إلهي، لقد انبرمَ القفصُ طائرًا وفرَّ عنّي مُدبِرًا.
مولاي، إنّ روحي كَدِرةٌ، تنوحُ طاردةً الموتَ من أطرافها، وتسخرُ متلويّةً من أوهامي!
أليخاندرا بيثارنيك: أكتب لأمسح عن قلبي الوجل (قصائد)
ترجمة: سِوار قوجه
من دواوين متفرقة
في الخامس والعشرين من ستمبر من عام 1972، غادرت أليخاندرا بيثارنيك، الشاعرة والكاتبة الأرجنتينية، الحياة منتحرةً بجرعةٍ مفرطة من عقارٍ مهدّئ. وعلى أعتاب عامها السادس والثلاثين، رمت بنفسها في أحضان الموت، الموتُ الذي عاينته بافتتانٍ طفولي على مدى سنين وقد أطلقت عليه تسمياتٍ لا تُحصى.
كان ما سطّرته في رسالتها الأخيرة، قُبيل انتحارها، هو التالي:
"وما رغبت في الارتحال إلّا إلى الهاوية".
وفيما يلي، قصائد متفرقة لأليخاندرا بيثارنيك.
المترجم
انبِعاث
إلهي، لقد انبرمَ القفصُ طائرًا وفرَّ عنّي مُدبِرًا.
مولاي، إنّ روحي كَدِرةٌ، تنوحُ طاردةً الموتَ من أطرافها، وتسخرُ متلويّةً من أوهامي!
فما عساي فاعلةٌ بكلّ هذا الخوف؟!
ما عساي فاعلةٌ بكلّ هذا الخوف؟!
لقد انطفأ النور المتلألئ في ابتسامتي
وما عادت الفصولُ أكثر من حماماتٍ بأجنحةٍ محترقة.
يداي عاريتان
وقد هاجرتا إلى حيث يلقّن الهلاكُ موتاهُ ثقافة الحياة.
إلهي، بات الهواء يجرحني.
يلفّني مُحمَّلًا بوحوشٍ تمتصّ دمي.
إنّها لمأساة، إذ قد حلّ الوقت الجافّ الأجرد.
حلّت لحظة السكوت والإنصات إلى نشيجِ الخطّائين.
حلّت اللحظة التي أتأمّل فيها أسمائي وقد خنقها العدم.
إلهي، أبلغ من العمر عشرين عامًا، وكذلك عيناي.
لكنّها خاويةٌ صامتة.
إلهي، لقد استنزفتُ عُمري في لحظةٍ واحدة.
وها قد انتُهِكَت حرمة البراءة
فما عاد لي من عمرٍ، وما كان لي أيّ عمرٍ من الأساس.
فكيف أقاوم إغواء فكرة أن أغادر الحياة في محضر مرآة، لأتلاشى وأُبعَثَ في لجّة البحار حيث ينتظرني فُلكٌ جليلٌ متلألئ الأضواء.
وكيف أقاوم إغواء فكرة أن أقطّع أوردتي جاعلةً منها معراجًا يوصلني إلى الجانب الآخر لليلِ الروح.
لا تولَدُ الخواتيم إلّا من رحم البواكير، وكلّ الأمور ستبقى على حالها ولا من جديد.
لا الابتسامات المُنهَكة، لا الهموم، لا الأسئلة المحفورة على الأحجار، لا اللفتات العقيمة التي تحاكي ما يُسمّى بالحبّ.
إذ كلّ أمرٍ سيبقى على حاله.
ومع ذلك، تصرّ ذراعاي على احتضان العالم بأكمله. ذراعاي الجاهلتان لحقيقة أن الميعاد قد فات!
إلهي، فلتعلُ بنعشي..
أذكر طفولتي
عندما كنتُ عجوزًا طاعنةً تذبل الورود في يديها مكسورة القلب من شدّة الغبطة!
أذكر الصباحات التي غابت عنها الشمس.
أذكرها بمنطق الطفلة وكأنها البارحة، وقد مرّت عليها قرونٌ متعاقبة!
إلهي، لقد انبرم القفص طائرًا التهم آمالي!
إلهي، لقد انبرم القفص طائرًا، فما عساي فاعلةٌ بكلّ هذا الخوف؟!
أنا أكون
جناحاي؟
ما جناحاي إلّا تويجاتٌ بالية!
بنات أفكاري؟
كؤوسٌ صغيرةٌ مترعةٌ بنبيذٍ مرِّ المذاق!
حياتي؟
فضاءٌ فارغٌ مُصمّمٌ بعناية!
جسدي؟
ما جسدي إلّا جرحٌ مستكينٌ على كرسيّ!
تقلّباتي المزاجيّة؟
أجراسٌ طفوليّة!
ظلّي؟
عدمٌ مستتِر!
عيناي؟
آه، إنّ عيناي مِزقتان من الأزل!
السيّدة ذات العينين اليقظتين
في السّاحة، تداعب الحياة فتاةً ما كنتها يومًا
وها أنا ذا..
تتراقص الظنون على محيّاي البسّام!
الكلّ يخبرني أنّ ما حدث قد حدث فعلًا..
كلّه إلى زوال
كلّه إلى زوال
تفتح روحي نافذتها:
أيّتها الحياة، ها أنا ذا!
يا حياتي:
يدوي صدى قلبي المستوحد الكسيح في غياهب العالم
لكنّي، أرغب في أن أعاين نفسي وهي على قيد الحياة
ولكنّي، لا أرغب في ذكر الموت أو يديه الوحشيتين.
امرأةٌ واقعةٌ في الحبّ
هذا الهاجس المحزون الذي يُدعى؛ وجودًا
هذه النزوة الكنينة التي تُدعَى؛ حياةً
هذه الحياة تجرّكِ إلى قاعها يا أليخاندرا، لا تُنكري!
اليوم ألقيتِ نظرةً إلى وجهكِ في المرآة
وقد بثَّ ذلك في قلبكِ الحسرة والوِحشة
دوّت الأنوار، وصدح الهواء
إلّا إنّ محبوبك ما عاد..!
ستبعثين الرسائل، ستبعثين الضحكات
ستلوّح يداكِ أملًا في عودة محبوب القلب
تصغين إلى الأصوات المغوية الممسوسة التي انتزعته منكِ..
على متن فُلكٍ يحضنه زَبَد البحر والطيور..
حيثُ خبى رنين الضحكات
ألا تذكرين العناق الأخير؟!
لا، لا التياع وحرقة
فلتبكي ضحكًا وحشيًّا دافنةً مقلتيكِ بين طيّات المنديل
وأوصِدي وجهك كي لا يعلم مخلوقٌ أنّكِ امرأةٌ حطّمها الحبّ..
تُشقيكِ النهارات
وتفترسكِ الليالي
ما الحياة إلّا جرح، جرح!
أيّتها الفتاة الحزينة، فيمَ البؤس؟!
أيّتها الفتاة الحزينة، لا بؤسَ بعد اليوم!
قصيدةٌ إلى إميلي ديكنسون
على الضفّة الأخرى للظُّلمة
يرقد اسمها
ويرقد حنينها المكتوم إلى الحياة
على الضفّة الأخرى للظُّلمة..
أصوات نواحٍ تملأ الهواء
أصواتٌ تيمّم شطر النور
وهي تحلمُ بالأبدية..!
ابنةُ الرّيح
ها هم قد قدِموا..
ها هم قد اجتاحوا الروح..
يفوحون برائحة الخفّةً
يفوحون برائحة الفقر
يفوحون برائحة الدموع
لكنّك تربين الخوف والعزلة
كمخلوقين ضعيفين ضائعين في عرض الصحراء..
ها هم قد قدِموا
ليحرقوا سنوات الأحلام
فما حياتكِ إلّا وداعات..
إلّا إنّك تتقبّلين ذاتك برحابة صدر
كشيطانةٍ مسّتها حمّى الحياة
شيطانةٌ تعثر على ذاتها
لخلوّ الفضاء من الكلّ، إلّاها!
تبكين وتتنهّدين
وتفتحين قفص قلبك فاسحةً الفضاء لأمنياتك
وإذ بقلبكِ أكثر حلكةً من الليل
إنّ الفضاء لقفرٌ موحش
تموتُ فيه الكلمات منتحرةً لشدّة وحشتها!
هِبة
الاسم الذي اعتاد مناداتي به قد ضاع..
وجهه يطوّقني
كصوت خرير الماء في الليالي
كماءٍ ينسكب في ماء..
وما تبقّى من ذكراه إلّا محيّاه البسّام..
أجملهم
هم الراحلون تحت جناح الليل..
آه، كم أعشق رحيلك الأبديّ
أنتَ، ستظلّ ظلّي حتى نهاية الزمان!
شذراتٌ من صمتٍ مُطبِق
تثقِل اللغة عليّ كنساءٍ مستوحداتٍ منكوبات، ينُحنَ مستعيراتٍ صوتي، صوتي الذي أسمعه قادمًا من البعيد.
وهنالك في المطارح النائية، حيث الرمال السود، تقبعُ سليلةٌ كثيفةٌ من موسيقى توارثناها.
فما هو الموتُ الحقّ؟
ما رغبت إلّا في أن أوقد مصباح روحي بضوءٍ استجررته من حلكتي الروحية نفسها!
تضمحلّ ذكرى الأشجان، والفتاة المتّكئة على ذاتها تثوي إلى قلبي، مرتديةً قناعها الذئبيّ.
هي فتاةٌ ما عادت قادرةً على المضيّ قُدُمًا، فاستجدَتِ الوهيج، واحترقنا سويًّا!
عندما تتعرّى اللغة، والكلمات ما عادت تحميني. حينئذٍ أرفع صوتي ناطقًا.
والنساء المحتميات بصوتي، متّشحات بأثوابٍ حمراء وقد تاهت أقنعتهن. ومع ذلك، سيرجعن لينُحن عند أقدام الزهور.
ليس الموت بأبكم. أصغي إلى بكاء النائحين يسدّ صدوعَ الصمت المطبق. أصغي إلى نواحك العذب وارِفًا حاملًا معه البهجة إلى صمتي الرماديّ.
في الليل، أصغي إلى نواحِ الماء الباكي
في الليل، أصغي إلى نواح الماء الباكي.
في الليل، أحيكُ ظُلمتي الداخلية وأصنع نهاراتي التي تنوحُ باكيةً لأنّها خُلِقت من دموع لياليّ.
في الليل، أصغي لنداءٍ ما يبتغيني.
في الليل، تتخلّى أنتَ عنّي على مهل، كالماء النائح الذي يتساقط على مهلٍ وينكسر!
في الليل، أخطّ رسائل من نور، رسائل تعبق برائحة الماء.
في الليل، ثمّة من يطمئنّ لحالي، وثمّة من أطمئنّ لحاله.
وما صوت الخُطى الذي يملأ الفضاء المحيط بهذا الضوء الغاضب، إلّا خليقةُ ما أعانيه أرقًا!
خُطى إنسانٍ ما عاد يتثنّى، ما عاد يكتب.
في الليل، أحدهم يتأنّى هنيهةً ثمّ يخطّ عابرًا دائرة الضوء الموجِع.
في الليل، أغرق في بحر عينيك وقد أصبحتا عيناي.
في الليل، أبعث نفسي لزيارة تلك البقعة المحتلّة في أراضيّ الصامتة. وحينئذٍ، في الليل، أرى ما يترنّح أمام ناظريّ، شيئًا رطبًا، شيئًا ابتدعه الصمتُ ليحاكي صوت نواحٍ بشريّ.
ما الفقدان إلّا صفعةٌ رماديّة، والظلمة تزداد كثافةً.
أيّها الظلام، يا كنف عيون الموتى المُطفأة. أيّها الظلام الغليظ، يا من تستنشق قطرانًا يتلاطمني قدمًا، باحثةً لي عن موطئٍ مقفرٍ هجره الدفء، كما هجرته القسوة.
في الليل، أفرّ هربًا من أحدهم. لأجد نفسي في مطاردةٍ، لأجد نفسي في حالةٍ من فقدان الذاكرة، لأغنّي أغنيةً جنائزيّة.
في الليل، أبصر فأرى أن ما المنفى إلّاي، أن ما الروح النائحة إلّا روحي.
بمقدورنا الخروج بالمصابيح بحثًا، مناقضين أكاذيب الظلال.
بمقدورنا سماعُ هدهدة الروح، وصوت الماء المنكسر في أعماق القلب المهجور.
في الليل، كلّ الليل، أسألكَ "لمَ؟!". وفي الليل، كلّ الليل، تُجيبني بـ "لا"!