد أعلن المؤرِّخ هايدن وايت يومًا بأنَّ (Hayden White) "التاريخ هو السخرية أساسًا" (3)، فما وقع للرب هو جزءٌ من الصراع الذي كُتِب على البشرية، يتحملَّه الإنسان في تاريخه وهو في احتكاكٍ مع الآخرين، ولقد جرَّب ذلك وهو الإله الذي حلّ بين كائناتٍ من غير طبيعته الجوهريَّة، فالصدام مع الآخر شديد حتى عليه. وهو رجلٌ وإلهٍ غريب عن العالم رغم أنَّه مَن خلقه. لن نستغرب عندما نكتشف أنَّ المسيح كان يقدِّر ويقيم علاقات حميمية مع المنبوذين والمكروهين كـ الفقراء والعميان والممسوسين أو الأمميِّين والزواني وجُباة الضرائب الذين عوملوا بانتقاص وهي المعاملة نفسها التي لاقاها من بعض ممن حاموا حوله. وبالرغم من سعيه إلى الإئتلاف مع الناس، ومحاولات إدراك إنسانيتهم عبر التجسُّد في مقاومة واضحة لفكرة الإله المتفرِّد البعيد عن عالمنا، والإلزامات التي تحتِّمها هويته الإلهية التي تتضارب مع هويتنا البشرية، إلَّا أنَّ التجسُّد يعدُّ ظاهرة جماليَّة ووجودية زوَّدتنا بمفهوم جديد وجوهري عن الإله الذي أراد أن يصير واحدًا منا ويحتفظ بأصله الإلهي في الوقت ذاته، وهو متفطَّن لصعوبة مهمته مع معظم من عاصروه وهو إنسان.
إنَّ قصة كل إلهٍ هي قصة سوء فهم مع الأشياء التي أخرجها إلى الوجود، وعزلة عنها، فهو يحاول على الدوام التصالح معنا أو أن يكون واحدًا منا مع عجزه عن تحقيق مراده، فما يمرُّ به هو اغترابٌ إلهي نستطيع تقسميه إلى شقين؛ الشقّ الاجتماعي ويرتبط بتفرُّده واختلافه عن الإنسان الذي جعله يلقى صعوبات عديدة في محاولته للاندماج مع الجماعات اليهودية وغير اليهودية.
والشقّ الذاتي وهو تجربة الاغتراب الذي خاضها بينه وبين نفسه، فتواجده في بستان جثسيماني قبل القاء القبض عليه وحديثه مع الآب عن مصيره وهو حزينٌ حتى الموت حسبما أَعلَن اعتبَره مجمع القسطنطينية الثالث دليلًا على وجود إرادتين للمسيحِ هما الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية، اللتان تشكلَّان الإرادة الكاملة للمسيح. (4) غير أنَّه يمكن ترجمة الموقف إلى اغترابه عن ذاته فقد وجد المسيح نفسه عالقًا في وضعية حرجة وهو الإله الذي يريد الموت، والإنسان الذي يحب الحياة في الوقت عينه، ولأنَّه كيان واحد وليس شخصين منفصلين فقد قَبِل بنهايته ولم يعترض عليها أو يتهرَّب منها، وكان لزامًا عليه أن يرتشف من السم الذي يدعى بالموت مثل سقراط.
بوسعنا الاستنتاج بأنّ الإنجيل قدَّم لنا حكايةً عن إلهٍٍ عاش في اغتراب عن مجتمعه إذ يُقابِل مسلكه الأرضي قصصَ البشر المُغترِبين في حياتهم الذين يعترضهم حائطٌ اجتماعي أو نفسي يفصلهم عن الآخرين، والكتاب المقدَّس لا يتجِّه في جوهره إلى الإله وإنَّما يصوِّب هدفه على نحوٍ غير مباشر على الإنسان فاهتمامه الحقيقيّ ينصب عليه.
السخرية والجهل
ما يوجد في الإنجيل ليس مجرّد تَأْريخٍ للسخرية داخل حياة يسوع ومحاولاتٍ لإثبات تَحقُّقِها من خلال نبوءات العهد القديم فقط، بل تقريرٌ واضح يحمل رسالةً مبطنَّة لمُعاصري الإنجيل أو أولئك الذين سيأتون بعده، رسالة تراهن على استجابتهم اللاشعورية. ببساطة يسهل القول أنّها تقنيَّة ذكيَّة تعتمد على الإيعاز غير المباشر، وتهدف إلى تجنُّب الاستخفاف بيسوع المسيح والحثِّ بالمقابل على أخذه على محمل الجد أثناء قراءة سيرته، فالجنود وهم يسيئون إليه يبدون مجموعةً من الحمقى الذين لا يحملون أيَّ حكمة. ربما ستُجبِرُنا ردود أفعالهم التي نَقَلَها الإنجيل على النفور منهم، والتعاطف مع محنة المسيح آخذين بمزاعمه على محمل الجدّ، وربَّما تصديقهِ بعدما حورب بشدّة، فأحيانًا يتجلَّى "الصواب" بالنسبة للبعض وباستمرار في صفِّ المضطَهَدِين فيكتسب قيمةً عاطفيَّةً تضطَّرهم إلى الإيمان بقضايا ومواقف هؤلاء الذين ظُلِموا.
يفترض سقراط أنَّ الشرّ ناتج عن الجهل، ومثله المسيح الذي وصفهم عند صلبه أنَّهم غير مدركين لما يفعلونه متمنيًا لهم المغفرة. فهل جاءت أفعال الكتيبة والعوام من جهلهم؟ أم أنَّهم كانوا بيادقًا تحت حُكْمِ الشياطين كما صوّرهم الفنان الهولندي هيرونيموس بوش (Hieronymus Bosch) في لوحته "المسيح يحمل الصليب" "Christ Carrying The Cross" وهم يحيطون بالمسيح الذي يسير حاملًا صليبه ووجوهم الساخرة والمزدرية أقرب إلى ملامح الوحوش والمسوخ.
ففي كتاب "فلسفة الفكاهة" يَكتبُ تيري ايغلتون: "الشيطانيً هو صوتُ الضحكةِ الساخرةِ الذي يقلِّص ادعائيَّة الملائكي"(5). نستطيع فهم كلام تيري ايغلتون على نحوٍ واقعيٍّ عندما ندمجه مع موضوعنا، إنَّ المسيح رمزٌ للنظام الأخلاقيَّ والدينيّ على عكس الشيطان الذي يفصح عن وضعٍ يسوده الإنحلال والفوضى، فهذا الكيان الذي يوصف بالشرّ -أي الشيطان- نراه مستوعبًا لحقيقة الموجودات والأفكار التي يعبِّر عنها (المُثُل الفاسدة) وإرادته التي تتجِّه نحو الإنحراف. وبالنسبة لليقين الدينيِّ الذي يختزل أفعال فئةٍ من المذنبين إلى منطقٍ ميتافيزيقي لا يتسِّم بالمرونة كثيرٌ من هؤلاء المذنبين يتعمَّدون التجديف على الإله، وهم بحسب الخطاب الكهنوتي ليسوا غارقين في نشوة شرورهم إلى حدِّ العمى الأخلاقي وإنَّما يعرفون حقيقة أفعالهم وما يقومون به جاعلين بذلك الشيطانَ مَثَلهم الأعلى!
في لوحةٍ أخرى لهيرونيموس بوش هي: المسيح عرضة للسخرية "Christ Mocked" يصوَّر فيها أحد الجنود وهو يرتدي طوق كلابٍ وعلى رأسِه أوراق شجرة البلوط. يشير بعض الخبراء ونقاد الفن إلى أنَّها اشارة إلى النبوءة الموجودة في سفر المزامير التي تعلن بصوتِ المسيح أنَّه "قد أحاطت بي كلابٌ. جماعةٌ من الأَشرار اكتنفتني. ثقبوا يديَّ وَرِجْلَيَّ". لكن يجوز تأويلها في اتجاه آخر، وقراءتها كإشارة إلى الآية الإنجيليّة التي تقول: "لاَ تعطوا القدس للكلاب، وَلاَ تطرحوا درركم قدام الخنازير، لئلّا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزِّقكم"، فصورة المسيح في ذهن المؤمن به أعظم من أورشليم وجميع الكائنات، أليس بالحريّ إذن أن يُحفَظ عهده وأن لا يُسمح بأن يكون لقمة سائغة في فمِ من يجدّف عليه، فالسخرية قد تعني أحيانًا العجز عن تقدير الشيء/الشخص أو قصورًا في معرفة فائدته؛ وهذا ما حصل من منظور الإنجيل حيث أنَّ القليل من الأشخاص من استطاع أن يقدِّر الإله المتجسِّد ويعي حقيقة نفعه البشرية فالقدس في تلك الآية هي صورة استعارية تعبِّر عنه.
لقد طرَحَ أرنست رينان -الذي أسلفنا ذكره- رأيًا يفسِّر فيه سخريّة الجنود من المسيح، فزعمَ أنَّ الحاكم "بيلاطس" الذي لم يرغب في قتله حاول حلّ المسألة "حلًا هزليًا بدل من حلّها حلًا دمويًا" (6). وكَتبَ أيضًا عنه "وبما أنَّه كان يكره سفك الدماء إرضاءً لأناس يكرههم فقد خطر له أن يجعل المسألة شكلها مضحكًا لعلّ ذلك يصرف حقد الحاقدين وغضبهم" (7)، فَبِحسب رينان قام بيلاطس بمعالجة المشكلة بطريقة أدبيّة من خلال جلده وتعريضه للسخرية كي يشفي غليل الجموع ورؤساء الكهنة إلَّا أنَّ أوامرَه لم تجدي نفعًا معهم لتخرج الأمور عن السيطرة.
نحن نعلم أنَّ للسخريةِ منطقها وأبعادها التي تأتي على نحو واعٍ ولاواعٍ، فهي نقدٌ شرسٌ لسلطةٍ أو مرجعيات عُليَا، أيّ أنَّها تمرٌدٌ وثورةٌ، غير أنَّ ما اقترفه الجنود هو انتقاد فارغ أكثر من كَوْنِه نقدًا يفيد الطرفين، فقد مثِّلوا بالأساس روح السلطة والجماعة. لكنِّنا في العادة نسخرُ من المفاهيم والمواقف والقصص التي لا نعرفها، فإذا اعترضَت فِكْرَنا حقيقةٌ ما لا يسعنا تقبُّلها أو ادراكُها فنحن نلجأ إلى الإستهزاء بها والتهكُّمِ على صاحبها بصرف النظر عن امتلاكها لوجهة نظر منطقية. فالسخرية آلية دفاعية أو نمط لاستخدام العنف حسب اعتقاد البعض يتخذه المرء ليدافع به عن نفسه ومعتقداته، وقد صارت في يد خصوم المسيح وسيلة لمهاجمته والدفاع عن مصالحهم.
يوجد جهلٌ من نوعٍ آخر يرتكبه الجنود وهم يسمعون المسيح ينادي بالآرامية "إيلي، إيلي، لِما شَبَقْتَنِي" يعود إلى خطأٍ سمعيٍّ يخيَّل فيه إليهم أنَّه ينادي النبي إيليا فيسارعون إلى الاستهزاء به مجددًا، بالرغم من أنَّ العبارة تعني "إلهي إلهي لماذا تركتني". إنَّه استهزاءٌ ناتجٌ عن الجهل اللغويّ والفكريّ معًا، والتعجُّل في معرفة حقيقة الأشياء، والنزوع إلى فعل الشرّ فيستحيل التبرير لأفعالهم التي أدَّت إلى كوارث أخلاقيَّةٍ بسبب جهلهم، وشاركت بالإضرار بحياة الساخرين نفسهم مع الحشود الساذّجة التي تنقادُ إلى صوت الجماعة أو الطاغية بسهولة.
وهكذا تكون السخرية في الوضع السابق جهلًا لاأخلاقيًا أي جريمة تمَارَسُ في حقِّ الجميع بما فيهم صاحبها، وإذا كان توماس هوبز قد جعل سبب الضحك هو الشعور بالتفوَّق على الغير، فالسخرية علامةٌ على التكبُّر مثلما يزعم العهد القديم في سفر يشوع بن سراخ القائل: "الاِستهزاء وَالتَّعْيير شأن المتكبِّرين، والاِنتقام يكمن لهم مثل الأسد". وإذا عرَّفنا المغرور بأنَّه المرء المزهو والمعجب بِذاتِه وإنجازاته الذي يهتمُ بصورته من دون استصغار الآخر، فالمتكبِّر لا يستطيع تحمُّل صفة التكبُّر من دون الدخول في معركةٍ مع الآخر لينتقص منه ويؤذيه. فالغرور هو انهمامٌ على الأنا. بينما يعبِّر التكبُّر عن الاستهانة بالآخر.
والسخرية في صورَتِهِا السالبةِ ضدَّ "الإصغاء والفهم" الإصغاء الذي يحتلُّ مكانة مركزيَّة في الإنجيل، نحن نقرأ عن المسيح كيف يعِظ الناس، وينصحهم، ويُلقِي بأمثاله إلى الجموع، فهو في نظر أتباعه "الكلمة" الذي حلَّ بين البشر، وما عليهم غير الاستماع إليه مستصغرين كبريائهم ومتجهين إليه. وكنتيجةٍ أخيرة يكون الاستهزاء به ومعاملته على هذا النحو الذي يعيه جيدًا بمثابة عذابٍ له يجب أن يتحمَّله في سبيل تحرير الإنسان.
المسيح ليس ملك اليهود
يمتلكُ الإنجيل "وعيًا" خاصًا به لا يرتكز فقط على ربطِ الحاضر بالماضِ من خلال نبوءات العهد القديم التي تتنبَّأ بهذه السخرية -حسب المؤمن- مثلما رأينا في سفر المزامير. إنَّه وعيٌ فريدٌ للكتبة الذين أدركوا جهل الناس بأقوال يسوع في عصرهم أو بعده. وإلى يومنا يحاول البعض تشويه معانيها بنفس فهْم الجنود الحرفيّ أو طرح أسئلة من قبيل: ما دام هو الرب فلماذا لم ينقذ نفسه؟ هل هناك إله يُعَامِل مثل هذه المعاملة من بشر خلقهم؟.
لم يؤلِّف الإنجيل كَتبة يعيشون في عالم الخرافة منقطعين بذلك عن منطق الأفكار أو الواقع، فكلّ جملة وكلمة في الكتاب تحمل معنى مُحدَّد أو العديد من المعانِ والدلالات. ناهيك أنَّ جوهر المسيحيَّة والملمح الخاص الذي يُميِّز إِلهَهَا عن بقية الآلهة هو مشروع الخلاص الذي أُكمِلَ عبر عمليّة طويلة بدأت بالتجسُّد ومواجهة البشر ثم التعرّض لتلك السلسلة من العذاب النفسيٌ والجسدي إلى الموت والبعث، فمثل تلك الأسئلة سالفةِ الذكرِ لا تعني شيئًا في هذه الحالة.
لقد وُصِف المسيح بِمَلِكِ اليهود استخفافاً به، وأُلبِس ردائًا قرمزيًا هو علامة على المُلك والرفعة، وكُتبَ على الصليب فوق رأسه "ملك اليهود"، ثم نُزع لباسه القرمزيّ علامةً على تجريده من هذا الإدِّعاء الذين اعتقدوا أنَّه يزعمه (أن يصبح ملكًا أو ثائرًا على الإمبراطورية الرومانية)، وقد صلبوه مع لِصَّيْنِ تحقيقًا لنبوءة أشعياء "أُحْصِيَ معَ أثَمَةٍ" وصارا يعيّرانه مثل غيرهم، وقد فضَّل الشعب قبلها أن يُعاقَبَ بَدَل باراباس الذي أُطلِق سراحه وهو المجرم الذي قَتَل الأبرياء، فما حصل هو سخريَّة فظيعة كُتِبت على المسيح اشترك فيها الجميع حتى سفَلَةُ المجتمع.
لقد اعتقد الكاتب الأمريكي "هوارد لافكرافت" (Howard Phillips Lovecraft) الذي تخصَّص بالكتابة في أدب الرعب أنَّه حتى في أقصى درجات الرعب يوجد هناك نوع من السخرية يندر غيابها؛ (8) وهو أمرٌ شبيه بما نقله الإنجيل عن شخصيته الأهم. ولقد تجسَّد الوعي الأدبي بين صفحاته من خلال سَردِه لِتلك السلسلة التي عصَفَت بحياة المسيح، فهي لم توضعَ للمتعة أو في سبيل التعاطف معه فحسب، وإنَّما لِنَتَأكَّدَ من أنَّ المسيح لم يزعم أنَّه ملِك اليهود أو «باركوبا» سابق لأوانه يقودُ تمرّدًا سياسيًا فهو نفسه الذي أعلنَ أنَّ مملكته ليست من هذا العالم. أو حين طلب قائلًا: "أعطوا ما لِقيصر لِقيصر وما للّه للّه". إلَّا أنَّ ما ذُكِر لا يعني الإبقاء بتأويلٍ واحدٍ وتنحية آخر فَمِن ضمن ما أنجزه المسيح أعمالًا إصلاحية سبقت بقرون انجازات مارتن لوثر ودعاة الإصلاح، فنحن نعلم على سبيل المثال أنَّه اعتاد أن يفسِّر الكتاب لتلاميذه والناس بطريقة أخرى، وتحدّى سلطة الكهنة وأراد تغيير عددٍ من الطقوس والقوانين الموجودة في الشريعة اليهودية من دون أن يحاول نقضها كليًّا.
إنَّ موقف الكهنة والجموع والجنود يمتاز بوضوحٍ شديد يضيء لنا حقيقة كيف كانوا مُخطِئين وهُم ينعتونه بذلك اللقب مُمَارِسِين خطابَ وفِعلَ السخريّة الذي وجدوه السلاح الفعَّال ضدّ كلِّ من يهدِّد نفوذهم. أما فيما يخض تصريحاته حول مملكته الموجودة في مكان آخر فهي عبارة تدلُّ أيضًا على اغترابٍه في عالمٍ يناقض كينونته فالمسيح مجرَّد دخيل فيه ليس في وسعه التعامل مع مخلوقاته، وهي المخلوقات نفسها التي تتقاتل فيما بينها ولا يفهم فيها الواحدُ الآخرَ.
ويستمِّر على أيّ حال الوضع الذي عاشه المسيح في عصرنا الحالي بطريقة لا تختلف كثيرًا عن عصره، عبر جعله مادةً للباروديا كالاساءة إلى كتابه المقدَّس أو مواصلة الإستهزاء بشخصه بمساعدة وسائل حديثة كـ تلك التي نجدها في عالم الميديا وتحديدًا ما يتصِّل بالثقافة الساخرة التي تدعى بـ "الميمز"؛ على سبيل المثال. وهي مفارقة تجعله رمزًا للإله المُحتَقر في كلِّ زمان مثلما تنبَّأ به.
نود أن نضيف في الختام أنَّ موضوع السخرية يتكرَّر باستمرار في الأدبيات الدينيَّة والكتب المقدَّسة التي نقرأ فيها عن الإستهزاء بالأنبياء والقدِّيسين والإله ذاته، فتكون نهاية أصحابها على الأغلب سيئة. إنها مواقفٌ يسهل تأويلها عبر عدّة طرق، فهي تدعو الإنسان إلى الإنصات للآخر، ومحاولات فهمه، والتخلّي عن بعض التحيُّزات المسبقة والغرور بِغضِّ النظر عن أهدافها المُعلَنة لترهيب الجماهير والشعوب عن طريق مثل تلك القصص التي تخدم مصالحها.
ملاحظة:
لا يهدف المقال إلى التفصيل في مفهوم كلمة "السخرية" (Irony) واختلافها عن مفاهيم ومجالات أخرى مثل "الفكاهة، التهكّم، الباروديا، النكتة، الطرفة، التندُّر، المفارقة الضحك والكوميديا…" فهناك فروقات شاسعة بين هذه المصطلحات والكلمات لكن توجد تشابكات ونقاط التقاء أيضًا، ولهاته المفاهيم أبعاد فلسفية، وأدبية، وفنية، واجتماعية، وسياسية ونفسية.
وقد اهتم العديد من الفلاسفة والمفكِّرين بإنجاز دراسات ومؤلّفات عن بعضها. والخوض في التفاصيل يطول غير أنَّنا فضلَّنا اختيار كلمات مثل: "السخرية، الاستهزاء والتهكُّم" وما لها من علاقة مع الضحك والباروديا، فقد وجدناها تناسِب وتعبِّر عن موضوع المقال الذي تناولها سلبيًا -كما هو مذكور فيه-.
إليكم قائمة تتضمَّن أسماء عددٍ من المفكِّرين الذي تطرَّقوا أو ناقشوا مثل هذه المواضيع يمكن الرجوع إلى مؤلِّفاتهم: فرانسيس هتشيسون (Francis Hutcheson)، هنري برغسون (Henri Bergson)، فريدريك هيغل (Georg Wilhelm Friedrich Hegel)، سورين كيركجارد (Søren Kierkegaard)، تيري ایغلتون (Terry Eagleton)، بيتر سلوتردايك (Peter Sloterdijk)، سيغموند فرويد (Sigmund Freud)، فلاديمير يانكيليفيتش (Vladimir Jankélévitch)، بيري ساندرز Perry R Sanders ميخائيل باختين Mikhaïl Bakhtine, واين بوث (Wayne Booth)، ماثيو بيفيس (Matthew Bevis) وجون موريل John) Morreall)، ميوك (D.C Muecke)، محمد كاديك، وشاكر عبد الحميد.
هوامش ومراجع:
1 - قد تُتَرجَم الكلمة الإنجليزية (Sarcasm) إلى "الإستهزاء" أيضًا، بينما تترجم الكلمة (Taunt) إلى التهكُّم.
2 - Etymology Dictionary (Sarcasm) https://vu.fr/XWcM، أيضًا: تيري ايغلتون، فلسفة الفكاهة، ترجمة ماجد حامد، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى 2019، ص55.
3 - رائد عبيس، فلسفة السخرية عند بيتر سلوتردايك، منشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف، الطبعة الأولى، 2016، ص38.
4 - قبل إلقاء القبض عليه، وداخل بستان جثسيماني خاض المسيح حوارًا مع الآب عن مصيره، وهو في حالة من الكآبة والحزن، نقرأ في إنجيل متى: "حينئذ جاء معهم يسوع إلى ضيعةٍ يقال لها جثسيماني، فقال للتلاميذ: اجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلِّي هناك، ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي، وابتدأ يحزن ويكتئب، فقال لهم: نفسي حزينة جدا حتى الموت. امكثوا ههنا واسهروا معي، ثم تقدَّم قليلًا وخرَّ على وجهه، وكان يصلِّي قائلًا: يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنتَ، ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نيامًا، فقال لبطرس: أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟، اسهروا وصلٌّوا لئلا تدخلوا في تجربة. أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف، فمضى أيضًا ثانية وصلَّى قائلًا: يا أبتاه، إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلَّا أن أشربها، فلتكن مشيئتك...".
لا يمكن شرح آية "إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" فهي تخضع لعدَّة تأويلات وتشهد جدالات غير منتهية، لكنها تتجِّه صوب الفكرة أو العقيدة القائلة بوجوب الصلب بحيث ما من سبيل للنجاة منه، والمسيح أدرك ذلك وخضع له. غير أن ما وقع في جسثيماني فُسِّر كدليل على امتلاك المسيح لإرادتين، الإرادة الإلهية التي تعني خضوع وطاعة الابن (الكلمة) للآب، والإرادة الإنسانية التي تخص ناسوته حيث يتشارك معنا الطبيعة البشرية التي يلحق بها الخوف والشجاعة والسعادة والألم الخ بصرف النظر عن إنكار البعض لخوف المسيحِ في تلك اللحظات. ولا يقصد بذلك وجود إرادة للآب وإرادة أخرى للابن، ولا يعني أيضًا أنَّ المسيح عبارة عن شخصين، وإنَّما لاهوت اتحدَّ مع ناسوت من دون تمازج ولا انفصال.
5 - تيري ايغلتون، فلسفة الفكاهة، ص39 (مرجع سابق)
6 - أرنست رينان، تاريخ المسيح، ترجمة فرح أنطون، مطبعة الجامعة بالإسكندرية بباب الرشيد، 1904, الباب الرابع، الفصل الواحد والعشرون، ص51
7 - المرجع نفسه.
8 - "From even the greatest of horrors irony is seldom absent", H.P Lovecraft, The Shunned House, Short story, 1924, Chapter 1.
* المقال خاص بـ Boring Books
*تحتفظ الكاتبة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقالها دون إذن منها