أمسكت يدها المرتجفة بيدي، وجلست صامتًا. نعم، كان هناك ألم في قلبي أيضًا ذلك المساء، لكنه لم يكن يستحق الذكر بالمقارنة مع عذاب كارونا. 

حكاية جبان

قصة لبريميندرا ميترا

ترجمة: أحمد طارق عبد الحميد

بريميندرا ميترا، شاعر وكاتب ومخرج بنغالي (1904-1988). والقصة مُعربة عن ترجمة Arunava Sinha الإنجليزية التي نشرها موقع world literature today


بريميندرا ميترا، عن anandabazar

أحضرت لي كارونا كوب الشاي الصباحي بنفسها.

ضحكت رغمًا عني على ما أحضرته مع الشاي. "لعل الجو هنا في جانبك هذا من العالم ممتاز" قلت لها، "لكن جهازي الهضمي لا يزال هنديًا مئة بالمئة، لم تغيره كثيرًا بضعة أيام هنا".

اكتفت كارونا في الرد عليَّ بابتسامة، وبدا أنها ستنصرف بعد ترتيب الكوب والصحن وبعض الأطباق الأخرى على المائدة، فناديتها مجددًا. "هل تعاملينني بطريقة رسمية؟ كنت لأتفهم أن يعاملني بيمال بابو بطريقة رسمية، لكن…".

قاطعتني كارونا وقالت "لنقُل إنني أفعل ذلك نيابةً عن بيمال بابو، هل عليَّ في ذلك جُرم؟" وانصرفت مبتسمة.

صار الشاي باردًا بينما رحت أقلِّب أفكاري لوقت طويل. لا، لم يكن هناك ما يَضير في الإقرار ولو لنفسي بأن سلوك كارونا يزعجني. لم أكن أتوقع منها أي شيء درامي. ما أبعد ذلك عن تقديري، بل لو حدث لأثار قلقي. ولهذا السبب في الواقع أعاد لينها المبدئي إليَّ الاطمئنان. وإن بدا بالتدريج أن كبرياءً جريحةً تُطِلُّ برأسها راقدة بالمرصاد في مكان ما بداخلي. كنت أشعر أن كارونا لم تكن مضطرة للمغالاة في معاملتي إلى هذا الحد. ربما غربت الشمس، لكن ألم يكن نورها ليتأخر قليلًا حتى يُخضِّب الغيومَ ناحية الغرب؟

أظن أنني كنت سأصبح أسعد ما يكون لو أن كارونا بدت زاجرةً ومنعزلةً. وربما كان سيُرضي غروري بعضُ الحذر منها على الأرجح. لكن كارونا لم تلجأ إلى الجَذَل المصطنع أو قلة الاكتراث القاسية.

كنت أستطيع أن أقرر بسهولة عدم اهتمامي بالأمر ولو من بعيد. وهذا ما كان يجدر بي فعله. فلم أكن أُضمر في نفسي على كل حال أملًا أو رغبةً في لقاء كارونا. بل ولم يكن يظهر لي هذا اللقاء في البخت. بعدما اختفينا دون أثرٍ بين الملايين التي لا تُحصى على هذه الأرض، لم يكن اكتشاف بعضنا من جديد ذات يوم إلا غيبًا غير متوقع على الإطلاق.

لكن عندما تجسَّد ذلك الغيب غير المتوقع، أدركتُ أنني لم أكن أستطيع التخلص من كبرياء تتربص بعجز كارونا عن نسياني، رغم أني نسيتها بسهولة شديدة.

لعل هذه الكبرياء لم تكن بأكملها غير طبيعية.

في النهاية، إنك لا تستطيع نسيان الماضي تمامًا. وبالأخص مساءً معينًا. لم تكن الأمطار قد كفَّت طول اليوم عن الهطول، حتى أصبح الخروج مستحيلًا إذا أراد المرء ذلك. أخبرني الخادم أن امرأة أتت لزيارتي.

امرأة تزورني في هذا الفندق! استولت عليَّ الحيرة في البداية. وعندما دخلت كارونا الغرفة في إثر الخادم، لا شك أن الدهشة ارتسمت بشكل كبير على وجهي.

"لا بد أنك مندهش جدًا لرؤيتي"، قالت كارونا وهي تقترب مني بعد مغادرة الخادم.

"إلى حد ما، نعم، لكن ملابسك مبتلة تمامًا". كنت قلقًا بشأنها حقًا.

قالت كارونا وهي تجلس في أقرب كرسي "لا تقلق، الخروج في المطر يعني بالضرورة التعرض للبلل".

ثم ضحكت. "ماذا يمكنك أن تفعل على أي حال؟ أين ستجد ثياب امرأة في عالمك الذكوري هذا؟ وليس لديك هنا بالتأكيد فرقة مسرحية من الهواة أيضًا!"

"يوجد زوجان في غرفة 10 بالأعلى"، قلت بعد وهلة تفكير.

"أتقترح استعارة ساري وبلوزة منها؟" ضحكت كارونا مجددًا. "كيف ستفسر الأمر؟"

وقالت بعدما بدت رصينة فجأة "سأكون بخير في ملابسي المبتلة. لا تقلق. لن أمرض".

لم يكن أمامي غير الجلوس بجانبها. وقبل حتى أن أتمكن من سؤالها قالت: "لا بد أنك تفكر في سبب قدومي لزيارتك فجأة".

لم أُجِب هذه المرة أيضًا. بدت كارونا شاردة الذهن في الدقائق القليلة التالية. ثم حدث تحول مفاجئ. أدركت أنها كانت تكبح تيار عاطفتها المتدفق طوال هذا الوقت.

قالت باضطراب وهي تسقط بين ذراعي "سيأخذونني بعيدًا إلى بانتا غدًا. هذا ما كتبه خالي بالأمس".

لم يكن الأمر أني لم أفهم. لكني قلت وأنا لا أزال أرفض الاعتراف بالحقيقة المؤلمة لأطول وقت ممكن "ستغلق كُلِّيتُك، أليس كذلك؟"

قالت كارونا باضطراب أشد "لا، ليس ذاك. إنك لا تفهم. لن يدعوني أعيش هنا بعد الآن، سيكون هذا سفري الأخير!"

أمسكت يدها المرتجفة بيدي، وجلست صامتًا. نعم، كان هناك ألم في قلبي أيضًا ذلك المساء، لكنه لم يكن يستحق الذكر بالمقارنة مع عذاب كارونا. كان حبي يفتقر إلى الشغف الذي كان به سينتفض بنزق في مواجهة هذه العوائق التي وضعها القَدَر.

لكن كارونا قالت بعزم، وهي ترفع وجهها الذي بللته الدموع بعد قليل "لن أذهب، أبدًا. لماذا أفعل ذلك؟"

لم أدر ما أقول. حتى في ذلك المساء، في مكان ما بأعماق ذهني، لم أكن أؤيد تمردها. كنت أعرف بالفعل أن العصيان غير مُجدٍ.

قلت وأنا أحاول تغيير الموضوع "قد لا يكون الأمر كما تظنين، لعل مخاوفك لا أساس لها".

اغتمت كارونا مجددًا. "لا، أنا متأكدة، إنهم يريدون أن يحتفظوا بي هناك بالقوة. ويعتقدون أن في ذلك دواء ناجع لصبيانيتي". ابتسمت بمرارة.

"يُفترض أن أكون في طريقي إلى الكلية"، واصلت حديثها، "لم أقصد أن أضعك في موقف محرج بقدومي هنا. لكن لم يكن أمامي خيار، فأنت لم تعد تزور منزل خالتي إلا نادرًا. لم أكن حتى سأستطيع إخبارك".

وبعد وهلة صمت كانت كارونا مضطربة بشدة مجددًا. "هل سيأخذونني بعيدًا رغمًا عني بالفعل؟ ألا يمكننا فعل شيء؟"

لا داعي لأن أصف هنا بالتفصيل تلك التأكيدات وكلمات التعزية التي أودعت بها كارونا منزلَ خالتها، لكن على الرغم من أن ذلك كان موجعًا بفظاعة، فلم أكن بالتأكيد أستطيع فعل أي شيء حيال الأمر.

سواء بالإرغام أو لا، أخذ الخالُ كارونا بالفعل بعيدًا إلى بانتا بعد ذلك، ولم تتسن لنا فرصة حتى للقاء قبل أن تغادر.

ورغم أنني لم أُدعَ إلى زفاف كارونا، فقد سمعت عنه. ولن أزعم أنني تلقّيت الخبر دون انفعال أو اكتراث، لكن عندما أعيد النظر اليوم وأحلل الأمر، أجد بوضوح أن الإحباط كان قد صبغ الأيامَ القليلةَ التالية بالرماديّ، لأنني كنت أنظر للأشياء من وجهة نظر كارونا، ولم تكن لدي القدرة على استبيان ما إذا كانت هناك بعض الغطرسة تشوب ألم الإدراك ذاك.

بل وبعدما بهتت ذكراها لدي، ظل لدي اقتناع في مكان ما بأعماق ذهني، أنني حتى لو كنت أستطيع نسيانها، فلم تكن هي لتنساني أبدًا.

وأحرجت نفسي قليلًا بالاستجابة غير المتوقعة التي واجهتُها، عندما تلقّت قناعتي هذه ضربةً قاسية، لكني لم أتمكن من منع نفسي رغم ذلك.

عندما عادت كارونا إلى غرفتي بعد ذلك بقليل، كانت تستطيع، لو أرادت، أن ترصد الاختلاف الطفيف في سلوكي والطريقة التي تحدثتُ بها إليها.

"ما هذا! لم تأكل أي شيء على الإطلاق"، قالت وهي تنظر إلى طبقي.

فنظرتُ إليها وأنا أزرّر قميصي مبتسمًا، وقلت: "الرسميات تولّد الرسميات، بم كنت ستفكرين لو أنني مسحت الطبق كمن يتضور جوعًا في أيام قحط؟"

"... لا تزال تردد نفس النغمة!" بدت كارونا محبطة قليلًا.

"ترديد نفس النغمة نقطة ضعف لديّ يا كارونا، لم أُشف منها حتى الآن". كان صوتي مفعمًا بالعاطفة.

كانت كارونا تنحي طبق الطعام، وقد أشاحت بوجهها عني. لم أر تعبير وجهها. لكن رد فعلها لم ينكشف إلا عن مداعبة خفيفة الظل.

"جاوزت جميع نقاط الضعف الأخرى إذن". قالت وهي تلتفت إليّ مجددًا "ما هذا، هل ستخرج الآن؟"

"نعم، يجدر بي أن أتفقد ما أنجزوه بسيارتي حتى الآن".

"تفقُّد الإصلاحات لن يُعجِّل منها. قال زوجي إنه سيسأل عن ذلك. سيعود للمنزل قريبًا، وقد طلب منك انتظاره".

"إذن، هل سنتحدث معًا حتى يأتي؟" حاولت قول ذلك مبتسمًا.

"يمكننا ذلك"، قالت كارونا بتعبير بهيج.

"ما أسهل أن تقولي شيئًا كهذا يا كارونا". كانت لهجتي قد احتدّت من تلقاء نفسها.

"ما الصعب في قول شيء كهذا؟" ارتسمت على وجه كارونا ابتسامة وآثار دهشة.

"أليس صعبًا على الإطلاق يا كارونا إذن؟ حقًا؟ ألست خائفة أن تكوني معي وحدك؟ إنني لا أزال أخشى نفسي، كما تعلمين".

"لقد فقدت عقلك حقًا". غادرت كارونا ضاحكة، وتركتني أشعر بالحماقة.

وبينما تستدير عند الباب قالت "إياك أن تغادر، سأعود سريعًا".

لكنها لم تعد إلا بعد وقت طويل. وبينما رحت أذرع الغرفة جيئة وذهابًا، شعرت بغيظ محدد يشتعل بداخلي، لكني لم أستطع أن أتبين ما إذا كان ضد كارونا أم ضدي. وربما كان ضد القدَر.

لماذا كُتب عليّ أن ألتقي بها مجددًا بهذه الطريقة؟ ماذا يكون هذا اللقاء غير أنه قدَرٌ مقدور؟

بعدما حصلت على إجازة من العمل غير متوقعة، انطلقت لأقضيها بسيارتي. وعندما تعطل المحرك فجأة ليلة أمس في وسط هذه البلدة، شعرت بالامتنان الغامر للقدَر الذي تكفّل بحدوث ذلك في بلدة مأهولة وليس وسط غابة. لكن لو كنت أعلم المستقبل الذي ينتظرني، ربما لفضّلت حدوث ذلك في الغابة.

لم يكن الوقت ليلًا فحسب، بل كان المكان غريبًا أيضًا. ولم أتمكن من الحصول على غرفة، سواء في غرفة الانتظار في المحطة أو في أرخص الفنادق، فعُدت دون أمل بعربة يجرها حصان إلى الورشة التي أودعت بها سيارتي للإصلاح. وهناك قابلتُ بيمال بابو. موظف في منجم فحم قريب، جاء لقضاء بعض أعماله. وقد تطوع بمساعدة بنغالي آخر في أرض غريبة، فعرض قضاء الليلة في غرفة بمنزله. ربما اعترضتُ على ذلك باعتدال، لكنه نحى اعتراضاتي جانبًا.

كان يعيش في ركن بعيد من البلدة. وعندما وصلنا إليه، كان الصمت قد خيم على المنزل. وبينما يقرع بيمال بابو مطرقة الباب قال "لم يكن يُفترض أن أعود اليوم كما ترى. الخدم الملاعين يغُطّون في نوم سعيد".

بعد ذلك بقليل فتحت الباب امرأةٌ تحمل مصباحًا "آسفة جدًا، كنتُ في سُبات عميق. لكن ألم تقُل إنك لن تعود اليوم؟"

"لعل القدَر منحني فرصة لأكون سامريًا صالحًا، فأعادني إلى المنزل. ولو لم أعد، لوجد هذا الرجل المحترم نفسه على الأغلب في موقف حرج ببلدة غريبة".

وأخيرًا رأتني كارونا. بعدما كانت على وشك التراجع وهي تغطي رأسها بقلنسوة ساريها عند رؤية شخص غريب، جَمَدَت مكانَها فجأة.

كان بيمال بابو لا يزال يتكلم. "أيمكنك استدعاء الخدم، يمكنهم فتح غرفة الضيوف وتجهيز السرير له هناك. قد لا يجد الرجل المحترم ذلك مريحًا جدًا…".

واضطر للتوقف عندما سمع ما تقوله كارونا.

"وماذا لو وجدها الرجل المحترم غير مريحة بعض الشيء وهو بعيد إلى هذه الدرجة عن منزله؟" وابتسمت.

نظر بيمال بابو إلى كلانا بدهشة. "ماذا تقصدين! أتعرفينه؟"

"بالتأكيد أعرفه، معرفة قليلة فحسب"، وضحكت كارونا.

"ما أغرب هذا".

"أي غرابة في هذا، ألا يمكنني معرفة شخص ولو لم تعرفه أنت! لقد تزوجتني لثلاثة أعوام سابقة فقط. أتظن أنني قضيت السنوات العشرين السابقة عليها في حبس انفرادي؟"

"لكن ألا يمكنك تجنب اختيار هذه العينة من حياتنا الزوجية لعرضها على الرجل المحترم وهو لا يزال ينتظر خارج المنزل في البرد،" ضحك بيمال بابو أيضًا.

تظاهرت كارونا بالعودة إلى الكلام الجاد. "أوه، تريده أن يستنتج من هذا أنني لا أكف عن الشجار معك إذن".

ولأن هذا بالفعل كان الوقت الذي أقول فيه شيئًا بدوري، فقد حاولت الضحك كذلك. "البيع مهنتي يا بيمال بابو، لن تخدعني بالعينات".

إن طريقة كارونا الأولى في مجاذبة أطراف الحديث بعد كل هذه السنين أثارت في نفسي شكًا في صدقها.

بعد طول انتظار، بينما كنت أفكر في إمكانية القيام للبحث عنها، أتت كارونا. ومن تلقاء نفسها أجابت عن السؤال الذي كنت سأسألها إياه عندما رأيت هندامها. "عليّ الخروج لبعض الوقت. أترغب في الخروج معي؟"

قلت وأنا أتناول شالي من رف الملابس "رغباتك أوامر. لكن إلى أين تذهبين؟"

"سأشتري أغراض البقالة"، ابتسمت كارونا.

"أغراض البقالة؟" سألت مندهشًا.

"إنني أتسوق بنفسي في كثير من الأحيان" وابتسمت مجددًا. "صحيح أن النساء هنا لا يذهبن للتسوق بأنفسهن عادة، إلا إذا كن من الأسر التي تقضي عطلتها هنا، لكني لا أهتم بمثل هذه القيود، عندما لا يكون زوجي هنا أخرج بنفسي مع الخادم".

"أليس بيمال بابو هنا اليوم؟"

"أوه، نسيت أن أخبرك! لقد أرسل أنه مضطر للبقاء بسبب عمل مهم. ولن يعود اليوم".

قالت كارونا هذا كله بعفوية شديدة. لكني توقفت وسط الطريق. "ماذا نفعل إذن؟"

"تبدو مهتمًا. أتعتقد أنك لن تنال الرعاية في غيابه؟" ولعبت ابتسامة شقية جذلى على وجه كارونا.

"ليس كذلك يا كارونا. كنت أفكر…" قلت دون ابتسامة.

"إذا بدأت تفكر هنا في منتصف الطريق، سأضطر لاستئناف السير وحدي".

فاضطررت أن أمضي معها، في صمت. كانت الطرق في هذا الجزء من البلدة مهجورة إلى حد كبير.

كانت المنازل قليلة وبينها مسافة كبيرة والكثير منها غير مأهول. وبالكاد كان هناك أحد يُذكر.

تابعنا السير في صمت. وبعد نظرات قليلة مني، ابتسمت كارونا مجددًا. "ما كل هذه الجدية؟ فيم تفكر؟"

"أفكر في المغادرة اليوم".

"لكن سيارتك لن تكون جاهزة بهذه السرعة".

"يمكنهم إرسال السيارة فيما بعد. سأستقل القطار".

"ولم التعجل في الرحيل؟ مم تخاف؟"

توقفت مجددًا في وسط الطريق. "أخبرتك بذلك، ألم أفعل؟ أنا أخشى نفسي، إنني لا أثق بها".

هذه المرة ضحكت كارونا بصوت مرتفع. "ماذا لو لم تكن تثق بها؟ لن يضر هذا أحدًا".

لا، لم أكن أطيق هذا أكثر. فقدتُ سيطرتي على نفسي فجأة وتناولت يدها. "ماذا لو أصابك أنت الضرر…".

لم تسحب كارونا يدها. لكنها قالت وهي تستخف بعاطفتي بابتسامة هازئة: "لكن كيف؟ إنني أثق بنفسي في النهاية".

"ألا يمكن أن تتحطم هذه الثقة في لحظة يا كارونا؟" قلت وأنا أترك يدها. "ألا يمكن أن تأتي موجة وتقطع حبال مراسيك؟" 

كانت عين كارونا لا تزال تحمل تلك الابتسامة البهيجة المستغلقة. "لا علم لدي، لكن من ناحية أخرى فأنا لم أتعرض للاختبار أيضًا".

لا أعرف ما الذي قد أكون قلته بعد ذلك، لكن الطرق كانت تمتلئ بالناس. كنت مجبرًا على الصمت.

إن كارونا التي ذهبت للتسوق في الصباح كانت شخصًا مختلفًا تمامًا عن كارونا التي جلست أمامي في غداء فاخر. كانت ترتدي ساريًا بحواشٍ حمراء عريضةٍ على قميصٍ داخلي أبيض، أقبلت لتجلس بالقرب مني، وشعرُها المُرسَلُ المُبلل ينسدل على ظهرها. لم تبدُ رائعة إلى هذا الحد من قبل على الإطلاق.

"فيم تحدق؟ ألم ترني من قبل؟" ابتسمت وهي تهوّي بمروحةٍ نحوي وأنا آكل.

"أشعرُ كأنني لم أرك من قبل فعلًا".

"لعلك بالفعل لم ترني"، قالت بابتسامة غريبة، ثم سألت "أخبرني عن شيء، فيم فكرت وأنت تراني أتسوق؟"

"كنت أفكر أنك اكتشاف جديد لي".

"حقًا! لكن اعذرني، لا تُنكر مستحقات كولومبوس".

"ماذا لو كانت مستحقاتي أسبق من كولومبوس؟"

"ولو، لا توجد وثيقة تدل على ذلك"، ضحكت كارونا بصوت هادر على حسها الفكاهي.

أكلتُ في صمت لوقت طويل. ثم قلتُ "لا يُثمّن الجميعُ الوثائق. ما أسهل إشعال الوثائق".

لم تبتسم كارونا هذه المرة. نظرت إلي نظرة غريبة لوهلة، ثم نهضت فجأة وهي تقول "نسيتُ تحليتك".

أحضر لي التحليةَ الطباخُ وليس كارونا. لكن بعد بضع دقائق أحضرت لي بنفسها بعض التنباك في غرفتي واندفعت تقول "إذن ستغادر في قطار المساء؟"

نظرتُ إليها باندهاش. هل كنت أتخيل أم أن مسحة قلق كانت على وجهها؟

أجبت: "حسنٌ جدًا، سأفعل" .

"ماذا تعني بقولك (حسن جدًا، سأفعل؟) كما لو أنني أُجبرك على الذهاب. لقد طلبتُ منك البقاء، وأنت الذي أصرّ على الرحيل". كانت لهجتُها الآن فظّة لا تحتمل شكًا.

"هل تعتقدين أنني ألومك؟" ابتسمتُ. "يجب عليّ الذهاب ببساطة".

ابتسمت كارونا أيضًا، ربما بقليل من الخجل. "أعرف، ما الذي قد يُبقيك في مكان كهذا؟ لكن اسمع، تعرف أنه لا يوجد غير ذلك القطار. في الساعة السادسة والنصف بالضبط، لا تنس".

لم أكن بحاجة إلى بذل أي مجهود لئلا أنسى. قبل أن يحل المساء كانت كارونا قد أعدّت كل ما يلزم لحزم أمتعتي، وإبلاغ ورشة السيارات، وطلب عربة تُقِلُّني إلى المحطة. وتحسبًا لأي عراقيل خلال رحلة الخمس عشرة دقيقة إلى المحطة، رافقتني إلى العربة قبل الموعد بساعة، وعندئذ فقط اطمأنت. لم تتح لي حتى فرصة قول شيء طوال ذلك الوقت.

وبينما كنت على وشك المغادرة، جاءت إلى العربة لتقول "الله أعلم بما تظنه بي. ربما تظنني أستميت في التخلص منك، أليس كذلك؟"

"إنه مصدر عزائي الوحيد".

"إذا كان العزاء سهل المنال إلى هذه الدرجة، فكيف لك أن تعرف العزاء الحقيقي أبدًا؟" وضحكت كارونا.

وغاب صدى ضحكتها في طرطقة العربة المبتعدة.

كان الأفضل لهذه القصة أن تنتهي عندئذ، لكنها لم تتنه. 

عندما وصلت إلى المحطة كان أمامي وقت طويل حتى يحين ركوب القطار. ولما لم أكن أستطيع تعجيل الساعة بعد إيداع أمتعتي في غرفة الانتظار، رحت أجوب جميع أرجاء الرصيف على غير هدى، ووقفت أمام كشك الكتب أفكر في ما سأشتريه من بينها. وفجأة دب الذعر في أوصالي.

"كارونا! ماذا تفعلين هنا؟"

قالت بابتسامة وانية: "ليس شيئًا محددًا".

لا أدري إذا ما كان ذلك بسبب النور الشاحب على الرصيف أم لأنها كانت تشعر بالفعل على ذلك النحو، لكن كارونا بدت عديمة الحيلة.

انصرفتُ عن الكشك وقلتُ لها "إنني لا أفهم سبب وجودك هنا يا كارونا".

فابتسمت مجددًا. ثم قالت وقد بدت جادة فجأة "لقد أحرقتُ الوثيقة".

صرتُ في حيرة خالصةٍ من أمري، وحدّقت بها بغباء لوهلة. ثم قلتُ بانفعال: "هل تعرفين ما الذي تقولينه يا كارونا؟"

"أهو مستحيل، ما أقوله؟ ألا يمكن أن تأتي موجةٌ وتقطع حبال مراسيك؟" اكتسى صوت كارونا بلهجةٍ حميمية. ودنت مني، ثم رفعت عينيها إلى عيني لتقول "ألا يمكنك أخذي بعيدًا؟ ألن تفعل؟"

ذُهلت. "آخذك بعيدًا… أنا…".

"هل تتساءل إلى أين تأخذني؟ أينما شئت".

لم أتمكن من قول كلمة. وشعرتُ فقط بالاضطراب يتفاقم بداخلي.

"أعلم ما ينتظرك، الصعوبة والمهانة. لكني مستعدة عندئذ لكل ذلك أيضًا، إنني أخاطر بكل العار والاستنكار في العالم لآتي إليك".

حدّقت نحوي كارونا في كرب شديد. ماذا أخبرها؟ ماذا يمكن أن أقول الآن؟ كنت قد فتحت بطَيشٍ حواجز الفيضان، فكيف أرفضها الآن؟

"لكن هل فكرت في ذلك بشكل كامل يا كارونا؟ هل ستتمكنين من التصدي للعاصفة التي ستندلع؟ قد يصيبنا التعب الشديد من مقاومتها حتى ننتهي ذات يوم إلى كراهية بعضنا".

كانت كارونا لا تزال تنظر إلي بحدة، لكن بالتدريج -بالتدريج الشديد- ظهرت على وجهها ابتسامة هازئة.

"شكرًا على نصيحتك القيمة. كانت حبالُ المرسى لتنفَكّ في لحظة أخرى". ضحكت كارونا هذه المرة بصوت مرتفع.

نظرتُ إليها مندهشًا. هل أعدّت الأمرَ برُمَّتِه لتهزأ بي فحسب!

"ذاك، جرس قطارك قد قرع" تحدثت كارونا بطريقة معتادة تمامًا. "أوشك قطاري على الوصول أيضًا".

"قطارك!"

"خالتي وعائلتها قادمون من كالكوتا. وهم لا يعرفون الطريق إلى منزلنا. زوجي ليس هنا أيضًا، لذا أتيت بنفسي. خاب أملك تمامًا؟"

دون كلمة أخرى انطلقتُ إلى الجسر لأنتقل إلى الرصيف الآخر. وآخرُ ما رأيته من كارونا كان انحناؤها على الكتب في كشك المحطة.

هل جاءت إلى المحطة للقاء خالتها فعلًا؟

لن أعرف أبدًا.


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه