بعد مخاض ليس بعسير -هكذا أخبر معلم اللغة العربية التلميذات الساهيات- وَلَدَ الفعل "كوَّنَ" أسماء مثل "كائن" "وتكوين"، وهذه المعلومة هي المعلومة الوحيدة التي استقرت بعقل فاطمة خلال فترة الدراسة كلها.

بطة خام

قصة بسمة جاهين

من مجموعة "الركض في الظلام" عن دار هن


"في السحور، هذه الفترة القادرة بين الليل والنهار، ثلاث نقاط طازجة من دم بطة مسروقة في المكان المقدر ستغير الميزان لنيل المراد"، هكذا قال. "ولكن يجب الانتباه إلى أن الدم المسروق مقدس، وعليه يجب تحمل التبعات"، هذا هو الشرط، وهكذا أضاف. ولكن فاطمة المسحورة بإمكانية تغيير قدرها لم تهتم كثيرًا لذبح بطة، فأمها تذبح الطيور كل يوم، ولم يحدث لها شيء. ما زالت كما هي امرأة بضة، أنجبت سبعة، وما زال زوجها يشتهيها. لم تعلم فاطمة لماذا لم تكن مثل أمها، أو حتى إخوتها الستة، ثلاث أخوات كبيرات وثلاثة إخوة صغار، فعلى عكس الأسرة كان جسدها ناشفًا وصغيرًا. تستنكر الأسرة تسميتها بـ "فاطمة" وتدللها "بطة"، لعدم قدرتها على التهادي بهذا الجسد، فخفة قدميها على الأرض جعلتها بلا إيقاع، هناك أسباب بالطبع لهذه البِنية، ولكن الإجابات لم تجد بعدُ طريقها إلى عقلها، ولكن مهلاً ستأتي، لا شك في هذا.

الدم البريء سيتساقط، وسيتغير معه قدرها، وهذا هو ما تتمناه. ستسرق فاطمة من عشِّ أمها بطة، وتذبحها، ثم ستأخذ ثلاث قطرات فقط، وستمسح بها على جسدها ليتكون، كما قال قارئ الفنجان. تدرك أن التكون لا يأتي إلا بقدرات سحرية خفية على البشر، هكذا سمعت النسوة منذ تكونها ببطن أمها يتحدثن. تحكي الأم وهي تتفاخر إنها ذهبت ليلًا بعد زواجها بثلاثة أشهر -وما زال التكوين لم يُبذر بداخلها بعد- إلى المبنى المهجور، حين أخبرتها النسوة بأنها يجب أن تشهق لتحمل. الشهيق لا يأتي إلا من الخضة، والخضة تكمن بما خفي عنا بالمبنى المهجور. فزِعَت الزوجة الوحيدة بالمبنى، فشهقت وحملت وأنجبت وكان الأمر.

لم تكن أم فاطمة هي الوحيدة الواقعة تحت تأثير سحرية المكان، فحين تتكور الإشاعات كنتاج لتفاعل اجتماعي نشط، يتداول أهالي المنطقة جالسين على مصطبات البيوت حكايات عن المبنى المهجور، ولكن المبنى المهجور لم يعد مهجورًا، تحول بقدرة قادر -سعيد وأبنائه- إلى مصنع لإنتاج الملابس الداخلية النسائية وملابس الأطفال، ففجر مشاعر مضطربة بين أهالي المركزين: القرية وأطراف المدينة. استبشرت فاطمة وعدد من الفتيات عندما أشيع أن المصنع يطلب عاملات، وذهبت كما ذهبن. أما الأهالي الغاضبون من التغيير ومن تدمير المقدس فاستمروا في إطلاق اسم المبنى المهجور بدلًا من الاسم المسجل به "مصنع سعيد وأبنائه للمصنوعات القطنية". وبغض النظر عن طول الاسم، مَن سعيد وأبناؤه بأي حال؟ هم المجهولون الذين ابتاعوا مبنى مهجورًا في قطعة جغرافية مجهولة، ولم يكلفوا أنفسهم ترميمه، فتركوا البقع الخضراء على الحائط كما هي، والتشققات الأسمنتية في السقف الذي تتساقط منه نثرات جبسية كما هي. كل ما فعلوه أنهم غيروا فقط في الأرضية، أزاحوا البلاطات الموجودة التي كانت تسبح فوق ماء عطن، وفرشوا الأرضية برمال، أصبحت في ما بعد مأوى للعقارب والحيات، لذلك كانت الفتيات -بالإضافة إلى حذرهن من دهس أصابعهن في الماكينات وتغطية أنوفهن من أنسجة القطن المتطايرة، وحماية أردافهن من لمسات الرجال- يحرصن أيضًا على حماية أرجلهن من العقارب والحيات، وعلى العموم الحذر مطلوب في كل الأوقات، وأكل العيش يأكل في العياش، وهذه سنة الحياة، ولا مجال للشكوى هنا.

بخفة قدميها تسرع فاطمة في أول يوم عمل، تمنت الالتحاق بالمكان، وقد كان. لم يقترح أحد من رجال البيت أن يصحبها، وهي لم تهتم، فهي تحفظ الطريق إليه، كونه حلقة وصل بين قرية عائلتها ومسكن أسرتها على أطراف المدينة. من منزلها إلى المصنع تتوارى متباعدة عدة بنايات أسمنتية صغيرة من طابق واحد، تشبه منزلها، غير أن منزلها بطابقين، وسلم لعشةٍ صغيرة تربي بها الأم طيورًا تتاجر فيها. يتفرع الطريق عند الوصول إلى المصنع إلى طريق رئيسي ممهد للسيارات، وطريق مخفي غير ممهد للقرية، تظلله بالشتاء أشجار البرتقال واليوسفي والأتربة وسحابة سوداء من قش الأرز المحروق، وفي الصيف تقف الأتربة والسحابة وحيدتين منتظرتين قدوم الشتاء. 

الآن لن تكتفي بالتمتة من بعيد، بل ستغرف من السحر كما تريد. تردد فاطمة من السر الموضوع فيها: "كائن كون التكوين"، وتتخطى بوابة المصنع بساقها اليمنى. ولنفهم فاطمة وتعويذتها أكثر، يجب أن نعود بالزمن ثلاثة أشهر، قبل أن تترك دراستها الإعدادية. فبعد مخاض ليس بعسير -هكذا أخبر معلم اللغة العربية التلميذات الساهيات- وَلَدَ الفعل "كوَّنَ" أسماء مثل "كائن" "وتكوين"، وهذه المعلومة هي المعلومة الوحيدة التي استقرت بعقل فاطمة خلال فترة الدراسة كلها. لماذا استقر هذا الفعل بإخوته في وعيها؟ السبب الرئيسي هو سؤالها الدائم عن موعد تكون صدرها وردفيها، مثل زميلاتها وأخواتها، فبالرغم من أن الأمر كان طبيعيًّا بالنسبة إلى بقية الفتيات، لم يكن ميسرًا لها، ولكن جملة المعلم أشعلت بها الأمل. يعود انتباهها للحظة مع نبرة المعلم المنخفضة: "التكوين يلزمه حذر، والحذر واجب". ولكن في سبيل التحقق والتكون لا يهم الثمن.

يمر شهر على عمل فاطمة بالمصنع، وسيمر شهر آخر أكثر سوادًا من الشهر الذي سبقه. السبب الرئيسي -بعيدًا عن العقارب والحيات وأيادي الرجال وأنسجة القطن وإبر الماكينات- هو السيدة التي تجلس عند باب المصنع، السيدة التي لا يعرفون لها اسمًا، ولا يعرفون لها أصلًا، وعَدَّتْهَا الفتيات جزءًا من سحرية المكان: الخضرة التى تلون به جفونها وعقدها الزجاجي الأزرق مع خصلة شعرها الأبيض التي تقع من الطرحة السوداء الشفافة التي تضعها على رأسها، وتتركها تنسدل حتى صدرها، ترتدي جلبابًا أسود، يشف بسعته عن جسد صغير. تجلس السيدة -سنطلق عليها هنا اسم "فهيمة" لأنها تعي وتفهم ما لا يفهمه إلا قلة مختارة- عند البوابة، ومعها قفة بها لبن رائب وجبن قريش وزبدة وقشدة وبيض مسلوق وفطائر وعسل. لم تشترِ فاطمة منها شيئًا في الشهر الأول، ليس بسبب المال وحده، ولكن بسبب اعتقاد مزروع بداخلها بُذر من حكاية رددتها أمها عليها بأنها -الضمير هنا يعود على فاطمة لا الأم البضة- كانت على وشك الموت وهي صغيرة عندما التهمت فطيرة بالقشطة وحدها، ثم توسعت الحكاية لتشمل كل الأطعمة عدا الخبز الناشف والفول الأخضر والجرجير، وهو ما كانت فاطمة تأكله لخمسة عشر عامًا. 

تناديها فهيمة عندما تشم رائحة المال بيديها:

  • تعالي يا بت يا ممصوصة، خلي الجشطة ترمّ بدنك وتنفخك شوي!

كالمسحورة تسير فاطمة إليها، تاركة -بغير وعي- اعتقاد الموت جانبًا، وتشتري منها فطيرة وزبدة وقشطة ولبنًا رائبًا، وتجلس بجوارها. تفتح طبقات الفطيرة وتمسحها كلها بالزبدة، ثم تضع القشطة، فتضيف فهيمة بعض القطرات من العسل الأبيض إكرامًا للممصوصة. تكوِّرُ فاطمة الفطيرة إلى كُرَاتٍ، وتبلع الكرات باللبن الرائب، وفي دقائق تكون قد انتهت. لا تتحرك فاطمة بعد الأكل، وكل ما تفعله هو التحديق بسكون في قفة فهيمة، والتساؤل عن كيف عاشت مع هذا الجوع! في طريقها إلى منزلها، تنتبه إلى أنها لم تمت بعد. هل نسيها الموت أم أنه ينتظرها؟ على عتبة البيت تقرر ألا تخبر أمها، وعندما تطلب منها الأم الراتب، تعطيها إياه خائفة، وهو الفعل الذي ستندم عليه الشهر القادم، عندما لا يأتيها الموت، وعندما تمر أمام قفة فهيمة، وعندما تتحدث الفتيات بالمصنع عن قارئ الفنجان الذي يحقق الأماني، وعندما ترفض أمها أن تعطيها أي مال من راتبها بلا أي حجة تذكر كي تبرر هذا الرفض. 

يمر الشهر بمُرِّهِ ومُرِّهِ، فلا حلو فيه، وفي يوم القبض، القبض الذي لن تنال منه أمها قرشًا، تجري على فهيمة وتحتضنها وتنهل مما تصنعه يدها. تمتلئ، وتشعر بالقوة ولكنها لا تشعر بالشبع، فتأخذ معها فطيرتين محشوتين زبدة وقشطة لتأكلهما سرًّا في عِشَّة الطيور. تساعدها الفطائر ليلًا وهي تفكر في كلام زميلاتها. ففي المصنع تتحدث الفتيات عن مفعول السحر لهذا القارئ، مفعول ليس كغيره من القراء، ولكن الثمن غال، ويجب أن يُدفع في الحال، ولكن لا بأس، مع الوقت ستتعلم فاطمة الطرق النسائية لتدبير الأموال اللازمة لشيء ما، وستذهب إلى القارئ، الذي سيخبرها بسر البطة، وستتكون؛ سيمتلئ ردفها، وسيتكور صدرها بعد تسطح، وسيصبح لها إيقاع في التهادي كما أخبرها.. "الإيقاع يأتي بعد التكون". إذن سيتم إثبات القدرات السحرية عما قريب، وسيتبقى خطوات على التحقق الكامل. تجلس جوار فهيمة التي توسعت بتجارتها بعدما اكتسبت جمهورًا من العاملات الجائعات بعد عشر ساعات عمل، فأدخلت أصنافًا جديدة على تجارتها كالكسكسي بالسكر والكسكسي بقوانص وأجنحة الفراخ والمصرودة بالقشطة والسمن البلدي. بالإضافة إلى النَفَس الفلاحي في أطعمتها، لكن أسعارها هي ما جذب الفتيات، فشعارُها "الرزق في المكسب القليل" كان يتماشى مع الهالة الأمومية المعطاءة حولها. تجلس "بطة" وتمصمص جناح دجاجة، وتحكي لفهيمة كيف أبدعت أمها هذه المرة في تنفير العريس الثالث.

- الولية دي مش حاتحلّ عن جتِّتي غير لما أفقعها عمل يهد اللي جابوها.

تهبُّ نسمات تحمل رائحة البرتقال تلطف وجه "بطة" الساخن من الانفعال ومن الدهون المتراكمة بالخدين، فتُذَكِّرها بقدوم الشتاء. تغمض عينيها بينما يتسلل إليها شعور أن كل شيء سيكون بخير. تخبط فهيمة بيديها على فخذ "بطة"، وتخبرها بأنها ذاهبة بعد الغد "الاثنين" إلى قرية بالجوار، لكي تُحَنِّئَ عروسًا هناك -عمل بجانب أعمالها الكثيرة- وتسألها إذا تريد أن تأتي معها لتشاهد العرس. تلمع عين "بطة"، فهذه فرصة مناسبة لاصطياد عريس.

من خبرات الفتيات العالمات بفنون الجسد، علمت "بطة" أن اللون الأحمر هو طريقها لإغواء عريس محتمل. الخطوات أمامها واضحة: تحتاج إلى فستان أحمر، وملابس داخلية حمراء، وطرحة حمراء، أما خدودها فستتكفل بحُمرتها الدهون المتراكمة. استعارت فستانًا أحمرَ مطرزًا بـ(ترتر) ذهبي من زميلة لها بالمصنع في نفس حجمها، بعدما حلفت أغلظ الأيمان إنها ستعيده لها بغير خدش، وسرقت من المصنع ملابس داخلية حمراء، واضطُرَّت إلى شراء طرحة حمراء، سترتديها فوق طرحتين، كي تزيد من حجم رأسها، حسب الموضة التي وصلت إليها بعد سنوات ضوئية. 

تتحنَّأ العروس وترتدي فستانها الأبيض المنفوش وتضع ألوان قوس قزح على وجهها، وترقص على المنصة كملكة انتصرت على الرفيقات. تتهادى "بطة" حتى ساحة القتال/تجمهر الفتيات. يغيب لون فستانها الأحمر وسط حمرة فساتين الفتيات، ويختفي صدرها وأردافها وسط صدورهن وأردافهن. تبتعد منهزمة، وتقف تحت لمبات نيون. تقع الإضاءة عليها، فتظن أنها إلَهة بسبب الهالة المضيئة التي تزيدها بهاءً، خاصةً بعدما تنتبه إلى نظرات ثلاثة شبان بثلاث هالات مختلفة: الثروة والصياعة والوسامة. تعرف في الليل في أثناء حديثها مع فهيمة أن الهالات على حق: فأولهم يمتلك مبنًى أسمنتيًّا له وحده بعدما ماتت أمه وتزوجت أخَواته، وثانيهم يعمل بإيطاليا، وثالثهم يملك الوجه الساحر. 

تحاول "بطة" في الليل التفكير من تختار، فلها حق الاختيار. الثلاثة كانوا بحلقات مضيئة، والثلاثة كانوا ينظرون إليها كأنها الموعودة. قلبُها يميل إلى الحلقة الساحرة، ولكن عقلها يخبرها ألا تترك الحلقتينِ الأُخرَيَيْنِ. وبعد حَيرة تترك -بقلبٍ مرفرفٍ- الأمر للقدرات السحرية، فأيًّا كان من الثلاثة.. لا بد أن القدرات السحرية هي ما قادته إليها، القدرات التي جذبها قارئُ الفنجان ودمُ البطِّ والمبنى المهجورُ. هي بحاجة الآن إلى بطة، ستتسلًّل بخفة مع خديها ونهديها وردفيها، وستبحث عنها فوق سطح مبنى العروس، وستسرقها قبل السحور، وستخرج من القرية مشيًا حتى المصنع، حيث ستتحد القوى، وستُسَرِّع مفعولَ القدرات، كي تنالَ هي المراد.

في السواد الذي تواطأ الليلُ وظلالُ شجرِ البرتقال وسحابةُ قش الأرز على إبرازه.. تخرج بطتان من القرية وفي الأثر ثلاثة ذئاب، يحكُّ الوبرُ القطنيُّ أنسجةَ صدرها بالقرب من المصنع، فتسمح للسعال المكتوم بالبطبطة في الفراغ، فتتردد البطبطةُ عواءً. تنتبه وقتها، كانوا الثلاثةَ وهي. تفر البطة المسروقة من يديها، ولكن "بطة" المأخوذة بالحلقات المضيئة لا تستطيع الفرار، وبعدَ دقائقَ لاهثةٍ، وثلاثِ قطراتٍ من دم بطة مسروقة في وقت السحور، تصبح الحلقات الثلاث وهي.. ثلاثَ حلقاتٍ وثلاثةَ تكويناتٍ وهي. 


** تحتفظ الكاتبة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بقصتها دون إذن منها