راحت عفاف في نوم قلق. أعلم أني موجودة حتى في أحلامها، معلقة في أنفها، تحت أظافرها، متشبثة ببلوزتها. أنا رائحة الجنين وكل جنين أجهضته عفاف. رائحة الحياة التي لم تبدأ بعد. 

عندما تلعثمت عفاف في صحراء التجمع

قصة لرضوى خالد

نُشرت ضمن مجموعة "منازل وأحلام" الصادرة عن دار هن


لوحة لرومون كوجوهاروف، عن joseartgallery

لم تفارق رائحة الأجنة يدي. لدم الحياة التي لم تبدأ رائحة مميزة. رائحة تشبه... تشبه رائحة الأنشوجة. أفكر في أني لم آكل الأنشوجة منذ زمن، أكلتها آخر مرة في القناطر مع أخواتي وأطفالهن في شم النسيم.

كان ربيعًا تألقت فيه الشمس وأنا كذلك. ارتديت البلوزة المنقطة الواسعة وتنورة بيضاء تظهر بعض مفاتني لكن ليس كلها طبعًا فأنا مُحجبة عن اقتناع... آه!

"اللى واخد عقلك يا جميل؟"

ويضع يده خلسة على ركبتي. أنا لا أعرف هذه الأسنان الصفراء والشعر المجلجل ورائحة النعناع والعين الثاقبة على صدري. أتجمد، ألهث، أسمع صوتي المرتعش يقول للسائق: "على جنب يا سطى". أفتح الباب بحركة سريعة وأقفز من الميكروباص الأبيض. تستقر قدمي على الرصيف مباشرة وأرى أني لم أعبر نفق الأزهر مع الميكروباص. أمامي تمثال لزعيم ما على حصان.

"ما تسلفني الحصان ده أروح به مشوار يا خرا بيه!"

أكيد خرا. هو فيه رجل مش خرا؟ بس محتاجينهم بقى، نعمل إيه...

كانت في طريقها إلى مدينة نصر. ليس للمطار طبعًا. اللى زيي آخرهم يطيروا على موتوسيكل يا عسل؛). آه بغمزلك! بذمتك متخيلتنيش بالجيبة البيضاء من شوية! حلوة أنا عارفة، الجيبة طبعًا! طيب، نتعرف. أنا اسمي عفاف. بشتغل داية. داية للستات اللى مش عاوزة تحمل. من باب الشعرية، بس بحب الضاهر أكتر. بحب أتمشى في الموسكي وأجيب كريمات من هناك. وبعدين ممكن أجيب دستة روج وأكلادور ألوان مختلفة بنص التمن. جبت مرة من هناك لنسيز، كانت إيه، حكاااية. بس ترطش مرة عليها الدم وأنا بشتغل كانت عيني هتروح فيها. يلا الحمد لله.

هو على ذكر الحمد جه ميكروباص تاني أهو. "رابعة يسطى؟"

تمسك عفاف بمقبض باب الميكروباص سريعًا. تحتك أظافرها باللاكيه الأبيض فيقشر طلاء أظافرها الزهري أكثر مما كان. تسند رأسها على الشباك فتتوالى إضاءات نفق الأزهر على وجهها. الآيشادو الأزرق على جفنيها اللذين استرخيا، يغطيان على الكحل السايح قليلًا ووجنتين موردتين بفعل الشمس وتفاعلها مع الروجاجو الذي ابتاعته مؤخرًا من بائعة في المترو في مشوار آخر إلى المعادي.

راحت عفاف في نوم قلق. أعلم أني موجودة حتى في أحلامها، معلقة في أنفها، تحت أظافرها، متشبثة ببلوزتها. أنا رائحة الجنين وكل جنين أجهضته عفاف. رائحة الحياة التي لم تبدأ بعد. ألازمها. تتجاهلني. لكن هناك، في الليل، عندما ينام الجميع، ترجع عفاف من عملها. تتخفف من ملابسها. يطلع غبار المدينة منها فيملأ الغرفة لتفتح عفاف الشباك قليلًا داعية هواء وملمس الليل الرطب إليها. نور نيون أبيض بارد ضعيف يلم الغرفة الزرقاء بأثاثها القليل. سرير منخفض على سراميك عار من أي سجاد، دولاب صغير على أرففه الأربعة ورق جرائد أصفر، مرآة طولية على باب الدولاب ومصطبة. محاطون بأربعة جدران خضر في أحدهم شباك بشيش أبيض. تفتح عفاف الشيش وتستلقي على السرير تحته. ينتظم نفسها بهدوء. ترتخي عضلات وجهها. تنبسط باقي عضلاتها. سكون الليل يتسلل إلينا.

أنا هنا.

تقرب عفاف يدها من أنفها ببطء. تتشممها فتغمض عينيها. بخفة أحس بنفسها يمتزج بي. في نعومة أتحسس مع يدها وجنتيها الخمريتين الناعمتين، ثم السبابة على خديها، شعرها الطويل، كتفها الأيسر. تفتح عينيها قليلًا وتسترخي أكثر، تنظر إلى ظهر يدها وأصابعها. تقرب السبابة والوسطى مضمومتين إلى شفتيها وتلحسهما. تقبلني. أشعر بلعابها الدافئ يمتزج بي. جلدها اللين. صدرها المنتشي، ثم أنا وعانتها والمخاط بين شفرتيها الرطبتين.

أنا راوية هذه القصة. أخون عفاف. أعريها أمامك، أضاجعها في خيالك. أنا البطلة. أثقل من الهواء لينفخني بعيدًا، أثقل من المدينة، بل أثقل من عفاف والحياة معًا. أنا الموت والحياة مجتمعان، الذنب الخطيئة والمتعة، رائحة ما كان ممكن وما لن يكون.

تستيقظ عفاف من نومها الخفيف في الميكروباص. تنظر حولها في خمول. طرحتها يطل منها بعض الشعر، الكحل سائل أكثر، عيناها ما زالتا منتفختين قليلًا وعلى فمها نقطة لعاب تسلَّلت منه. تنظر حولها فترى في ضوء الميكروباص النيوني الخافت انعكاسها على الشباك، تعدل طرحتها ثم تقرِّب وجهها أكثر فترى، كأنها ترى، كلمات؟ على صفحات شباك الميكروباص؟

مما لا شك فيه هو أنها لم تعد في مدينة نصر، الظلام حولها دامس. هل فوتت مدينة نصر وأصبحت في طريقها للتجمع؟ تفكر أنها هكذا قد لا تلحق الزبون. نعم، زبون. فهو رجل لا يريد لزوجته الثانية أن تحمل. في الحقيقة عفاف داية للرجال معظم الوقت. تلعن تعب الصيف في سرها وتحسب إذا كانت ستكفي المتبقي من الشهر لو لم تتم هذا الأوردر.

كان لعفاف جارة وصديقة تعمل في السينما (لبيسة). تقول كلما ذهبت للعمل "سلام، عندي أوردر". استساغت الأخرى الكلمة وصارت طلعاتها أوردر. قالتها مرة أمام خالتها فضحكت. "بقيتي بتتكلمي إنجليزي دلوقتي يختي؟ والنبي تلاقيكي مش فاهمة الكلمة". استفزت عفاف، فقرَّرت أن تسأل أحدًا.

كانت تنتظر مفعول خليط النعناع المر وحشيشة الدود والزعتر الذي تعطيه لنسائها بوصفه مسهِّلًا طبيعيًّا للعملية. تجلس مع أخي السيدة الشابة في الصالة على أثاث مذهب وفي يدها كوب عصير.

- حضرتك أكيد بتتكلم إنجليزي.

"ها؟... أيوه"

- "طيب معلش، هو يعنى إيه أوردر؟"

- "أوردر؟ يعني طلب".

سكت، ثم أحس بالصمت. الصمت الذي يأخذه إلى أخته في الغرفة الأخرى، التخيلات والمشاعر. قرَّر أن يستفيض في الكلمة هربًا من علامة التعجب والاستفهام التي تلتوي على الفراش في الغرفة الأخرى.

"بصي، هو أوردر لها معنيين ومرتبطين ببعض. الأوردر هو الأمر اللي بييجي من فوق. ربنا، لواء، ظابط... لكن خولنة الأمريكان هي إليّ خلتها في ماكدونلدز وجاتلنا معاه... كسم العولمة... نستنا دينا ولغتنا".

كادت عفاف أن تسأله عن علاقة العوامة بماك والأوردر، لكنها تراجعت وخاصة أنه أكمل.

"والمعنى التاني هو النظام. أوردر الكون هو نظام الكون. الساعة اللي كل حاجة لازم تمشي عليها عشان كله يبقى صح".

مش اللي احنا فيه دا. أكمل في سره.

اكتسبت عفاف فجأة إحساسًا جديدًا تجاه عملها... وشعرت أنها ليست صدفة أن تعجب بالكلمة عندما نطقتها سوسو، بل أنها تعنيها. أحسَّت أن الإرادة الإلهية فعلًا تنفذ من خلالها. وأنها من ضباط إيقاع وأوردر الكون. في تلك اللحظة انتصب شيء ما في داخلها. أحسَّت كأن هناك فجوة كبيرة في داخلها قد سدت، باختصار: شعرت عفاف بنشوة المعنى.

نظرت في ساعتها. لن تلحق بالتأكيد أوردر مدينة نصر. قبل أن تكلم الرجل عليها أن ترى أين هي وتحسب كم تحتاج للرجوع. كانت تجلس وحدها في آخر صف. "إحنا فين هنا ياخوانا؟ عاوزة أرجع مدينة نصر".

التفت الجميع ناحيتها. شعرت بجسدها يبرد ومقلتيها تتسعان وقلبها يسرع.

هؤلاء الناس بلا وجوه. مكان وجوههم كلمات. تنظر بجانبها، نعم! على أسطح الميكروباص كلمات. كلمات عنها.

"صدرها المنتشي عفاف".

"لعابها يمتزج بي، عفاف"؟

"جلدها اللين عفاف".

"شفراها الرطبتان عفاف".

"كتفها اليسرى عفاف".

 "ثم أنا وعانتها عفاف".

 "تقبلني عفاف".

تصرخ عفاف. تقفز من الميكروباص، وتقع متكورة على أرض الأسفلت البارد. تلهث وقد تمزَّقت ملابسها. تستند لتقف وسط الطريق السريع المظلم. تنظر لأعلى، على لافتات الإعلانات وجهها وكلمات عنها. تجري نحو الصحراء المظلمة كالمحمومة، تلهث باكية ومذعورة.

أصبحت بعيدة عن الشارع فتوقفت لتستعيد انتظام نفسها. أحسَّت أن هناك شيئًا يتسلقها. أشعلت نور الموبايل فوجدت الكلمات ترسم على ملابسها. فزعت. كاد قلبها يقف. لم تدرِ إلا وهي عارية وسط الصحراء وصوت صراخها يملأ الخلاء. جثت على ركبتيها وبدأت تهيل التراب على نفسها. قد قال شيخ ما، على قناة ما، أن التراب طاهر، لذا يجوز التيمم به. كالمجنونة ظلَّت تردد: "التراب طاهر.. أعوذ بالله. التراب طاهر. التراب طاهر." وتفرك جلدها.

"ومنين الطهر يا عفاف؟"

دوي صوتي. لم تدر عفاف إذا الصوت من داخلها أم من خارجها. كان يبدو وكأنه الاثنان معًا.

"أنا! أنا طاهرة، أنا شريفة".

"إزاي؟ ما انتي كنتي عارفة إنهم هيتخيلوكي بالجيبة البيضا الحلوة. انتي مين أصلًا عشان تتكلمي؟ إنتي ولا حاجة".

مذكرات سوسو 14.10.2021

عندما حكت لي عفاف قالت إنها في تلك اللحظة هدأت تمامًا. شعرت بالخدر يسري في عروقها. أحسَّت كم هي ضئيلة وعارية وسط صحراء التجمع التي ابتلعتها. شعرت أنها عندما سترجع للأضواء التي تتلألأ بعيدًا ستكون إنسانًا آخر. جال في خاطرها صورة ورقة البفرة. ورقة بفرة تتطاير في الهواء. جال في خاطرها أنها خالية تمامًا. عروسة محشوة هواء وورق بفرة مكور. بعيون فارغة تقوم، تقف، تكح. خيل لها أن ما طلع من فمها ليس رذاذًا وإنما ورق بفرة مكور صغير. لكن الظلام كان أقوى من بصرها. لم تحاول أن تتبين ولم تحاول أن تبحث عن ملابسها. راحت تمشي في الثلث الأخير من الليل عبر القاهرة النائمة. بشعر أشعث، عارية، صامتة، بوجه مرتخٍ وعيون فارغة لا تدري إن كان الدمع يسري منهما أم لا. عبرت مدينة نصر، والسيدة زينب ثم المنيل والنيل وجزءًا من العجوزة إلى أن وصلت إلى بولاق. هناك وجدت نفسها أمام المطبعة. دخلت وتوجهت إلى ماكينة تقطيع الورق. وقفت أمامها، بهدوء، فضت الشنكل ووضعت يديها كلتيهما تحت المقصلة. لم تنتظر رائحة الدم طويلًا.

كانت تحكي لي بلا تأثر واضح. كأنما تحكي حلم شخص آخر.

"حلم وحش أوي يا سوسو". ثم صمتت. كما عيناها الصامتتان الذابلتان. صوتها خافت، هادئة، أين صديقتي؟

كأنها عود كبريت محروق. لم أرها بعد ذلك يومين، إلى أن استيقظت على الصرخة التي ما زالت تدوي داخلي.

كالآخرين تتبعت الصرخة الآتية من أعلى. دلفت من باب الشقة. في البدء عمتني الشمس الآتية من الشباك، ثم انتبهت إلى الرائحة فوضعت طرحتي على أنفي بشكل لا إرادي. كانت أم عفاف واقفة أمام حجرة ابنتها. تصرخ وتولول. كلما اقتربت منها زادت رائحة الـ... الـ.... الأنشوجة؟ الرائحة تشبه رائحة الأنشوجة العفنة. لابد أنها آتية من غرفة عفاف. انقلبت معدتي من الرائحة والخوف جعل قلبي يدق بعنف. كنت على وشك أن يغمى علي، لكن ما رأيته جعل عيني تفتح كما لم تفعل من قبل. إلى الآن أحاول أن أغلقهما بلا جدوى. وقفت بجانب أم عفاف في إطار الباب. في البدء لم أفهم، ورق بفرة؟ ورق بفرة مكور في كل مكان، على الأرض، على الأثاث البسيط، في الهواء كأنها نتفات سحاب تتطاير في الجو بخفة. الكومة الأكبر كانت على السرير. كمنومة وجدتني أمشي إلى هناك. حولي يتطاير الورق الرقيق وأمامي على السرير لم أجد من عفاف شيئًا سوى يديها.